كتب خبير استطلاعات الرأي الجمهوري باتريك روفيني قائلاً: «رغم كل ما يبدو أنه يسبب انقسامات، نجح ترامب في تشكيل أكثر تحالف متنوع في تاريخ الحزب الجمهوري، مستفيداً من اتجاهات سياسية ستظل مؤثرة لعقود قادمة». هذا التصريح يلخص باقتضاب ما حققه دونالد ترامب من انتصار انتخابي عارم هذا الأسبوع. لكن، المفارقة أن روفيني كتب هذه الكلمات قبل أكثر من عام، حسب المجلة الأمريكية العريقة «ذا أتلانتك». ورغم خسارة ترامب في انتخابات 2020، شهد أداؤه تحسناً كبيراً آنذاك بين الناخبين السود، وخاصة بين الناخبين من أصول لاتينية مقارنة بانتخابات 2016. ووفقاً لما ذكره روفيني في كتابه الصادر عام 2023 بعنوان حزب الشعب، فإن هذا التحسن لم يكن مصادفة؛ فقد كانت السياسة الأميركية وفق " ذا أتلانتك" تشهد إعادة تشكيل جذرية تتجاوز الخطوط التقليدية التي كانت تقوم على العرق والثروة، لتظهر خطوط انقسام جديدة ترتكز على التعليم والثقة بالمؤسسات. ◄ نظام حزبي جديد ووفقاً لروفيني الذي حاورته المجلة الأمريكية بعد نحو 3 أيام من فوز ترامب، فإن الروابط التي كانت تجمع الناخبين ذوي الدخل المنخفض والأقليات بالحزب الديمقراطي آخذة في التفكك. وقال: «إذا استمر هذا الاتجاه، فقد يعني ذلك ولادة نظام حزبي جديد يحل محل الانقسام الطبقي التقليدي بين الأحزاب الذي ميز القرن العشرين».. وإلى نص الحوار: «ذا أتلانتك»: في يوم الانتخابات، كتبت على منصة «إكس» أن «تحالف الرئيس روزفلت يتم تفكيكه ويعاد تجميعه في الحزب الجمهوري بقيادة ترامب». هذا تصريح مثير للاهتمام،ماذا كنت تلاحظ تحديداً في البيانات نتائج الانتخابات، والتي جعلتك تعتقد أن هذا الأمر يحدث بالفعل؟ ◄ إلغاء الاصطفاف العرقي «باتريك روفيني»: أشعر ببعض الحرج عندما يتم وصف هذا التغيير بشكل أساسي ك «إعادة اصطفاف عرقي»، في الواقع، هو نوع من «إلغاء الاصطفاف العرقي»، حيث تعيد الأحزاب ترتيب نفسها وفقاً للخطوط التعليمية. إذا نظرت إلى مناطق مثل جنوب تكساس، حيث الأغلبية من أصل إسباني، كان الديمقراطيون يفوزون هناك بفارق 50 إلى 60 نقطة في عام 2012. والآن وصلنا إلى نقطة لم تعد تتجه نحو الجمهوريين فقط، بل أصبحت جمهورية بالفعل. خذ مثلاً مقاطعة ميامي - ديد في فلوريدا، التي تضم نسبة كبيرة من الناخبين ذوي الأصول الإسبانية؛ فترامب فاز بها بفارق 11 نقطة. لكن بالنسبة لي، كانت المقاطعة الأكثر إثارة للاهتمام هي مقاطعة أوسيولا، بالقرب من أورلاندو، والتي تضم مجتمعاً كبيراً من بورتوريكو. حظي الناخبون من بورتوريكو باهتمام كبير في الأيام الأخيرة من الحملة بسبب الدعابة التي ألقاها ترامب في تجمع له في ماديسون سكوير غاردن. لكن ما حدث أن ترامب فاز فعلياً في هذه المقاطعة، وهذا أمر غير مسبوق. وإذا اعتمدنا على استطلاعات الخروج، فهناك دلائل على حدوث تحول مشابه بين الناخبين السود والآسيويين أيضاً. ◄ الناخبون البيض عندما استخدم مصطلح «تحالف روزفلت»، فأنا أشير إلى مجموعات متعددة المصالح كانت جزءًا أساسيًا من طابع الحزب الديمقراطي لعقود. تجمع الديمقراطيون تقليديًا مجموعات ليست متوافقة تمامًا أيديولوجيًا لكنها تجد مكانًا لها تحت خيمة هذا الحزب الكبيرة. لكن ما نراه الآن هو أن الحزب الجمهوري يضم هذا التنوع بشكل متزايد. فمنذ 2016، تحول الناخبون البيض من المتعلمين نحو اليسار، لكن كل المجموعات الأخرى انحازت نحو اليمين. كان ذلك كافياً فقط لفوز ترامب بفارق ضئيل في 2020، لكنه الآن كافٍ لتحقيق أغلبية شعبية على مستوى البلاد. «ذا أتلانتك»: البيانات هنا لا تزال أولية، لكن لنفترض أنك على حق وأننا بالفعل نشهد انخفاضاً في الاستقطاب العرقي. أعتقد أن السؤال الأهم هو لماذا يحدث هذا. هناك تفسير، كما ترى، على أنه استمرارية لهذا الاصطفاف التعليمي الأوسع نطاقاً في السياسة لدينا. لكن هناك وجهة نظر أخرى ترى أننا وسط موجة عالمية من رد الفعل السلبي ضد الأحزاب الحاكمة. «روفيني»: أعتقد أنك محق تماماً. بالتأكيد كان هذا الانتخاب متعلقاً بالاقتصاد، وكان بمثابة انتخابات تغييرية. لكن خلف ذلك كله يكمن انقسام في الناخبين يتبلور منذ فترة. ◄ سياسات الهوية في الواقع، لست متأكدًا إن كان ينبغي وصفه فقط على أساس «فرز تعليمي». ما حدث في 2020، وأعتقد أننا سنراه مستمرًا في 2024، هو عملية «فرز أيديولوجي». هناك عدد كبير من الناخبين غير البيض الذين يُعرّفون أنفسهم أيديولوجياً كمحافظين، ورغم ذلك كانوا تاريخيًا يصوّتون لصالح الديمقراطيين. لكن ذلك بدأ يتغير في 2020. تشير البيانات إلى أن المحافظين من أصول لاتينية وآسيوية قد مالوا نحو ترامب بفارق يصل إلى 35 إلى 40 نقطة. هذا يشير إلى أن السياسة أصبحت تتشكل وفقاً لمحاور أيديولوجية. السبب وراء ذلك، في رأيي، هو أن القوى التي كانت تجذب مجموعات معينة إلى الديمقراطيين لم تعد تقيدهم بذلك الشكل. هناك عدد كبير من هؤلاء الناخبين الذين لا يروق لهم ما يعتبرونه سياسات الهوية القائمة على العرق والجنس التي يتبناها اليسار. وهذا يمثل مشكلة كبيرة محتملة للديمقراطيين. ◄ سياسات بايدن «ذا أتلانتك»: هذه هي واحدة من المحاور الرئيسية في كتابك: أن الديمقراطيين قد نفّروا الناخبين الملونين من الطبقة العاملة من خلال انحرافهم نحو اليسار أكثر من اللازم في قضايا العرق والجنس. لكن يبدو لي أن الديمقراطيين تعلموا من درس 2020. كامالا هاريس تبنت مواقف يمينية نوعاً ما حول الهجرة، وركزت على أهمية القوة العسكرية وتحدثت عن خلفيتها كمدعية عامة، مع قلة الحديث عن العرق. ورغم ذلك، شهدنا تحولات أكبر في هذه الانتخابات. كيف تفسر ذلك؟ «روفيني»: كامالا هاريس خاضت حملة منظمة وفعالة للغاية. وبصفتي جمهوريًا، كنت قلقًا إلى حد ما من أنها قد تنجح في محو الأثر السلبي المرتبط بسياسات بايدن. من الواضح أنها كانت تحاول توجيه الحزب نحو اتجاه أكثر اعتدالاً في هذه القضايا. اقرأ أيضا| ماذا يعني فوز ترامب بالنسبة للصين والشرق الأوسط وأوكرانيا؟ لكن مع تقدم الحملة، لم تتمكن من توضيح كيف ستختلف عن بايدن. في المقابل، أصبح ترامب أكثر فاعلية في تصويرها كمتطرفة، حيث بثت حملته إعلانات مثل «كامالا تؤيد الضمائر غير التقليدية، أما ترامب فهو معك»، بصوت رجل أسود. أحياناً لا يتعلق الأمر فقط بما تقوله عن نفسك، بل بالطريقة التي يستطيع الخصوم تصويرك بها. المشكلة الكبرى للديمقراطيين هي أن هناك تصوراً قوياً بأنهم تقدميون للغاية في بعض هذه القضايا. ولا أعتقد أن أي شيء أقل من «نبذ صريح» لهذه الأجندة يمكن أن يغير هذا التصور. شيء من نوع لحظة سستر سولجا الحديثة. وهاريس لم تقترب من هذا. ◄ المصالح الشخصية «ذا أتلانتك»: لكن هناك مجالاً يظل فيه الفرق بين الحزبين غير خفي، وهو الاقتصاد. الناخبون غير البيض يميلون أكثر إلى التصويت لصالح مصالحهم المادية وإعطاء الأولوية للقضايا الاقتصادية. وعندما تنظر إلى مواقف الحزبين في هذه المسائل، تجد أن الديمقراطيين تبنوا أجندة اقتصادية تقدمية للغاية، تشمل استثمارات ضخمة في الطاقة النظيفة ووظائف التصنيع، وخفض أسعار الأدوية، وتوسيع الائتمان الضريبي للأطفال للحد من فقر الأطفال. في المقابل، يتخذ ترامب مساراً معاكساً، حيث يعد بتخفيضات ضريبية ضخمة للشركات ويمزح مع إيلون ماسك حول فصل العمال المضربين. ألا تعتقد أن هذا الاختلاف يجعل الناخبين من الطبقة العاملة يميلون أكثر إلى التصويت للديمقراطيين، وليس العكس. «روفيني»: صحيح أن الناخبين من الطبقة العاملة غير البيض يميلون بشكل عام إلى التركيز على القضايا المادية. لكنني لا أعتقد أن السياسات التي ذكرتها تصلهم بنفس طريقة الوضع الاقتصادي الحالي. ربما في المستقبل، ستؤتي هذه السياسات ثمارها ويحصل الديمقراطيون على الفضل في برامجهم. لكن المسألة الاقتصادية الأهم بالنسبة للناخبين الآن هي التضخم، وهذا يمثل سُمًّا قاتلًا للحزب الديمقراطي. ◄ شخصية ترامب «ذا هيل»: هذا التحول بين الناخبين غير البيض ظهر فقط في الدورتين الانتخابيتين الأخيرتين. إلى أي مدى يعود ذلك إلى شخصية دونالد ترامب تحديدًا؟ وهل يمكن أن يستمر هذا التحول لو كان على رأس التذكرة الجمهورية شخص آخر غير ترامب؟ «روفيني»: هذا هو السؤال الأهم، لأنني أعتقد أن ترامب أدار حملة مثالية مناسبة تمامًا لهذا التحالف من الناخبين. «ذا هيل»: سأوقفك هنا، لأن الليبراليين يرون أن حملة ترامب كانت غير منضبطة إلى حد كبير، مليئة بالظلامية وكراهية الأجانب، بجانب بعض الأمور السطحية مثل تقديم البطاطس في ماكدونالدز. فما الذي جعل حملته، برأيك، فعالة للغاية في استقطاب هؤلاء الناخبين؟ ◄ صورة متناقضة «روفيني»: في الواقع، بعض الديمقراطيين قالوا إن تلك الحركات كانت غريبة ولم تنجح، لكن الواقع كان عكس ذلك تمامًا. كان ترامب بارعًا في تشكيل صورة متناقضة بينه وبين كامالا هاريس، التي ظهرت بمظهر حذر للغاية ومنضبط. بينما هو ظهر كمن يستطيع الظهور في برامج حوارية مثل جو روجان ويقدم نفسه بعفوية وتلقائية. الانتخابات ليست مجرد عملية تقييم لبرامج سياسية متنافسة أو اتخاذ قرارات عقلانية، بل هي نوع من مسابقات الشعبية وصناعة الصورة. شيء ملحوظ قام به ترامب هو أنه استطاع أن يدمج نفسه في الثقافة الشعبية من خلال تأييد إيلون ماسك وظهوره في مباريات UFC. وهكذا استطاع خلق نسخة من الثقافة الشعبية خاصة به وجذب الناخبين المستهدفين نحوها. وأعتقد أن هذا كان جوهريًا، ولا أرى أن الكثير من الجمهوريين أو الديمقراطيين يجيدون القيام بذلك. ◄ تكتيكات كلينتون «ذا أتلانتك»: ما النصيحة التي تقدمها للديمقراطيين الذين يشعرون بخيبة أمل من هذه الانتخابات ومن خسارتهم للعديد من الناخبين الأساسيين لديهم، ويرغبون في عكس هذا الاتجاه؟ «روفيني»: أعتقد أن بإمكانهم أن يستفيدوا من تكتيكات بيل كلينتون، الذي نبذ بعض التوجهات السلبية في الحزب، لكنه كان قادرًا على تقديم نفسه كشخصية تسعى للتغيير. الكثيرون خارج النظام السياسي لا يحبون واشنطن. ولسوء حظ الديمقراطيين، موقفهم الحالي، خاصة فيما يتعلق بالدفاع عن الديمقراطية ودعم المؤسسات، يتعارض تمامًا مع المزاج السائد لدى الأمريكيين الذين لديهم شكوك تجاه مؤسسات واشنطن. «ذا أتلانتك»: وضح أكثر هذه النقطة. من الواضح أن انقسام «الجامعيين مقابل غير الجامعيين» هو في جوهره انقسام «الثقة المرتفعة مقابل الثقة المنخفضة بالمؤسسات». لماذا يخسر الديمقراطيون هؤلاء الناخبين ذوي الثقة المنخفضة، وهل بإمكانهم فعل شيء حيال ذلك؟ ◄ حماية الديمقراطية «روفيني»: أفهم لماذا يركز الديمقراطيون على أهمية حماية الديمقراطية، وهذا بالتأكيد رسالة يمكن أن يوافق عليها كثير من الناس. لكن تخيل شخصًا يشعر بالإحباط والغضب ويكره كل ما يتعلق بالسياسة التقليدية. عندما يسمع هذا الخطاب، قد يرى الديمقراطيين كحزب مؤيد للنظام، كحزب لا يشاركه الكراهية وعدم الثقة، ربما ليس تجاه المؤسسات بشكل عام بل تجاه واشنطن العاصمة تحديدًا. لذلك، أعتقد أنه كان خطأ كبيرًا من كامالا أن تعود في الأيام الأخيرة من حملتها إلى الدفاع عن الديمقراطية بالتحالف مع ليز تشيني في تجمعاتها.