أصبح اسم روسيا فى السنوات الأخيرة مثار جدل واسع النطاق فى العالم أجمع سواء على المستوى الرسمى أو الإعلامى، ووسط مجتمع الخبراء والمراقبين أو حتى على المستوى الشعبى، وربما يعتقد البعض أن هذا الأمر إنما يرتبط بشكل مرحلى انطلاقا من الأحداث الأخيرة التى تجرى فى أوكرانيا، والتى مست تداعياتها ليس فقط كافة دول العالم دون استثناء بل وحياة كل مواطن على هذا الكوكب. ■ بوتين في وجدان شعبه الحقيقة أن من يمعن التطلع فى عمق أسباب انتشار شعبية روسيا وسط غالبية دول العالم والحنق لدى البعض الآخر وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة والغرب سيكتشف أن هناك تضاربا كبيرا جداً ربما يصل إلى عدم الوضوح والرؤية لحقيقة أسباب أى من الموقفين، فالدول المؤيدة لروسيا وعلى الأخص دول العالم الثالث لا تؤيد روسيا - ودعونا نتفق مع بعضنا البعض فى هذه الحقيقة - لأن روسيا دولة محبة للسلام أو دول مستعدة للتعاون بشكل صادق مع كافة دول العالم على أساس الندية وغيرها من الأسباب الوجيهة، ولكن ينبع هذا التأييد فى الأساس من رغبة هذه الدول فى التزام موقف محايد من النزاع الذى لا يعنيها بعد حالة الإرهاق الشديد التى يشعر بها غالبية دول العالم نتيجة للمواقف والسياسات الغربية الأنانية على مدار الكثير من العقود، كما أن حالة الحنق التى قد تصل إلى مستوى الكراهية لدى الغرب تجاه روسيا ليس لأن روسيا دولة عدوانية ولديها مطامع تجاه الدول المحيطة بها وتجاه أوروبا وإنما لأن السياسة الروسية باتت (فجأة) تهدد ما دأب عليه الغرب من استغلال للآخرين والادعاء بالتفرد والهيمنة على المستوى العالمى المطلق. ■ تصورات غربية لشخصية بوتين ◄ السلوك الروسي وما بين التأييد والرفض للوضع الذى تسعى روسيا لتبوئه على الساحة العالمية نجد الكثير من الدول ومراكز الدراسات تبدى اهتماما كبيرا للدراسات التى تتناول الاتجاهات المحتملة لتطور الدولة الروسية وشكلها فى المستقبل، وهذا الامر لا يعنينى كثيرا خاصة بعد مراجعة الأسس والمعايير التى بنت كل دراسة تقديرها على أساسها، حيث لاحظت بعد إعادة قراءة الكثير من الاحداث الهامة والخطيرة التى مرت بها الدولة الروسية على مدار المراحل المختلفة لتاريخها أن نتائج السلوك الروسى فى هذه الأحداث دائما ما كان يرتبط بحسابات مغايرة او متناقضة تماما لحسابات الخبراء والمحللين، فلو راجعنا معا الظروف المحيطة باجتياح نابليون لروسيا سوف نتوصل لنتيجة مفادها أن كافة التطورات المحتملة كانت توحى بحتمية انتصار نابليون ولكن المحصلة كانت هى ليس فقط دحر جيوش نابليون بل وتغيير حركة التاريخ بهزيمة الإمبراطورية الفرنسية على أيدى روسيا، كما أن مواجهة روسيا للدولة العثمانية على مدار الكثير من الجولات كانت توحى دائما بهزيمة روسيا ولكن الواقع كان غير ذلك حيث تمكنت روسيا فى العديد من الجولات من الانتصار بل وانتزاع أراضى هامة جدا من الاتراك، والأكثر من ذلك هو أن نتيجة بعض هذه الجولات مازالت تؤثر فى التاريخ المعاصر حتى الآن، كما أن المواجهة بين الاتحاد السوفيتى وألمانيا النازية ما كان أحد يتصور أن تنتهى بهزيمة منكرة لهتلر وتغيير مسار العالم والتاريخ. في كافة الأمثلة السابقة كانت روسيا لا تعتبر فى أفضل حالاتها بل إن قواتها لم تكن تؤهلها للانتصار فى أى من هذه المواجهات، وهناك أمثلة كثيرة أخرى كانت نتيجة المواجهات فيها لصالح روسيا على الرغم من أنها لم تكن بالقوة بحيث تحسم هذه المواجهات لصالحها. وعلى النقيض تماما، كانت هناك أحداث ومواجهات وكانت روسيا أو الاتحاد السوفيتى خلالها فى أوج قوته بل وتمتلك كافة مقومات النصر الأكيد ومع ذلك خرجت منها مكسورة ولم تتمكن من تحقيق النصر بل وحتى الاحتفاظ بوضعها الذى كانت عليه قبل المواجهة، وأبسط الأمثلة على ذلك هو أفغانستان (مقبرة الدول العظمى) التى خرج منها الاتحاد السوفيتى مكسورا ومن بعده الولاياتالمتحدة التى خرجت والأسلحة تتساقط من جنبات قواتها، كما لم يتمكن الاتحاد السوفيتى رغم قوته التى لم يشكك فيها أحد من الحفاظ على تماسك الاتحاد بين دوله، و فشلت قوته فى الحفاظ على تماسك تحالفه فى محيط دول شرق أوروبا (حلف وارسو)، وغيرها الكثير من الأحداث التى كان معيار المحللين والمراقبين فيها لمصادر القوة الروسية هى القوة المسلحة أو القوة التدميرية. وقبل أن نخوض معا فى السيناريوهات التى يطلقها هذا أو ذاك من مراكز الدراسات العالمية حول المستقبل المنتظر لروسيا، دعونا نمعن النظر أيضاً فى النتائج التى حققتها روسيا فى المواجهات فى أوكرانيا حتى الآن وهو ما قد يساعدنا فى استقراء مستقبل هذا الصراع، فقد نجحت روسيا حتى الآن فى الاستيلاء أو كما تحبذ روسيا وصفه ب»تحرير» مساحات واسعة جدا من الأراضى وربما تتراوح نسبة هذه الأراضى حتى الآن من 18% وحتى 27% من أراضى أوكرانيا حيث لا توجد حتى الآن إحصائيات دقيقة حول هذه النسبة وأغلب ما يجرى نشره فى هذا الصدد هو من المصادر الغربية، ولكن ما أقصده هنا هو أن العامل الرئيسى فى هذه الانتصارات والنتائج لم يكن هو العامل العسكرى او القدرات العسكرية والقتالية وإنما مدى مساندة السكان المحليين لسيطرة روسيا على هذه الأراضى وضمها إلى الأراضى الروسية. ولو راجعنا التاريخ مرة أخرى فسنجد أن السر الحقيقى فى الانتصارات والإنجازات التى حققتها روسيا فى فترات لم تكن فى أوج قوتها فيها إنما يرجع إلى عامل السكان أو الشعب الذى كان يقف بقوة وراء قيادته أو يبدى الاستعداد للذود بكل ما أوتى من قوة حتى بالنفس من أجل الحفاظ على دولته وبغض النظر عن موقفه من قيادة الدولة أو سياساتها. ■ صورة تقريبية لسيرافيم ساروفسكي ◄ 5 احتمالات خزعبيلة يعتبر المقال الذى نشره ستيفان كوتكين البروفيسور فى جامعة ستينفورد على صفحات مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية تحت عنوان «خمسة احتمالات لمستقبل روسيا وكيف يجب أن تستعد الولاياتالمتحدة لما قد يأتى»- يعتبر من أحدث الكتابات فى هذا المجال وإن انطوى على رؤية لما هو مرغوب أكثر منه لما هو قائم او واقعى، فالمقال برمته يهدف إلى تأصيل رؤى ومفاهيم محددة عن روسيا بما فى ذلك تشبيه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بالزعيم السوفيتى السابق يوسف ستالين، وهنا تناسى الكاتب أن أوجه المقارنة بين الاثنين تكاد تكون معدومة، حيث إن ستالين ضحى بالملايين من شعبه خلال الحرب بينما بوتين أهم ما يشغله هو شعبه ووضعه الحالى ومستقبله، وحتى خلال الحرب يحرص على اتباع تكتيكات تحد كثيرا من وقوع الضحايا سواء وسط قوات بلاده او المدنيين من الجانبين، كما يتحدث الكاتب الأمريكى عن تجربه يلتسين فى التنازل عن الحكم لصالح بوتين ويلمح بأنها تجربة إيجابية ويتناسى هنا أن الحالة الصحية وربما العقلية ليلتسين هى التى دفعته للتنازل عن الحكم، ناهيك عن مستوى رغبة الشعب الروسى فى ذلك، واليوم قلما ستجد من يؤيدون تنازل بوتين عن الحكم . كما حاول الكاتب عقد مقارنة بين التطور التاريخى فى فرنسا والتطور فى روسيا، مشيرا إلى أن تبنى فرنسا لمختلف الاتجاهات الفكرية خلال تاريخها كان يهدف إلى الحفاظ على وضعها كدولة كبرى وهو ما تسعى له روسيا أيضاً فى تصوره، ولكنه تجاهل أن فرنسا تتبنى كل ما هو غريب من أفكار وتقاليد كنوع من قيادة الفكر والإبداع العالمى بعد أن فقدت الهيمنة سواء خلال فترة الاستعمار أو بعدها، أما روسيا المعاصرة فهى تحرص على الحفاظ على القيم التقليدية ولا ترفض القيم والأنماط الفكرية الإيجابية الجديدة وحتى السلبى منه لا ترفضه وتبقى عليه فى الإطار الفردى الذى لا يضر بالمجتمع. ■ ماترونا موسكو - ماما موسكو ◄ الهدف الرئيسي وما قد يثير الدهشة هو أن الكاتب الأمريكى يربط بين تراجع معدلات المواليد فى روسيا وسياسات روسيا ويلمح بأن انهيار او انحسار مستقبل روسيا سوف يرتبط بالمشكلة السكانية وتراجع عدد السكان بها وتناسى هنا أن روسيا ليست وحدها الدولة الأوروبية التى تعانى من هذه المشكلة. وأخيرا يظهر الكاتب الأمريكى الهدف الرئيسى لمقاله وقد حاول إخفاءه وراء نوع من التوقعات التى تتمثل فى حتمية الفوضى فى روسيا والتى يعقبها نظام حكم جديد، ونسى الكاتب أو تعمد تناسى أن الفوضى فى روسيا هى مطمح غربى لإيجاد الفرصة المناسبة للعمل على وصول نظام جديد للحكم فى روسيا يكون من أتباع وعملاء الولاياتالمتحدة والغرب. والحقيقة أن من يتابع كافة الدراسات والكتابات الغربية التى تتناول التكهنات حول مستقبل روسيا سوف يجدها جميعا تقوم على أساس حتمية المواجهة مع الغرب وصولا إلى دحر روسيا أو نشوب فوضى ما بها بحيث تنتهى بسقوط الدولة الروسية وتقسيمها على دويلات صغيرة، لذلك سنجد أن الاستراتيجيات الغربية جميعها تقوم على هذا الأساس وهو ما يظهر أن ما يجرى نشره من أعمال لهذه النوعية من المراكز لا يرقى على مستوى التقديرات والتكهنات بمقدار نشر أعمال تعكس سياسات واستراتيجيات محددة بغرض ربما دراسة رد فعل الرأى العام عليها أو تمهيده لتقبلها. ■ يوان قديس كنيسة أوديسا ◄ سيناريوهات معاكسة وهكذا يتضح لنا أن طابع السيناريوهات ذاته يختلف من حيث المتابع أو القارئ لها، فهى تشاؤمية من وجهة نظر روسيا والمؤيدين لها، وتفاؤلية من وجهة نظر الغرب الذى يرى فى انهيار الدولة الروسية مصلحة كبرى له، لذلك سنجد أن روسيا من جانبها هى الأخرى تقدم دراسات وتقديرات مختلفة حول اتجاهات تطورها فى المستقبل، وبطبيعة الحال فهذه الدراسات هى الأخرى تقوم على أساس ما هو مأمول أكثر منه ما هو قائم على أسس التكهنات العلمية. الحقيقة أن الشعب الروسى ذاته بالغ فى مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتى السابق وربما حتى يومنا هذا فى تقدير تنبؤات العرافين ومختلف رجال الدين وربما أن هذا الامر يرتبط بالتاريخ الروسى، بما فى ذلك مرحلة من كانوا يلقبونه بالقديس راسبوتين ذى الآراء المنحرفة التى كان لها تقديرها وسط الشعب وحتى داخل القصور الملكية. ومن أهم من تنبأوا بمستقبل روسيا وأيضا على أسس المأمول وليس الواقع هو القديس الشهير سيرافيم ساروف الذى تنبأ فى حينه باتحاد كافة الشعوب السلافية وتكوين مملكة عظيمة تقهر الجميع وتسيطر على العالم وهو ما ينذر بعودة المسيح مرة أخرى ثم نهاية العالم، كما تنبأ القديس الروسى بحروب تمتد لعشرات السنين بين روسيا ودولة كبرى (تركيا فى ذات الوقت) وفقدان روسيا لمساحات شاسعة من الأراضى، وكذلك زوال فرنسا وقيام دولة جديدة وعاصمة جديدة، ورغم أن هذا القديس عاش فى القرن الثامن عشر إلا أن جانبا غير بسيط من الشعب الروسى وربما غيره مازالوا يعتقدون بصحة تنبؤاته ويترقبون تحقيقها. ◄ الرب يحميها وفي ذات السياق وفى العصر الحديث ظهرت تنبؤات شخصية دينية أخرى لا تقل احتراما ومحبة وسط الروس والسلاف وهى ماتورنا موسكو (ماما موسكو) حيث إن تنبؤاتها لمستقبل روسيا تقوم على شقين، الأول هو بقاء روسيا حتى نهاية التاريخ رغم زوال وظهور دول وشعوب أخرى وذلك على أساس أن الرب هو من يحمي روسيا وشعبها طالما يقاومون الكذب والاستفزازات، أما الشق الثانى هو أن روسيا ذاتها سوف تزول وتنقسم ما بين الأوروبيين والهنود والصينيين عندما تأتى أوقات عصيبة على شعبها بحيث يخيرونه ما بين الصليب والخبز. وما بين هذا وذاك تأتى تنبؤات يون رئيس كنيسة أوديسا والغريب فى هذه التنبؤات هو أنها جاءت بعد وفاته، حيث تؤكد ابنته والتى تخدم فى كنيسة أوديسا هى الأخرى أنه بعد وفاته بعثت روحه مجددا وجاءتها فى الحلم لتتوقع مصيرا صعبا جدا لأوكرانيا والتأكيد على أن خطا أوكرانيا يكمن فى ثقتها الكاملة فى الغرب وهى الثقة التى ستكلفها الكثير ولكن فى النهاية سوف تعترف بالخطأ وتعلن الاتحاد المقدس مع روسيا لتقوم من جديد دولة «روس القديمة». والحقيقة أن الحديث عن التنبؤات المتعلقة بتاريخ روسيا يمتد كثيرا جدا ويكتنفه الكثير من الأهواء والأغراض، ورغم أن هذه التنبؤات والتكهنات تقوم على أساس المصالح الخاصة إلا أنه لا يمكن اعتبار ذلك من قبيل النواقص حيث إن علم التكهن والتنبؤ هو علم جديد، وكونه يتعلق بالمستقبليات فلا يمكن أن نطالب من يتصدون له بضرورة الالتزام بمعايير أو حسابات أو أسس معينة لأن الموضوعات والعلم ذاته يتعلق بالغيبيات، والغيبيات لا يمكن قياسها بطبيعة الحال بحسابات تخص الواقع الذى نعيشه فعليا. وعموما سواء صدق هذا أو ذاك من السيناريوهات فلا ينبغى لذلك أن يلهينا عن شىء هام جدا وهو أننا فى كل مكان على وجه البسيطة يجب أن نرسم ملامح مستقبلنا الذى ينبع من طريقة معيشتنا الحالية واختياراتنا لمختلف مسارات التطور وقبل كل شىء موقفنا من تاريخنا وتقاليدنا وقيمنا، أما غيبيات المستقبل فهى بيد الله وحده يحددها كيفما يشاء فيعز من يشاء ويذل من يشاء.