■ بقلم: أيمن موسى لا تكاد تمر مناسبة أو حدث فى روسيا حتى يسارع الغرب فى طرح تساؤل دأب عليه منذ عقود عديدة، وهو تساؤل أقرب للتمنى عن خليفة فلاديمير بوتين فى منصب رئيس الدولة الروسية، وقد اكتسب هذا التساؤل كثافة فى الآونة الأخيرة على عدة خلفيات بداية من الانتخابات الرئاسية التى أجريت فى مارس الماضى، ومرورًا على الضغوط التى يتعرض لها الغرب بسبب الوضع على الجبهة فى أوكرانيا وعدم مقدرة الغرب على تقديم أية مساعدة من شأنها إحداث أية تغيرات لصالح أوكرانيا أو لنقل لصالح الغرب، وذلك على اعتبار التسليم بأن هدف الغرب من هذه الحرب هو إحراج روسيا وليس مساعدة أوكرانيا بشكل واقعى، أما العامل الثالث فهو ما تحققه روسيا من نجاحات على مستوى السياسة الخارجية وعلاقاتها مع مختلف دول العالم، ناهيك عن وجود ملامح لإمكانية انكسار التحالف الغربى المعادى لروسيا حيث بدأت سواء دول أو قوى داخل مختلف الدول لا ترى أى منطق فى هذا العداء وتطالب بإعادة النظر فى هذه السياسات، إلى جانب قرب الانتخابات الرئاسية وإمكانية وصول زعامة جديدة على رأس السلطة فى هذا البلد، وقد تكون لها رؤية مخالفة للمواجهة مع روسيا، وغيرها الكثير من العوامل التى تحتاج لحديث منفرد حول ما يجب أو يدفع الغرب لتعديل سياساته ليس فقط تجاه روسيا بل والعالم أجمع. والحقيقة أن التساؤل عمن سيخلف بوتين فى هذا المنصب الخطير بالنسبة لروسيا والعالم أجمع هو تساؤل لا يقتصر على الغرب وخصوم بوتين، بل إن هذا التساؤل يعتبر محور اهتمام القيادة الروسية برئاسة بوتين ذاته، وقد تحدث عن هذا الموضوع فى أكثر من مناسبة سواء خلال حملته الانتخابية أو خلال كلمته السنوية أمام البرلمان وحتى خلال لقاءاته المعهودة مع الشباب أو من يمكن وصفهم «ببناة المستقبل». ◄ ثوابت بوتين الطريف فى هذا الموضوع هو ما قاله بوتين فى بعض المناسبات من أنه بدأ يواجه هذا التساؤل حتى منذ عام 2000، وهو العام الذى أجريت فيه الانتخابات فى أعقاب تنازل يلتسين عن الحكم له، ولكن من يتابع إجابات بوتين على هذا السؤال من وقتها فسوف يلاحظ حدوث تطور وتمسك بمجموعة من الثوابت التى لا حياد عنها، فقد كان بوتين من البداية يؤكد أن اختيار من سيخلفه فى هذا المنصب هو من حق الشعب الروسى وحده ومن خلال صناديق الاقتراع، كما كان يردد أن روسيا لا تفتقر إلى الكوادر والزعامات التى يمكنها تولى المسئولية فى أى وقت، وكان يؤكد أن تشكيل «نخبة» يمكن الاختيار من بينها ما هو إلا نوع من التمييز وفرض أمر واقع على الشعب، علاوة على أن كلمة «نخبة» قد أصبحت تكتسب معنى غير إيجابى فى الفترة الأخيرة. ما تقدم يعنى أن بوتين لم يكن يرغب فى وضع أية مواصفات محددة أو قيود على من قد يتصدى لهذه المهمة الصعبة إن لم تكن المستحيلة، وكان يفضل دائما ترك الأمر للشعب لكى يختار بكل حرية من خلال انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة، وأعتقد أن من يتابع تطور العمليات الانتخابية فى روسيا فى السنوات الأخيرة سيتوصل لاستنتاج مفاده أنها بمقاييس الديمقراطية والنزاهة والشفافية تفوق الكثير من الدول الأوروبية الأخرى، ولكن خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة بدا أن تطورا ما قد طرأ على موقف بوتين فيما يخص موضوع من يصلح لخلافته، فإلى جانب تمسكه بالمعايير السابقة أضاف بعض معايير مبدئية أخرى، وعلى رأسها أن يكون المرشح شديد الوطنية والأفضل أن يكون من خريجى «مدرسة العملية العسكرية فى أوكرانيا»، حيث تحدث بوتين بشكل صريح عن ضرورة أن يكون المرشح ممن شاركوا بشكل مباشر فى العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، المعيار الثانى الذى يتصل بشكل مباشر بالمعيار الأول وهو أن يتحلى بأعلى مستوى من الوطنية والإيمان بالدولة الروسية وعظمتها ولا يراوده مجرد الشك فى هذه العظمة، ولا يقبل بأى حال من الأحوال التخلى عن أىٍ من مصالح الدولة الأساسية مهما كانت المغريات والتحديات، وألمح بوتين إلى أنه لن تكون هناك مرحلة انتقالية أو نظام جديد للدولة، بل سوف تستمر الدولة على ذات النهج الحالى الذى يقوم على أسس وافق عليها الشعب والتفت حولها قواه الوطنية. ◄ توقعات الداخل ظل التساؤل عمن قد يخلف بوتين فى منصب رئيس الدولة يحتل مساحة غير بسيطة فى اهتمامات الكثير من القوى الخارجية، وفى نفس الوقت كان هناك اهتمام أيضاً لدى القوى الداخلية بما فى ذلك فلاديمير جيرينوفسكى الزعيم الراحل للحزب الديمقراطى الليبرالى الذى كانت له آراء لها احترامها وثبتت واقعية الكثير من هذه الآراء والتوقعات بما فى ذلك تجاه الشرق الأوسط، إلا أن جيرينوفسكى قد توفى قبل الانتخابات فى روسيا وقبل التطورات الأخيرة على صعيد المواجهة بين روسيا والغرب، حيث توقع جيرينوفسكى أن يكون خليفة بوتين واحدا من دائرة سيكون من الصعب جدا الخروج منها، وهذه الدائرة تضم كلا من ميخائيل ميشوستين رئيس الوزراء وقتها (الذى تم التمديد له بعد الانتخابات الأخيرة) وسيرجى شايجو وزير الدفاع قبل الانتخابات وحاليا سكرتير مجلس الأمن الروسى خاصة أنه أحد أقرب المقربين من بوتين، والثالث هو سيرجى ناريشيكين رئيس الجهاز الخارجى للمخابرات الروسية، وديمترى ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسى حاليا ورئيس الوزراء سابقا ورئيس الدولة سابقا أيضا وأحد أهم من تولوا منصب رئيس الديوان الرئاسى للرئيس فلاديمير بوتين، وألكسى تيومين حاكم إقليم تولا الروسى وقتها، ناهيك عن فيتشيسلاف فولودين رئيس مجلس الدوما وفالانتينا ماتفيينكو رئيسة مجلس الفيدرالية وألكسى كودرين رئيس غرفة المحاسبات سابقا ووزير المالية سابقا أيضاً. الحقيقة، أن من يتابع الشأن الروسى عن كثب سوف يدرك على الفور أن جيرينوفسكى كان جادا جدا فى تسمية بعض المرشحين، بينما البعض الآخر ربما يعكسون فقط الإجراء الدستورى المتبع فى حال غياب رئيس الدولة ولا يعتبرون من المرشحين الجادين فى أية انتخابات حرة ونزيهة ولكن لا يمكن استبعاد إمكانية توليهم لهذا المنصب فى ظروف استثنائية جداً على غرار «غياب بوتين عن الساحة السياسة لظروف طارئة أو خارج إرادته». ◄ الفتى الذهبى لم تتخلف وسائل الإعلام ومراكز الدراسات فى روسيا عن ركب التوقعات ولكنها انطلقت فى توقعاتها من أسس علمية وأكثر واقعية، فموقع جروتشى - رو الروسى على سبيل المثال يرى أن أهم المواصفات التى تحدث عنها بوتين لتحديد سمات من يصلح لخلافته هى أنه شخص لا يخشى الحرب وربما شارك فيها وفى نفس الوقت يميل إلى تعزيز السلام وبناء المستقبل ويتمتع بروح عالية من الوطنية والرغبة فى خدمة مصالح كل فرد فى المجتمع، وهى صفات يرى الموقع أنها تتوفر فى مجموعة من الأشخاص بمن فى ذلك من حرص الرئيس بوتين على تمهيد الطريق أمامهم لكى يثبتوا أنفسهم ولكى يتيح اختبار مدى تقبل الشعب لهم، وتضم هذه المجموعة كلا من سيرجى كريينكو نائب رئيس الديوان الرئاسى ونائب رئيس الوزراء سابقا، وهو الرجل الذى يعود الفضل له فى صياغة مشروع «الكوادر» للعملية العسكرية الخاصة فى أوكرانيا الذى أثبت أنه لا يخشى الحرب، حيث دأب على زيارة الجبهة دون أن يخشى شيئاً، ناهيك عن أنه شخص يتمتع بطاقة عالية وعلى إلمام تام بكافة مشاكل الدولة. الشخص الثانى الذى لا يقل فرصا والذى ربما يختبر الرئيس الروسى قدراته على مستوى جديد هو «الفتى الذهبى» لبوتين ألكسى ديومين الذين عيّنه مؤخرا مساعدا له وقبل ذلك كان يشغل منصب حاكم إقليم تولا (وأحد توقعات جيرينوفسكى)، وقبلها كان يعمل فى جهاز الأمن الروسى وكان رئيسا لجهاز الحراسات ونائبا لوزير الدفاع ويعتقد الكثير من المحللين أنه يصلح جداً لكى يصبح أحد أعضاء الثلاثى الأكثر فرصا لخلافة بوتين. يعتقد مراد باشيروف بروفيسور الاقتصاد فى المدرسة العليا للاقتصاد فى روسيا أن هذا الرجل له فرص عظيمة للمستقبل خاصة بعد أن عينه الرئيس الروسى مساعدا له لشئون مجلس الدولة، ومجلس الدولة فى روسيا لمن لا يعرف يعتبرونه بمثابة الحكومة المصغرة والجهة الحقيقية التى تدير شئون الدولة، وبالتالى وبعد تولى ديومين شئونه من المنتظر أن يدخل على تشكيل المجلس وأطر عمله تغييرات كبيرة. ◄ التوقع صعب! البعض يتحدث عن فيتشيسلاف جلادكوف حاكم إقليم بيلجورود، ولكنى شخصيا لا أنظر بجدية لهذا الترشح على اعتبار أن اسم الرجل بدأ يتردد كثيرا بسبب تعرض الإقليم الذى يحكمه لمرمى القصف الأوكرانى نظرا لقربه من الحدود الأوكرانية، وقد تمكن الرجل من حل الكثير من المشاكل المرتبطة بظروف الحرب ولكن هذا الأداء يرتبط بظروف معينة ربما لا تنطبق على ظروف الدولة بنظرة أكثر شمولية، ومن أهم الشخصيات التى تتاح لها فرصة أكبر وإمكانيات أوسع لإثبات نفسها شخصية أندريه بيلوسوف وزير الدفاع، تلك الشخصية الاقتصادية المدنية التى دفع بها بوتين فى خضم الحرب ليتولى منصب وزير الدفاع، حيث تؤكد كافة المصادر التى تعاملت معه أنه تنطبق عليه الشروط التى حددها بوتين من حيث ارتفاع مستوى الوطنية وقوة الأعصاب وبعد النظر والقدرة على رسم المستقبل وحسن الإدارة بما يحقق مصالح الدولة إلى جانب القدرة على تشكيل الفرق المساعدة له، وأعتقد أنه بيلوسوف لو أثبت نفسه فى وزارة الدفاع سيكون من أهم الشخصيات التى تصلح لقيادة روسيا سواء فى ظل الظروف العادية أو الاستثنائية. الحقيقة، أنه من يراجع التاريخ الروسى فى مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتى السابق سوف يجد أنه من الصعب جدا التكهن بمن سيتولى حكم البلاد فى مرحلة ما بعد بوتين، ولكن لا أشك مطلقا فى أن بوتين سيلعب دورا محوريا فى التأثير على تفضيلات الناخبين لاختيار المرشح الذى سيخلفه فى الظروف العادية وبطبيعة الحال سوف يساعده فى ذلك المؤسسات الرئيسية فى الدولة وعلى الأخص المؤسسات العسكرية والأمنية والكرملين، ولكن فى حال طروء ظروف غير عادية ستكون الكلمة فى هذا الشأن للمؤسسات العسكرية والأمنية التى سيتعين عليها الاتفاق على مرشح واحد يضمن لها مواصلة السيطرة على مجريات الأمور فى الدولة وبصفة خاصة أن الغرب سوف يسعى بكل إمكانياته لاستغلال أى ظرف طارئ يداهم الدولة الروسية، وفى هذه الحالة لا أستبعد إمكانية أن يصبح ميدفيديف أحد المرشحين لتولى الرئاسة فى روسيا مرة أخرى ولفترة معينة لحين اجتياز الظرف الطارئ على اعتبار أنه يتمتع بخبرة كبيرة لقربه الشديد لعقود كثيرة من بوتين ولكونه تولى منصب الرئاسة من قبل، وذلك لحين تنظيم انتخابات قد يفوز فيها وقد يفوز فيها المرشح الأساسى الذى تتفق عليه المؤسسات العسكرية والأمنية. ◄ تفضيلات الغرب بطبيعة الحال الغرب سيفضل شخصية لديها سمات عكس السمات التى تحدث عنها بوتين تماما، ولكن سوف يجد الغرب صعوبة شديدة فى اختيار شخصية يمكنه الوقوف وراءها، وقد عكف الغرب لعقود طويلة على تشكيل دوائر من الزعامات السياسية التى تتستر وراء مؤسسات المجتمع المدنى تحسبا للحظة الحاسمة التى يمكن فيها الدفع بأىٍ منهم على أمل الوثوب على السلطة أو تولى منصب يسهل للغرب استعادة سيطرته على هذا البلد، إلا أن الحرب التى تخوضها روسيا فى أوكرانيا قد كشفت لها أن الجبهة الداخلية ربما تكون أخطر من الجبهة الخارجية، لذلك سعت السلطات الروسية لتطهير هذه الجبهة من الجمعيات والمؤسسات التى تقتات على الدعم الخارجى وبصفة خاصة الغربى من أجل الترويج لأجندات أجنبية والتأثير على تماسك الجبهة الداخلية، فقامت السلطات بتعديل القوانين لتضييق الخناق على قنوات التمويل الخارجية لمختلف مؤسسات المجتمع المدنى وهو ما أدى إلى سقوط غالبية عناصرها، وفقدان الغرب وسائل التأثير على الرأى العام الروسى سواء من خلال هذه المنظمات والمؤسسات وكذلك بعض وسائل الإعلام، وبالتالى لا أستطيع القول بأنه فى أى سيناريو قادم لتغيير السلطة فى روسيا سيكون للغرب تأثير ملموس فيه، بل على العكس تماما القادم فى روسيا بالنسبة للغرب لن يختلف فى شيء عن الحالى، بل سيكون بمثابة فرصة فقط لكى يحاول الغرب إصلاح ما أفسدته الحسابات الخاطئة فى علاقاته مع روسيا.