فى "نزوح" أحدث أعمال حبيب عبد الرب سرورى، يتتبع الروائى اليمنى عملية إطلاق مركبتين فضائيتين فى زمن مستقبلى غير محدد بدقة، تحمل كل واحدة على متنها 5 رواد فضاء من أعراق وأجناس مختلفة ومتباينة، فى محاولة للإجابة على سؤال أساسى: هل يمكن للإنسان التكاثر والإنجاب فى الفضاء؟! لنجاح الرحلة يجب أن تظل أدمغة الطواقم مشغولة، وهو ما يحدث تلقائيا بطبيعة الحال فى ذلك الحيز الضيق السابح فى الفضاء اللانهائى، فتشهد الرحلة على مدى أيامها الممتدة نقاشات مستمرة، علمية وفلسفية وإنسانية ودينية، وبالطبع لا تخلو من صدامات توسع مجالات النقاش وتعمق التأثيرات المتبادلة بين الطواقم، لتصبح الرواية فى المجمل محاولة للإجابة على أسئلة أخرى عن الاختلاف والتعايش وترتيب الأولويات على كوكبنا البائس. سرورى كاتب وروائى يمنى، من مواليد مدينة عدَن. وهو بروفيسور جامعى فى علوم الكمبيوتر. صدر له فى الرواية: الملكة المغدورة، ودملان (ثلاثية روائية)، وطائر الخراب، وعرق الآلهة، وتقرير الهدهد، وأروى، وابنة سوسلوف – وصلت القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2014- وحفيد سندباد، ووحى التى نالت جائزة كتارا عام 2019، وجزيرة المطففين. له أيضاً العديد من الكتب الفكرية. وله أعمال عديدة مترجمة إلى لغات أجنبية. قبل الخوص فى تفاصيل العمل، وفى ظل الوضع الملتهب لمنطقتنا ربما ترى قراءةٌ متعجّلة فيما تطرحه ابتعادا عن الواقع المباشر، كيف ترى المسألة؟ نحن بأمسّ الحاجة، أكثر من أىٍّ كان، لا سيّما أدبيا، للانفتاح على كلِّ مواضيع العصر، كى لا نموت فى دوّامة واقعنا المأساوى الكئيب، وحتّى لا نتخثّر وننقرض. توسيعُ مجال الرواية العربية يُهمّنى كثيرًا، إذ أراهُ غالبًا مُكرِّرًا لِثيماتِه وأدواتِه، ضيِّقًا جدًّا مقارنة بالمفهوم الواسع الحديث للرواية المعاصرة. أظنّ أن القراءات المتعجّلة التى تعتبر أن قضايا العِلم لا تهمّنا كعرَب وأن تناولَه روائيّاً أشبهُ بقراءة الفنجان، جميعها قراءات قاصرة جدا، إن لم تكن كارثيّة. أضحتْ هذه المواضيع اليوم، بسبب تعقيد الحياة وغموض القادم، قِبْلةَ الرواية الحديثة ومختبرَها الأهمّ. قلت فى نهاية العمل إن "نزوح" ولدت من أحشاء عملك لبضعة أشهر فى جامعة درم ببريطانيا. ما تفاصيل تلك الفترة، وكيف ولدت فكرة الرواية؟ قبل الإقامةِ فى جامعة درَم، وزيارةِ مختبرات فى الفيزياء الفلكيّة هناك، كانت قد أدهشتنى دومًا، حدّ الدوخة، كلُّ الصورِ التى تصلنا، هذه الأيام، من تلسكوب جيمس ويب، وممّا سبقه من تلسكوبات، لِأوّلِ لحظاتِ تشكُّلِ أوّل المجرّات فى الكون، لِولادة الضوء، لِمناظر أنحاءٍ مختلفة من كوننا الشاسع الحبيب. مشاريعُ غزو الفضاء واستيطان القمرِ والمريخِ تُذهِلنى كثيرًا أيضًا، لا سيّما وأنّ الوضعَ البيئى المتدهور لِكوكبِنا بأمسِّ الحاجة لِميزانيّاتها الهائلة: ثمّة مفارقةٌ فاقعة فى الحقيقة! أتساءلُ أحيانًا إن لم يكن فى الأمرِ هروبٌ ما، مغامراتٌ ليس وقتها الآن. أتابعُ باهتمامٍ وشغفٍ يوميّات مشاريع غزو الفضاء، وأقرأ، بقلقٍ حقيقى، تقاريرَ الأوضاعِ البيئيّة لكوكبنا المسكين، فتُربكنى هذه المفارقة أكثر فأكثر. ثمّ فى يومٍ ما، فى بداية نوفمبر 2022، التقيتُ بباحثٍ علمى يشتغلُ حول الأوضاع الصحّيّة والنفسيّة لِروّاد الفضاء الذين يعيشون لأشهر، خارج الجاذبيّة الأرضيّة، وما تعانيه أدمغتُهم من توتّر وضغط وهى تعيش فى محابس مركباتها، أو محطّاتها الفضائيّة عدّة أشهر، أو جرّاء خلو طاقم المركبة من توازنٍ فى عدد ذكورهِ وإناثِه إذا طالت المدّة! بدأنا نتحدّثُ معًا حول تداعيات الإقامةِ طويلةِ الأمد خارج كوكب الأرض، والعددِ النموذجيّ للذكور والإناث فيها، ومواضيع أخرى جديدة فى مجالات ابحاثهم العلميّة، قبل أن يتفجّرَ هذا السؤال المثيرُ المفاجئ: هل يمكن للإنسان المقيم فى بيئةٍ سماويّةٍ مستديمة، بعيدًا عن الجاذبيّة الأرضيّة، أن يُجامعَ، ويُنجِبَ، ويتكاثر؟ سؤالٌ روائيٌّ بامتياز، جاءنى من السماء، استحوَذ عليّ، ولم أعد أفكِّر إلّا بروايةٍ يكونُ مركزَها. شكرت رائد فضاء فى الختام أيضا، وهو مصدر جديد وربما غير معتاد لقراء الروايات العربية، يعطينا لمحة عن التحضير المختلف للرواية. كيف حضرت لهذا العمل؟ وكيف اختلف عن أعمالك السابقة؟ بعد تفكيرٍ طويلٍ بمشروعِ روايةٍ تنطلقُ من ذلك السؤال، تخوضُ فى المفارقة المركزيّة التى تحدّثتُ عنها قبل قليل، بدأتُ بحثا بيلوغرافيا طويلا لكلِّ جديدِ اكتشافات العلوم الفضائيّة. كانت ألبوماتُ صوَرِ رائد الفضاء الفرنسى توماس بيسكيت، وكتبُه، ومحاضراتُه من ألذّ المراجع. لذلك شكرته، خاصّة أنه ابن مدينة عملى، وحضوره الإعلامى حولى واسعٌ ومنير. ثمّ تشكّلتْ المعالِمُ الأولى لِشخصيّاتِ مشروعٍ روائيٍّ جنينيٍّ يدور حول تلك المفارقة المركزيّة، حاولتُ فيه، بحياديّة، تركَ شخوصٍ لهم رؤىً مختلفة، أتّفِقُ أو لا أتفّقُ شخصيًّا معها، تُعبِّرُ عن آرائها وتُحقِّقُ أحلامها. عموما، التخييلُ الروائى فى «نزوح» كلى، انطلق من الصِّفر، ووجدتُ فى ذلك لذّةً خالصة. كيف يمكن تصنيف هذه الرواية. ديستوبيا، أم خيال علمى أو تخييل علمى كما فى أعمالك الأخيرة؟ لا أحبّ، فى المجال الأدبيّ، التصنيفات التى تشبه «جدول مندليف» فى الكيمياء، كما لا أحبُّ وضعَ القبّعات النمطيّة على النصوص، أو التقييمات المانويّة النهائيّة لها. لعلّها، كلُّ ما قلتَ معا فى الوقت نفسه. أو لِنَقُلْ بكلمتين: هى تخييلٌ تأملى Speculative Fiction، بكل بساطة. -العلم والتكنولوجيا والدين والتطور واحتلال الفضاء، إضافة إلى قضايا أخلاقية خلافية يحركها لقاء مستتر بين الشرق والغرب إذا اعتبرنا أن كل سفينة ترمز لجهة.. تطرح الرواية قضايا متعددة وتناقش أسئلة كثيرة لكن ما هو سؤالها الأساسى من وجهة نظر كاتبها. وبشكل عام ما هو رأيك فى مسألة التأويل؟ سؤالُها الأساسيّ، يتلخّص ربما، كما كتب الشاعر والكاتب المعروف عيسى مخلوف فى مقال له فى مجلة «الوطن» المغربية: «شعرتُ وأنا أقرأ هذه الرواية أنّ بطلها الحقيقى هو الفضاء الخارجى، وأنها تطرح سؤالاً جوهريّاً عن وجود الإنسان فى الكون، كما تكشف عن هذا التوق إلى اختراق أسرار المجهول، ما يحيلنا إلى الشاعرة اليونانيّة سافو التى عبّرتْ عنه منذ زهاء 2600 سنة بقَولها: "لو أستطيع أن أضمّ السماء بذراعيَّ!». التأويل، عندما ينطلق من قراءة وحساسيّة فنيّة عالية، وتجارب ذاتيّة لافتة ومتجدِّدة، يضيف أبعادا جديدةً للنصّ. يفتح الباب حينها لثرائهِ وتعدّدِ إمكانيات معانيه. إلى أى حد تخوفت من تأثير توالى المعلومات العلمية والتكنولوجية وكثرتها على مسار السرد داخل الرواية؟ لم أتخوّف فيما يتعلّق بآليّة دمج المعلومات داخل السرد الروائى، فى الحقيقة. ربما بسبب تجاربى فى خمس من عشر روايات سبقت «نزوح»: عرق الآلهة، تقرير الهدهد، حفيد سندباد، وحى، جزيرة المطفِّفين (حسب الترتيب الزمني)، اندرجتْ فى جميعها معارفُ علميّة وفلسفية وغيرها، فى سياقاتٍ سرديّةٍ عاطفيّةٍ وحميميّةٍ مؤثرة غالبا، مما خفّف من وطأة ذوبان المعارف فى السرد، وساهم فى حسنِ تلقّى ذلك. لكن تخوّفى الدائم سببهُ ضعفُ ثقافة القارئ العربى، وغيابُ معارف علميّة وفلسفيّة وتاريخيّة أساسيّة عن إدراكه؛ وضرورةُ أخذِ كلِّ ذلك بعين الاعتبار عند السرد. الأمر يختلفُ كليّة مع القارئ الغربىّ الذى يواكب تطوّرات هذه المعارف منذ الصغر، بل يعتبرها معلومات أوليّة، بفضل المدرسة والمتاحف ووسائل الإعلام وهيمنة العلم وليس الدِّين على الحياة فى بلدانه. اعتمدت فى أغلب أعمالك السابقة على رحلاتك فى أرجاء العالم، هل يمكن القول إن الرحلات كانت داخلية فى هذا العمل، استرجاع لما ترسب من الرحلات السابقة حيث لا يوجد تركيز كبير على مكان واحد، باستثناء اليمن طبعا؟ ربما كانت رحلات تأمليّة وتخييليّة فى الأساس، بسبب أنى لم أزر الفضاء بعد! لكن الجزء الذى يدور فى الأرض احتاج منّى فعلا إلى استثمار بعض معارف وتجارب رحلات سابقة، كما لاحظتَ بحقّ. قواعد علمية، ومركبات وسياحة فضائية.. حتى أعقد التخييلات العلمية تجعلها تنطلق من اليمن؟ كيف تفعل ذلك. ولماذا؟ تحضر اليمن فى كثير من رواياتى بأشكالٍ مختلفة. وتغيبُ عن بعضها كليّة، مثل رواية «تقرير الهدهد». بيد أن أهمّ معالم تاريخها الحقيقى، غير الرسمى، منذ السبعينات يمكنُ القبض عليه ومتابعته غالبا فى توالى رواياتى. يهمّنى ذلك، وإن ليس ألفَ وياءَ مواضيع رواياتى طبعا. غير أن حضورَها فى رواية «نزوح» المستقبليّة (حيث انطلقت المركبات الفضائيّة من «أرخبيل «سُقطرى الجديدة») مختلفٌ تماما: كانت اليمن فيها قد انهارت كليّةً بسبب حروبها الدائمة، وفشلِها المستفحِل ودورِ العالَم الخارجى السلبيّ فيها. «اليمن الجديد» وأرخبيل «سُقطرى الجديدة»، فى الرواية، يسكنُهما بشرٌ آخر، كما يحدث لأوطان الشعوب المنقرضة! ننسى غالبا أنّ الأمم، مثل كلِّ الكائنات الحيّة، تولد، تعيش، وتموت، كما حدث لِشعوب الأمريكتين قبل غزو كريستوفر كولمبس وعصاباته للقارّتين، وكما حدث لأمثلةٍ بلا عدّ طوال التاريخ. - حاضرت قبل فترة وجيزة فى مهرجان ميلانو عن الذكاء الاصطناعى واللغة العربية، بما يعكس اهتماما متزايدا بالفكرة وتأثيرها على اللغة والرواية بطبيعة الحال. ما أبرز ملامح المحاضرة وما التخوفات التى ترصدها بشكل شخصى؟ كانت محاضرتى الافتتاحية للمؤتمر مركّزةً حول وضع اللغة العربية فى عصر الذكاء الاصطناعى، بعد محاضرات ومقالات كثيرة كتبتُها فى السنوات الماضية حول قصور دخول لغة الضاد لِلعصر الرقمى، وعدم استكمال بنائها التحتى آنذاك، واليوم أيضا، للأسف الشديد. بعد تعريفٍ مقتضبٍ لمفهومِ الذكاء الاصطناعى، ولِتاريخهِ المرتبطِ جينيّا بتاريخ الكمبيوتر منذ 1950، استعرضتُ سريعا المجالات التى يتفوّقُ فيها الذكاءُ الاصطناعى عن الذكاء الإنسانى، أو تلك التى ما زال الأوّل فيها بعيدا جدا عن مستوى الثانى وقدراتِه. أوضِحتُ فى نهاية هذا المدخل أن الذكاءَ ليس مجالا واحدا نمطيّا خطيّا، والتفاعل بين الذكاء الاصطناعى والذكاء الإنسانى زجزاجيٌّ يتطوّرُ على الدوام. ناقشتُ فى ضوء ذلك سؤالَ المؤتمر: الذكاء الاصطناعيّ «قيدٌ للماضى أم أفقٌ للمستقبل؟» موضِّحا أنّ عبارةَ «قيدٌ للماضى» لا محلّ لها من الإعراب فى تقديرى، مع ضرورة مقاومة تطبيقات الذكاء الاصطناعى المؤذية السامّة كالتجسّسِ الآلي؛ وضرورة جعل مدوّنات اللغة ونماذجها شفّافةً ومجّانيةً، فى متناولِ الجميع (فى إطار «العلوم المفتوحة»)، لتلافى الكثير من التداعيات الضارّة والمخاطر الافتراسيّة الممكنة جرّاء تعليم الكمبيوتر لغات الإنسان واستخدامِها آليّاً بدلا منه. انتقلتُ بعد ذلك إلى الوضع الحالى لتقنيَتى الترجمة الآلية والتوليد الآلى للنصوص، منذ طفرة تقنيةِ «التعلّم العميق بشبكات العصبونات الاصطناعيّة». استعرضتُ وضعَ اللغة العربية فى هذين المجالين مُسلِّطا الضوءَ على بعض النواقص والعقبات الموروثة منذ عدم اكتمال بناء الأسس التحتيّة لدخول العربية العصرَ الرقمى، وتداعيات ذلك اليوم فى عصر الذكاء الاصطناعي. تناولتُ فى الأخير بعضَ المشاريع التى ينبغى رفدُها سريعا، والاتجاهات الضرورية لحضورٍ مرموقٍ وجبّارٍ للعربية يليق بتاريخها وإمكانياتها الهائلة. هل فكرت فى توظيف الذكاء الاصطناعى فى "نزوح"، وهل تفكر فى تنفيذ ذلك مستقبلا؟ حاليا: لا. مستقبلا: لا أعرف. لأقُلْ: ربما؛ لأننى مهووسٌ بحبِّ الاستطلاع ومحاولةِ رؤيةِ ما وراء الأكمة، مثل كل أبطال رواية «نزوح». فى أى مرحلة ترى أن الشكل الروائى هو الأنسب لما تنوى طرحه من موضوعات سواء عن الإنسان أو التكنولوجيا أو العلوم أو الدين، واللغة كذلك. على أى أساس تحدد الشكل الفنى لأعمالك، إن كانت روايات أو كتب سردية؟ عندما نريد تناول مواضيع خاصّة، علمية أو دينية أو نقدية أدبية مثلا، فهناك أشكال سرديّة تقليديّة لذلك: لديّ، مثلا، كتبٌ علمية بالفرنسية والإنجليزية فى مجال البحث العلمى أو التدريس، وأخرى ثقافية وفكريّة بالعربية. وكتابى القادم سيكون أدبيا محضا حول «رواية الغفران» و«الكوميديا الإلهية» وسيأخذ شكل دراسات أدبية، وليس رواية طبعا. لكن عندما نريد تناول مواضيع «كليّة»، متعدِّدةِ الهموم والقضايا والأسئلة، فهناك طريقا ملَكيّا لا مثيل له: الرواية. اعتبرُ بحق أنّ الرواية مدرسة الحياة، وأنّها الشكل الأسمى لصناعة التخييل والتجارب الإبداعية وتوسيع حياة البشر. - أرى أحيانا بعض التعليقات العنيفة على ما تطرحه من أفكار سواء فى الروايات أو المقالات أو حتى تدوينات على صفحات وسائل التواصل. كيف تتعامل مع هذا الأمر. وبشكل عام كيف أصبحت تنظر لتلقى أعمالك فى العالم العربى بعد أن قربت وسائل التواصل بين المرسل والمتلقي؟ أحاول أن أقول وأكتب كلّ ما أريده، فى كلِّ المواضيع تقريبا، بشفافيّة وصراحة وحريّة عالية. غالبا أرى التلقّى جيدا وألاحظ نجاح التأثير وإن كان ببطء قاتل. لكنهُ تأثيرٌ محدودٌ جدا أيضا، بسبب المستوى الثقافيّ العربيّ العام، ولأن سوقَ القراءةِ فى العالَم العربى فاترٌ شِبهُ ميّت. طبيعيّ جدا أن العناصر الظلاميّة والطائفية لا تحبّ ما أكتب. هذه سنّةُ الحروب الروحيّة «التى لا تقلُّ شراسةً عن حروب الفرسان»، كما قال آرثور رامبو. تعليقاتُها العنيفةُ التى لاحظتَها، لسوء الحظّ، لا تناقشُ أى فكرة. تُشخصِن فقط، وتشتم ببذاءة لا غير. لكنها قلّتْ نسبيا بالمقارنة بما قبل عشر سنوات تقريبا. هل تعتقد أن حساسية ما تطرحه من موضوعات أثر على التقدير والجوائز بالتحديد كما أثر على التلقي؟ لا أفكِّر كثيرا فى هذه الأمور، بقدر تفكيرى فى تجديد وتوسيع مشروعى، وتطوير رفدِه. يُهمّنى التلقّى بطبيعة الحال، وكل ما يساعد على زيادته، كالجوائز مثلا، لكنى لن أبحث يوما عن إغراء المتلقّى والتمسيد عليه، كما يفعل السياسيّون لكسب أصوات انتخابية. يهمّنى تفجير الأسئلة، الصراع ضد أسباب الجهل والتخلف، الظلمات، الانغلاق، وجرّ القارئ نحو قضايا الحاضر والمستقبل، لا سيّما الأكثر جوهرية وحساسيّة؛ وإن كان ذلك لا يروق للمتلّقي. - بالعودة للنقطة التى بدأنا عندها، بالحديث عن الواقع الملتهب والتغييرات الواسعة لمنطقتنا وعن الذكاء الاصطناعى الذى يتمدد تدريجيا. كيف تنظر لمستقبل المنطقة من واقع اطلاعك.. لستُ متفائلا إطلاقا. لن أقول أكثر. لا يعنى ذلك عدم المقاومة، بالعكس. وبشكل شخصى كيف أثرت الأوضاع فى اليمن وغزة والمنطقة عموما عليك وعلى كتاباتك؟ تأثيرها الوجدانى والنفسى عاصف. ألمٌ وأوجاع يوميّة. ينعكس ذلك على قلقٍ وجودىّ نعيشه، وإحباطٍ كلى. تساعد الكتابة جزئيا على المقاومة، من خلال تأجيج شغف القراءة، وتوسيع ذائقة عشق الأدب والعلم، بثّ روح المقاومة وعشق الجمال والانتصار للحبّ وللإنسان ضد الظلم والطغيان، من خلال الكشف المعرفى، أو من خلال التحذير الذى ينطوى عليه النصّ الديستوبى أيضا.