أيمن الحارس بتثاقل مربك، ينهض معلمنا الخزاف من سريره، يزيح ستارة النافذة وينظر على الدنيا وصباحها بعينيه اللتين ذبل بريقهما فأمستا غمامتين لا تعكسان سوى الظلال. بيتنا من طابقين، الورشة التى يبدع فيها أخوتى المزهريات، والطابق الأول حيث يسكن، أما الطابق العلوى فهو سر لا يعلمه سواه. من حسن حظى أننى شاهدت غرفته عندما اصطحبنى معه ووضعنى على الرف العلوى بجوار المكتبة، كان منتشيًا، تكاد أصابع أقدامه تلامس الأرض وجاذبيتها كمن يتأهب للطيران. كم كان سعيدًا بصنعى، أنا.. أول خلقه وإبداعه، وليدة درره. قبل ستين عامًا، كنت فى غرفته. رأيت كل شىء، وعرفت كل شىء، ففهمت كل شىء. بعد سبعة أيام أعادنى إلى الورشة، هكذا يا سادة رأيت. رأيت أشقائى يصنعون من طين ونار حتى تتصلب ذراتنا وتخشن كالعظام، من طين لين تبدأ رحلة الرقص مع أصابع معلمنا، بعشرة أصابع وراحة يد نتشكل، انسحابة خفيفة هادئة تندس للانحناءة، وهنا اتساع محسوب، هنا براح مستحق عند بداية العنق، ثم يأتى التماوج ولكزات ضغط كسر يهمس، ما إن ينتهى حتى نُترك ونستعد لدخول فرن النار، لقد كانت النار هى وسيلتنا لنخرج للحياة وليست عقاباً. من كل بقاع الأرض يأتى الناس يشاهدوننا، البعض يقتنى أشقائى ولسوء الحظ أو حسنه دور بطولى فى مصائرنا، أن تعيش فى قصر محتضنًا لعيدان الزهور، أن تعيش فوق منضدة فتتحول تدريجيًا إلى حصالة، أن تعيش فى أمان وفجأة بحركة طائشة من طفل غاضب... نسقط ونُهشم فنعود هباء منثورًا. منذ أعوام مضت تناثرت الشائعات حول معلمنا كمن أضرم نارًا فى الهشيم، وكعادته تجاهلها جميعًا حتى خبت، قد تخبو النار بالفعل وتغدو رمادًا، لكن الرماد أحيانًا يصيب ما لا تفعله الأخرى، لأنه يترك أثرًا، هذا هو الشاهد الذى سيتم استدعاؤه أينما ذُكرت النار. لقد استدعى معلمنا هذا الشاهد وهو يجلس مع صديقه الوحيد حفار قبور مدينتنا، كان غاضبًا، يلوح بذراع ويبسط أخرى، فتصورته مايسترو يوجه فرقته نحو إيقاع عنيف لم تتدرب عليه الوتريات من قبل، بينما صاحبه يصغى فى هدوء راهب يخلص للاعتراف. لقد اتهموه بأنه يضيف رفات الموتى إلى لحمنا الطينى، ومن هنا يشعر الناظر لنا بأن الروح تسكننا، كم كان غاضبًا وحزينًا، لكننى كثيرًا ما فكرت؛ هل حقًا لحمنا الطينى مخلوط برفات الموتى؟ لن يعرف أحد. لكننى أشعر بأن للجماد إيقاعه الخاص، فزيائيته، قانون الطبيعة الذى يجعل الحجر يتكلم فى تمثال، وشقيقاتى المزهريات يكدن ينطقن من فرط جمال الخلق. لسنا مجرد طين شكلته يد خزاف ماهر فحسب، نحن ما يشبه المعنى الذى أصر معلمنا بدأب وعظمة أن ينقله لنا عبر لحمنا الطينى، وناره التى تخشن عظامنا، لا أنكر أننى أحيانا أحس بشىء آخر داخلى، فأرانى أحن لوجوه لم أقابلها فى حياتى، لمناسبات لم أحضرها، كأن حياة سابقة تذكرنى بتاريخ لم أعشه، لم ينبض قلبى الطينى به يومًا، ولكنى أحس به. يقول صاحبه حفار القبور إن الحياة عجيبة، وإن البشر فانون، وإنه من المهم أن يبقى معنى.. معنى؟ ما هو المعنى؟ تلك الإشارة التى ترمز لعنوان كبير سحرى وغامض. لا أعرف، لكن معلمى رد عليه وقال إنه لا وجود لأى معنى فى حضرة الفنان، وإن البشر يكدحون له، لم أفهم من حديثهما شيئًا، واكتفيت بمراقبة ملامح معلمنا وكيف كانت تنفعل وتهدأ حتى تعلو وجهه ابتسامة أسف وينتهى الكلام. ينطلق الوقت كبارود من فوهة الزمن، سنون تجرى، سنون وأماسى تتراص فوق رفوف الذكريات، يلفها غبار النسيان فيحجب الكثير منها وقت نداء الذاكرة، لكن معلمنا يتذكر حبيبته الأولى وكيف أنه عندما دعاها إلى الورشة لترى مخلوقاته العجائبية، كانت منبهرة وسعيدة وكيف كان يجاهد ليخفى رغبته الجائعة. حتى حل المساء فاصطحبها للطابق الأول وقدم لها العشاء، كلنا سمعنا الموسيقى وهى آتية إلينا، فابتسمت شقيقاتى، وغمزت بعض الشقيات منهن حينما هبط صوت دبيبهما علينا من فوق، ثم ساد الهدوء البيت فى الصباح، لم ينزل المعلم، ومر صباح آخر، أشرقت شمس الكون ستة أيام وغربت ستة ولم نر وجهه، وخشينا أن يكون مكروه قد وقع، لكن ما مكروه قد وقع، فقط معلمنا هو الذى وقع فى عشقها للدرجة التى جعلته مهملًا لنا، عادت الشائعات إلى دوائرها القديمة لتتسع حتى تضيق، وجاءت أخبار من طرف المدينة تسعى تنبأنا بأن المعلم ترك المدينة ورحل معها، نزل الخبر علينا كصاعقة فوق رأس وليد، ودب الهلع إلى طيننا، فلعنا الفتاة والعشق والدبيب وصاحبه، سكبنا سخطنا كحمم فوق رأس القدر. معلمنا هجرنا وغاب طيفه إلى الأبد. كيف سيغدو مصيرنا، ودلف بنا الجزع نحو غابات العدم، سينهشنا اللصوص، سيهجم علينا كل أقرباء الموتى الذين عبث المعلم برفاتهم طلبًا للعدالة، وستتحول الورشة بعد أن تمتلكها بلدية المدينة إلى حظيرة للخراف. هكذا كنا نفكر وكان الخوف يرافقنا. حتى جاء الليل الذى حول العاصفة إلى رعب دب فى قلوبنا، اندفعت قوة الرياح عبر النافذة التى حاولت مقاومتها بقدر ما استطاعت حتى انفتحت، ورأينا فيما يشبه الحلم شبح معلمنا فى أول الطريق وهو سائر نحونا. كم كان مهزومًا وشاحبًا كميت. يبدو أن الحب قد خذله، دخل من فوره إلى باب الورشة ونظر لنا، وقتها فقط، تمنينا من السماء أن نتحول لبشر كى نحتضنه، أن يرى دموعنا وهى غارقة فى حضنه القدير. بعد يومين كانت الورشة نظيفة وقام بطلب كمية جديدة من الطين، وصنع مزهريات جديدة، أتى الناس من بقاع اليابسة كيما تشاهدها ويدوخها الجمال، عادت أصابعه العشرة تراقص لحمنا الطينى وتلقيه فى النار ليخشن ويخرج للحياة ببدن صلب وروح عجيبة يراها الناظر فيغرق فى هوة بلا قرار. عاد يستيقظ كل يوم ويطالع الدنيا وصباحها، لكنَّ شيئا فيه قد اختفى. ومر من عمر الكون عام أو عامان ودارت الشائعات بين الناس حتى جاء من طرف المدينة من يخبره بوفاة المرأة التى هجرنا من أجلها، فهشم إحدى شقيقاتى ودب الخوف فى طيننا، غاب يومين ثم عاد إلينا، وفى المساء اجتمع مع صاحبه وسكرا. فى الصباح نزل إلينا متأخرا ولم يصنع شيئًا، وأشرقت شمس الكون عامًا وغربت عامًا ولم تلامس أصابعه أى لحم طينى، حتى زاره صديقه ومنحه قارورة قد لُفَّت بعناية. صعد المعلم إلى غرفته. جاء المساء ولعب الهواء فى الخارج بأوراق الشجر، لامس وجوه العابرين، حرك الخصلات فوق جبين الفتيات، وذكّر العجائز بمواسم الحنين، حرك أسلاك الكهرباء المتناثرة فارتبك الظل، هرعت بعض القطط للاحتماء داخل أقبية البيوت، داهم أوكار العصافير الناعسة فى أعشاشها فوق الأشجار فدخلت أجنحة العصافير فى صراع مع التوازن خشية سقوط البيض، طوح أوراق الأزقة فتطايرت وبدا البعض منها رسائل ألقاها عدو من طائراته منذرًا بعذاب أليم. لعبلعب من الطين المنتظر. بدأ يقطر له الماء ووضعه فوق حجر الصينية الدوار، نثر فوقه شيئًا لم نره، وبدأ الخزاف يتأهب ليرقص بأصابعه مع الطين، وكنت بصعوبة بالغة أحاول أن أستبين المشهد. كنت أراه بروحى الطينية، ها... ها هى الانحناءة، ستتسع الرحابة بقدر محسوب ليتشكل العنق، حركة الأصابع تبدو كمن يلقى بتعويذة هذه المرة، كنت مندهشًا ومتوجسًا، ما الذى ينوى خلقه يا ترى؟ الظلام عجز. والعجز ظلام. وكلاهما قلة حيلة. يلف الحجر المدوار فتدور ذكرياته معها. هنا قبلها، هنا كانت اللمسة الأولى والحضن المنتظر، هنا الرعشة التى تشبه الموت والخلاص، الموسيقى التى راحت تنساب من جسديهما فى خدر لن يُنسى، وهنا الصباح فوق وجهها النضر وكيف كانت تنام بجانبه تاركة أثر ابتسامتها فوق شفتيها كوعد موصول. وهنا الألم، وهنا كهوف أحزانه التى دخلها وحيدًا وراح فى سبات عميق. وهنا... أثرها، تتلوى السبابتان والإبهامان وهى تلامس اللحم الطينى برعشة كمن يراقص ملاك مكرم، يلف الحجر الدوار ليأخذه المعلم عبر نزهة للخلق والإبداع. يتوقف فجأة، ثمة من أربك خياله الذى سخر الممكن. رأيته يتنهد، فى تلك اللحظة بكى معلمنا كما لم يبكِ من قبل. جفت تلك المزهرية وألقى بها فى النار، لكنه لم يخرجها. واليوم ينهض من سريره، ينظر على الدنيا وصباحها، غمامتان تعكسان ظلال الحياة. طعن معلمنا فى السن وعاش أكثر من حدود الممكن، تقول الشائعات إنه تجاوز المائة عام. مات صاحبه الوحيد حفار قبور المدينة. مات كل زبائنه الذين اشتروا شقيقاتى لقصورهم ومنازلهم، ربما حافظ أحفادهم على ما تبقى منهن. تهشم العشرات منا، إثر اندفاعات طائشة لأطفال غاضبين، إثر شجار لزوجات اكتشفن أسرار أزواجهن، إثر رياح لم تلقنها الطبيعة معنى الرحمة. هُشمنا عشرات المرات أثناء انتقالنا من بيت لآخر، ومن أثر الظلام الذى يجعل من الارتطام نهاية لنا لنعود هباء منثورًا. فرحنا حينما احتضنا الزهور وبُخ فوقنا الماء لنحافظ على أرواحها، فرحنا حين منحنا كهدايا جائزة لمعنى الفأل الحلو لبيت جديد، وهذا ما صنعت يداه. واليوم ينهض من سريره بتثاقل مربك، يزيح ستارة النافذة، وينظر على الدنيا، ثمة إحساس أنبأه فى الحلم أنه صباحها الأخير له، نزل إلى الورشة، التقطنى، وصعد بى للطابق الثانى، وضعنى جوار السرير ومضى يفتش عن شىء بين ثنايا الأركان والزوايا وبينما كان يتحرك، تعثرت خطاه فاختل توازنه وسقط كبيت قديم وقت انهياره فرأيت مشهد تهشمه كاملًا وهو يتحول لشظايا، حتى بات هباء منثورًا. قرر مجلس البلدية أن يتم دفنه فى مقابر المدينة مع شاهد دون عليه كلمة واحدة.. "المعلم"، بات فيما بعد مزارًا، أما بيتنا فحولته لمتحف يأتى لزيارته أطياف من بقاع اليابسة. تركونى فى مكانى الأخير الذى وضعنى عليه المعلم فوق سريره وأمامى يافطة تعريف لم أقرأها حتى الآن. وحينما يغلق البيت كل مساء، أظل وحدى تماماً، فى انتظار طلوع شمس الكون، حتى يصعد مشرف المكان ويستعد لإزاحة ستارة النافذة قبيل مجىء الزوار هنا، أبدأ فى التنهد وأنظر على الدنيا وصباحها من سريره ورائحة المكان تشملنى، وقد هزتنى روح الامتنان كلما تذكرت بأننى أول خلقه وآخر من رآه.