اليوم الثالث: كان أول قرار لي هو أن اتجنب المواجهة، المواجهة ستفضي إلى شجار وتحدي وبعدها سأكون مضطرة أن أقبل ما هو حاصل أو أن ينتهي الأمر بالانفصال وأنا لا أريد لا هذا ولا ذاك، استجمعت كل قوتي وثبات أعصابي حتى لا يبدو علي أي تغيير، لم أبدل معاملتي مع فائق، كنت أراه في هذه اللحظة طفلاً غريراً لا يدرك مخاطرما يفعله ويتلهى بالنار التي قد تحرقه وتحرق بيتنا. خطواتي كانت عملية بحتة، بعد أن أنهيت درس اللغة للأولاد، أعددت الشاي وجلست بجوار فائق وأمسكت يده بهدوء وقلت له إنني سوف أحتفظ بخمسمائة جنيه من راتبي كل شهر لمستلزماتي الشخصية، رفع فائق كوب الشاي بهدوء ورشف رشفة ونظر إلي وقال لي إن راتبي هو حق لي وإنه ما كان علي أن أستأذن في هذا الأمر، نعم هكذا ببساطة، صحيح أنه محق في هذا الأمر لكنه لم يشغل باله بالسؤال عن كيفية تعويض هذا المبلغ من ميزانية البيت المحدودة، لم تكن هذه الأمور تشغل باله فأنا من أدبر كل شئ وهو لا يعرف كيف يسير البيت من الأساس، لذلك بادرته بالقول أن ميزانية البيت سيكون فيها عجز وأن عليه أن يعوض هذا العجز بتخفيض معدل تدخينه الذي يكلفنا قرابة ألف وخمسمائة جنيه شهرياً، صمت قليلاً وهو يفكر ماذا يقول، لقد اقتربت من منطقة ضعفه التي لم يفلح في التخلص منها رغم ما نتكبده بسببها من أعباء، لكن يبدو أنه لم يجد ما يقوله فهز رأسه موافقاً وإن كان غير سعيد بهذا الالتزام، لم يكن علي أن أتحمل تصوراته أن التدخين مسألة ضرورية، هي في الحقيقة غير ضرورية وتلتهم عشر ميزانية المنزل ولذلك لم أطل النقاش معه حول الأمر. كان علي أن أرتاح جسدياً، كان علي أن أتحاشى حالة الإجهاد الدائم المزمن التي تنعكس على شعوري وإحساسي، كما كان علي أيضاً أن أجد طريقة كي أكون مع فائق فترة المساء ولا أتركه وأخلد للنوم مبكراً، لذلك قررت أن أعد الإفطار ليلاً وأتركه في الثلاجة ليكون على التسخين فقط، لم يكن من الضروري أن أعد الإفطار طازجاً كل صباح واستغرق نصف ساعة في المطبخ حتى يتجهز، أجهز الخبز للساندوتشات وأجهزة الحشوات، كل هذا لا يأخذ دقائق، أطلت نومي ساعة إضافية فأصبحت استيقظ في السادسة والنصف مع فائق، يدخل الأولاد الحمام أولاً ثم أتركه هو ليتجهز وأسخن الإفطار وأجهز الأولاد للمدرسة. اقرأ أيضًا| «ريموت كنترول» قصة قصيرة للكاتب محمود حمدون سمح لي هذا الترتيب أن أبقى مع فائق ساعة إضافية في المساء وأحياناً أكثر، لم أتركه لنفسه، ولم أسمح له بالصمت الزوجي القاتل، راودني إحساس أن فائق يشعر ببعض التغير، كانت الكلمات تكاد تخرج من فمه ليسألني عن هذه التغييرات في النظام اليومي لحياتنا، لكنه لم يقلها، أعتقد أن شعوراً ما راوده أنني أعرف، أعرف شيئاً ما، حاول أن يسيطر على نفسه، ولكن بعض التوتر بدأ يظهر عليه عندما أطيل البقاء معه والتأخر عن موعد نومي المعتاد، كان كمن حل عليه ضيف ثقيل يريده أن يرحل دون أن يبدو عليه التململ لكن لغة الجسد تخونه كما تخوننا جميعاً. هاتفه على الوضع الصامت لكنه يضئ مع كل رسالة قادمة، أقول له بثقة لديك رسالة يمكنك أن ترد عليها فيهون من الأمر ويقول أنها رسالة غير مهمة، القلق يتصاعد في صدره والخوف من انكشاف الأمر يسيطر على تفكيره، هذا هو أفضل شئ، أن يكون لديه شك حول معرفتي بالأمر، وألا يكون لديه يقين إنني أعرف أو لا أعرف، هكذا تبقى الأوضاع قلقة ويفقد الراحة النفسية التي قد يتصور أن هذه العلاقة قد تجلبها له، أقول لكم بحق لقد أشفقت عليه، أنا أحب فائق ولا أريد أن أخسره، أحبه وأصبر عليه كما تصبر الأم على ابن مشاكس متمرد لا يكف عن اختلاق المشكلات، هذا الصبر الذي اتجرع معه مرارت ثقيلة ولكن صبر ضروري فليست كل مشكلات الحياة تحل بالصراع الخشن بل أكثرها يحل بإدارة المشكلة بهدوء حتى أصل ببيتي وأسرتي و زوجي إلى بر الأمان. ما كان أغنانا عن كل هذا لو أن فائق أدرك أنني أتحمل عنه أعباء كثيرة، لو أنه بدلاً من أن يؤذيني بكلماته لكان مد إلي يد المساعدة، قليل من المساعدة كي أكون هذه الأنثي التي عرفها من قبل ويتمناها الآن، كي أكون أنا أيضاً ذات المرأة التي كنت عليها قبل أن ينطفئ جمالي وتذبل نضاراتي وأنا أجاهد من أجل سعادة كل من حولي، لكني أعود وأقول إن فائق ليس استثناءً من غالبية الرجال، هؤلاء الذين لا يدركون أن تحمل زوجاتهم لكل الأعباء هو بدافع الحب وإنهم لو أنصفوا لتحملوا بعض العبء ليس من أجل راحة زوجاتهم ولكن من أجل سعادتهم هم أنفسهم. على كل، لم تكن هذه هي كل خطواتي من أجل حياة هادئة مستقرة ومن أجل استعادة الأمان والطمأنينة التي افتقدتهما مؤخراً، كان على الآن أن أعتني بنفسي، أعتني بمظهري وقوامي، كان علي أن أستعيد فوقية التي قال فيها فائق أن الجمال غار منها والحسن خطب ودها ولكنه فاز بها، ياه يا فائق هل نسيت كل هذا، لا بأس، لازال أمامنا عمر ولازلت قادرة على صنع السعادة التي طالما تغنيت أنت بها. خمسمائة جنيه هي كل ميزانيتي، كي أعتني بنفسي ومظهري، بالطبع تعلمون تواضع هذا المبلغ اليوم، ولكن ببعض التدبير وبعض حيل فوقية أستطيع أن أدبر أمري ولنر كيف نمضي الأيام القادمة. يتبع