اعرف أسعار الفراخ البيضاء في بورصة الدواجن اليوم    الحكومة تنفي انتشار بطيخ مسرطن في الأسواق    قطع المياه عن قريتين في مركز ناصر ببني سويف لأعمال الصيانة غدا    معلومات عن نظام باتريوت.. واشنطن رفضت تزويد أوكرانيا به    شيماء البرديني: نتنياهو يريد استمرار الحرب للأبد ويستخدم شعبه كدروع بشرية    قبل مواجهة الترجي.. ماذا يفعل الأهلي في نهائي أفريقيا أمام الأندية العربية؟    هدف تاريخي ينتظر محمد صلاح في مباراة ليفربول ووست هام يونايتد اليوم    «رياضة القليوبية» تطلق مبادرة «العمل حياة بناء مستقبل» احتفالا بعيد العمال    حالة الطقس اليوم.. انخفاض درجات الحرارة ونشاط الرياح نهارا وبرودة ليلا    ضبط 16 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    فيلم عالماشي بالمركز الثالث في شباك التذاكر    ناهد السباعي عن مشاركتها في مهرجان أسوان: كانت تجربة ممتعة    عمرو دياب يتألق في أضخم حفلات صيف البحرين (صور)    حكم من مات ولم يحج وكان قادرا عليه.. الأزهر يوضح ما يجب على الورثة فعله    أستاذ «اقتصاديات الصحة»: مصر خالية من شلل الأطفال بفضل حملات التطعيمات المستمرة    «صحة كفر الشيخ» تنظم قافلة طبية لمدة يومين ضمن «حياة كريمة»    «الصحة» تعلن جهود الفرق المركزية في متابعة أداء مراكز الرعاية الأولية    الأوراق المطلوبة لاستخراج شهادات فحص المقبلين على الزواج للمصريين والأجانب    «الداخلية»: حملات أمنية لضبط حائزى المخدرات والأسلحة تضبط 56 قضية ب4 محافظات    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    طارق يحيى: المقارنة مع الأهلي ظالمة للزمالك    كوريا الشمالية تتهم الولايات المتحدة بتسيس قضايا حقوق الإنسان    صوامع الإسكندرية تستقبل 2700 طن قمح محلى منذ بدء موسم التوريد    سينما المكفوفين.. أول تعاون بين مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير ووزارة التضامن    حماس تتسلم رد إسرائيل بشأن الصفقة الجديدة    نظام امتحانات الثانوية العامة في المدارس الثانوية غير المتصلة بالإنترنت    اليوم.. استئناف محاكمة المتهمين بقضية تنظيم القاعدة بكفر الشيخ    تفاصيل جريمة الأعضاء في شبرا الخيمة.. والد الطفل يكشف تفاصيل الواقعة الصادم    إصابة 10 أشخاص إثر انقلاب أتوبيس في الشرقية    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    زلزال بقوة 4.1 درجة يضرب شرق تركيا    السبت 27 أبريل 2024.. نشرة أسعار الحديد والأسمنت اليوم    «اللتعبئة والإحصاء»: 192 ألفا و675 "توك توك" مرخص في مصر بنهاية عام 2023    كيف أدَّى حديث عالم أزهري إلى انهيار الإعلامية ميار الببلاوي؟.. القصة كاملة    برج الثور.. نصيحة الفلك لمواليد 27 أبريل 2024    المقاولون العرب" تنتهي من طريق وكوبري ساكا لإنقاذ السكان بأوغندا"    "الشيوخ" يناقش جودة التعليم والتوسع في التصنيع الزراعي، الإثنين المقبل    متى يحق للزوجة الامتناع عن زوجها؟.. أمين الفتوى يوضح    قبل 3 جولات من النهاية.. ماهي فرص "نانت مصطفى محمد" في البقاء بالدوري الفرنسي؟    بعد بقاء تشافي.. نجم برشلونة يطلب الرحيل    بعد رأس الحكمة وقرض الصندوق.. الفجوة التمويلية لمصر 28.5 مليار دولار    حزب الله يعلن استشهاد 2 من مقاتليه في مواجهات مع الاحتلال    سياسيون عن ورقة الدكتور محمد غنيم.. قلاش: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد.. النقاش: تحتاج حياة سياسية حقيقية.. وحزب العدل: نتمنى من الحكومة الجديدة تنفيذها في أقرب وقت    علي جمعة: الشكر يوجب على المسلم حسن السلوك مع الله    وزير الري: الاستفادة من الخبرات العالمية فى استثمار الأخوار الطبيعية لنهر النيل    المتهم خان العهد وغدر، تفاصيل مجزرة جلسة الصلح في القوصية بأسيوط والتي راح ضحيتها 4 من أسرة واحدة    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    بعد ارتفاعها.. أسعار الدواجن اليوم 27 أبريل| كرتونة البيض في مأزق    حكم الشرع في الإسراع أثناء أداء الصلاة.. دار الإفتاء تجيب    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    الأهلي ضد الترجي.. نهائي عربي بالرقم 18 في تاريخ دوري أبطال أفريقيا    يسرا اللوزي تكشف سبب بكائها في آخر حلقة بمسلسل صلة رحم.. فيديو    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    مقتل 4 عمّال يمنيين بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالتان ل«إينوك»


آلان سيليتو
افترق والدا »إينوك»‬ دون اتفاقٍ مسبق. كان في الثامنة من عُمره، حينها.
حدث ذلك صباح أحد الأيام، عقب ذهابه للمدرسة، ولذلك لم يدرك ما حدث إلي أن عاد إلي البيت مساءً.
استيقظ »‬جاك بودن» في السابعة، كالمعتاد، وقامت زوجته والدة »‬إينوك» بوضع إفطار يتكون من البيض ولحم الخنزير أمامه. قليلًا ما كانا يتكلمان معًا، وفي ذلك الصباح تحديدًا لم يقولا لبعضهما شيئًا، فقد كان كل واحد منهما مستغرقًا في أفكاره الخاصة، وخططه التي ينوي تنفيذها.
بدلًا من ذهابه إلي مسبك المعادن، حيث يعمل، استقل »‬جاك» الباص إلي وسط المدينة. بحث عن حمام عمومي، دخله بعد أن دفع بنسًا واحدًا. خلع »‬أوفرول» العمل، ودسّه داخل كيس ورقي، كان قد وضعه في جيبه خلسة وهو يغادر المطبخ، صائحًا:
إلي اللقاء حبيبتي، أراكِ عصرًا.
سار باتجاه محطة القطار، مرتديًا بدلة علي قدرٍ من الأناقة. هناك، التقي ب»‬رينيه» التي كانت تحمل حقيبتيّ سفر، وضعت في إحداهما أشياءه القليلة التي هرّبها لها في لقاءاتهما المختلسة، خلال الأسبوعين الأخيرين. كان زملاؤهما في المصنع قد لاحظوا جميعًا تعلقهما ببعضهما. لم تكن »‬رينيه» متزوجة، لذلك لم يكن هناك ما يمنع هروبها معه؛ أما ضمير »‬جاك» الذي كان يؤلمه كضرسٍ مسوّس خلال الأشهر الستة التي عرفها فيها، فقد عالج نفسه بنفسه؛ ومع ذلك، شعر الاثنان برهبة الموقف ما إن ركبا القطار، لكنهما اختارا التزام الصمت، حتي لا يظن أحدهما أن الآخر قد بدأ يتراجع عن قراره. طوال الرحلة، لم يتبادلا سوي كلمات معدودة. فكرت »‬رينيه» في أبويها، وما سيقولانه عندما يتأكدان من مغادرتها. تمحورت أفكار »‬جاك» حول »‬إينوك»، لكنه يعرف بأن الطفل سيكون بأمان مع أمه، وأنها ستنشئه علي النحو الصحيح. سوف يبعث لها برسالة من »‬لندن»، يخبرها فيها برحيله، في حال لم تلاحظ غيابه.
فور خروج »‬جاك» لوردية عمله النهارية المعتادة، سارعت زوجته »‬إيدنا» بالاهتمام ب»‬إينوك». راقبته وهو يأكل، باهتمام. نظر إليها بعينين يثقلهما النعاس، ولم يبادلها الابتسام.
قبّلته، وهي تضع ستة بنسات في جيبه، ثم أرسلته إلي المدرسة، وصعدت إلي الطابق العلوي لتقرر أي الأشياء ستأخذ معها. لم تكن مسألة صعبة، فالحاجيات التي تستطيع حملها معها قليلة. انتهي الأمر بحقيبتين كبيرتين، وثالثة صغيرة.
لا زال أمامها متسعٌ من الوقت. نزلت إلي الطابق السُفلي لشُرب المزيد من الشاي، وتناول الإفطار. إنهما متزوجان منذ عشر سنوات، ولسبعٍ منها كانت تشعر بالاختناق. مشكلة »‬جاك» هي عدم إحساسه بالقلق إزاء أي موقف، وثقته التامة في كل مَن حوله، وتساهله الشديد لدرجة تُتلف أعصابها. بل إنه لم يُظهِر أدني اهتمام بأي امرأة ثانية. المشكلة في هذا الصنف من الرجال أنه لا يلاحظ أبدًا عندما تكونين حزينة أو مستاءة، ولو فعل فإنه يتهمكِ بأنكِ السبب.
هناك العديد من الأمور المزعجة في هذه العلاقة، لكنها مع اقتراب رحيلها فقدت القدرة علي تذكرها، وهو ما ضاعف من إحساسها بالانزعاج، وأشعرها بأن الوضع في حقيقته أسوأ مما كانت تظن. كزوجين، توقفا عن مقارنة الفروق بينهما، بالتوقف عن الحديث معًا من الأساس. كانت رؤية أحدهما للآخر، تصيبه بالخرس. في بداية تعارفهما، منذ سنواتٍ طويلة، كانا قليلي الكلام، ونظرًا للانجذاب المتبادل بينهما، اعتقدا بأن مشاعرهما حبٌ من النظرة الأولي. هذه الأيام، ما عادا يتصارحان بأحاسيسهما، لتيقنهما من أنها مسألة غير مُجدية. عند الوصول لهذه النقطة، ينبغي فعل شيء. حياتهما معًا ليست كئيبة، بالضبط، ولكن لم تعد هناك أي روابط تجمع بينهما. لو وُجِدَت، لتحملته، علي الأغلب، مهما كان سيئًا.
لأسبوعٍ كامل، ظلت تحاول كتابة رسالة، لتبعث بها من المكان الذي ستذهب إليه، لكنها فشلت في أن تخط شيئًا أكثر من: »‬سأتركك للأبد، فتوقف عن انزعاجك الدائم مني. اهتم بإينوك. لقد اكتفيت، وسوف أرحل». أعادت قراءة الخطاب، ثم وضعته داخل حقيبة يدها وأغلقتها بإحكام.
بعد سنوات من التفكير في المسألة، لم تعد متأكدة مما ستفعله. لديها أختٌ في مدينة »‬هَلّ»، يمكنها أن تقيم لديها لحين حصولها علي وظيفة وحجرة تؤجرها. لم تفكر في أكثر من ذلك. هذا كل ما ستفعله الآن. ما إن تبدأ في تنفيذ خطتك، لن يستطيع شيء إيقافك. لم تكن سعيدة وهي تنفذ قرارها.
قبل مغادرتها، أدارت الساعة وقلبتها باتجاه الحائط. خرجت، يغمرها شعورٌ بالارتياح، لمعرفتها بأن »‬جاك» سيعود بعد »‬إينوك» بقليل، وأنه سيتولي مسألة إطعامه. إنهما يغدقان بالحب علي »‬إينوك». إنها تدرك ذلك. أكثر مما ينبغي ربما. كان عليهما الاحتفاظ ببعض هذا الحب لبعضهما، لكنهما صارا يبخلان بمشاعرهما، ويخجلان من إظهارها.
أغلقت الباب وراءها، دون أن تقفله بالمفتاح، ليتمكن من الدخول. إنه صبيٌ ذكي، يمكنه إشعال مدفأة الغاز بنفسه، إن أحسّ بالبرد. نادتها »‬مسز ماكلي» من الباب الخلفي لمنزلها، وسألتها إن كانت في طريقها لتمضية إجازة في مكانٍ ما. ضحكت »‬إيدنا» وقالت بأنها في طريقها لزيارة والدة »‬جاك» في »‬نيذرفيلد»، وأنها تحمل لها في الحقائب قصاصات وبواقي أقمشة، لتصنع منها أغطية.
ماما!
صاح »‬إينوك» فور دخوله من الباب الخلفي.
ماما!.. أين الشاي؟
كان قد جاء راكضًا، بجيبين ممتلئين بالبلي. وجهٌ مستديرٌ، شاحب، تغطي جبينه خصلات من شعر أحمر. شفتان تلتصق بهما آثار الحلوي.
طاف بعينيه في المطبخ الخاوي، وفكّر بامتعاض بأنها منهمكة في النميمة مع جاراتها. خلع معطفه وألقي به علي المقعد بإهمال. البيت هادئ أكثر من المعتاد. لم يعرف السبب. أعاد الساعة لوضعها الصحيح، ثم دخل المطبخ ووضع إناء الشاي علي النار.
لم يكن الشاي يشبه ذلك الذي تصنعه أمّه. إنه خفيفٌ جدًا. لكنه مُغرٍ بسبب سخونته. وضع فيه الكثير من السُكّر ليمنحه طعمًا. جلس إلي الطاولة يقرأ مجلة مصورة.
كان الوقت أول الربيع، والظلام يحلّ مبكرًا. أضاء النور، وذهب ليسدل الستائر. استطاع جذب النصف الأول من الستارة، لكنه فشل في تحريك النصف الآخر، فبقيت مساحةٌ مكشوفةٌ من زجاج النافذة، ذكّرته بفمٍ مفتوح. أحس بالضيق من المنظر، لبعض الوقت، ثم قرر تجاهله تمامًا ومشاهدة التلفزيون.
أحسّ باشتياقٍ لأمه، ثم تساءل عن مكان أبيه. ربما ذهبت أمه لزيارة خالته »‬جيني»، وفاتها باص العودة. ربما سقط والده في المصنع، داخل أحد القوالب الضخمة مثلًا. في تلك الحالة، لن يخرج من الحادث سالمًا. لن يخرج أصلًا، إلا كهيكل عظمي.
حاول إعداد شيء يأكله. تناثرت علي الطاولة أشياءٌ عدّة: برطمان مربي، وصحن زبدة وسكين، وفتات خبز في كل مكان. لم ينزعج كثيرًا لفكرة وفاة والده، فحين تركاه بمفرده لمدة ساعة كاملة، قبل بضعة أشهر، فكّر فيما سيفعله في حال عدم عودتهما؛ لكن قبل استرساله في التخطيط لحياته دونهما، فوجئ بفتحهما الباب. حينها، وجّها له أوامر صارمة بتناول طعامه، والتوجه بعدها إلي فراشه، حتي لا يكون متعبًا في الصباح. تذكر ذلك الموقف، فتأكد من أنهما سيعودان سريعًا. حين توفي والد »‬جوني بُوتِل» في حادث سيارة لوري، العام الماضي، غبطه »‬إينوك»، لكنه لاحظ أن »‬جوني» لم يكن سعيدًا.
سواء عادا أم لا، كان البقاء في البيت بمفرده، أمرًا مسليًا. إنه سيد المكان. بإمكانه إعداد إبريق ثانٍ من الشاي، إذا أراد، أو إبقاء المدفأة مشتعلة طالما راق له ذلك. اهتزت الصورة علي الشاشة، لكنه تكاسل عن ضبطها، رغم أن الرؤوس علي سطحها تناوبت علي الحركة صعودًا ونزولًا. حين واصل النظر للشاشة، لنصف دقيقة، بدا أن الرؤوس تتحرك في دوائر. تناول ملعقة أخري من مربي التوت، من البرطمان مباشرةً، ثم رشف بعض الشاي الفاتر.
جلس علي مقعد أبيه بجوار المدفأة، مادًّا ساقيه علي السجادة، ومتأهبًا في الوقت ذاته للقيام إذا سمع صوت الباب وهو يُفتَح، والتوجه لطاولة الطعام بسرعة، قبل دخولهما. لا يحب والده أن يراه جالسًا علي كرسيه، لكنه يحب أن يجلسه علي ركبته. كل ما يحتاجه الآن، لتكتمل الصورة، هو سيجارة. فتش عن واحدة في دولاب الأواني القريب من السُفرة، وعلي الرف القريب، لكن جهوده باءت بالفشل. سيكتفي بمحاولة التصفير بصوتٍ رجوليٍ عميق. »‬جوني بُوتِل» محظوظ، فرغم فقده والده إلا أن لديه أختا.
إذا لم يأتِ أي منهما الليلة، فلن يذهب إلي المدرسة في الغد. سيوبخانه حتمًا عند اكتشافهما الأمر، لكن ذلك لا يهم، ربما توفيا أصلًا. صارت الساعة الثامنة. تساءل عن مكانهما. سيرجعان في أية لحظة. شعر بالندم لأنه تمني ألا يعودا أبدًا، منذ قليل. قد يعاقبه الله علي تلك الفكرة، بمنعهما من العودة فعلًا.
تثاءب. رفع الساعة ليعيد ملأها وضبطها. هذا ما يتوجب عليك فعله مساءً، وبخاصّة إن غلبك النعاس. إن لم يعودا سريعًا، فسوف يضطر للصعود إلي غرفته في الطابق العلوي لينام. لكنه قرر النوم علي الأريكة، أمام المدفأة، واستخدام بعض المعاطف كغطاءٍ له. لا يجرؤ علي الصعود لحجرته، بمفرده. يبدو أنهما قررا إمضاء الليل في الخارج. هذا أمرٌ واقع. ربما تأخرا في العودة لأنهما ذهبا لإتمام طلاقهما.
حين تأخر والدا »‬توم برَنت» في موقفٍ مشابه، كان ذلك بسبب ذهاب أمه للمستشفي لجلب طفل جديد. لكن تم اصطحابه إلي منزل الجيران، قبل أن يضطر للجلوس بمفرده لوقتٍ طويل.
فتش الرف ثانيةً، بحثًا عن سيجارة يضعها بين شفتيه تقليدًا لأبيه. لم يجد شيئًا. نظره ممتاز إذن، ذلك أنه لم يرَ سيجارة في المرة الأولي أيضًا! لا يزال جائعًا، رغم تناوله الخبز والمربي. ذهب إلي المطبخ ليأكل بعض الجبن.
انقطع التيار الكهربائي، آخذًا معه الصورة المهتزة علي شاشة التلفزيون. عثر علي بطارية إضاءة في درج التسريحة. بحث عن »‬شلن» يضعه في عدّاد الكهرباء. لحُسن الحظ، انبعث من المدفأة ضوء وردي خافت، ساعده علي رؤية أركان الغرفة. بدأ بتحريك البطارية في كل اتجاه، كأنها أضواءٌ كاشفة تبحث عن طيارات العدو.
بدأ يدندن بالأغنية التي يرددها والده أحيانًا حين يسكر.. »‬طريقٌ طويلٌ إللي تيبيراري». سرعان ما تثاقل جفناه. أغمض عينيه، وقطعة الجبن لا تزال بين أصابعه. تمني أن يستغرق في النوم قبل وصولهما، كي يندما علي تأخرهما في العودة للبيت، وحتي لا يؤنبانه لعدم نومه في فراشه.
سار إلي شمّاعة المعاطف في المدخل. معطفا أبويه ليسا في مكانهما المعتاد. كان عليه أن يدرك ذلك، طالما أنهما ليسا في البيت. ليس لديه ما يتغطي به، لكنه مع ذلك رفض الصعود لإحضار بطانية. المسألة مخيفة. كأنك مضطر للسير في الغابة ليلًا. لقد مرّ بعددٍ من التجارب المخيفة، منها عبوره الشارع ركضًا، أمام باص. كذلك مشاهدته ل»‬فرانكنشتاين» علي التلفزيون. لكنه لن يمشي في الغابة ليلًا، أبدًا. »‬جيمي كيمب»، الكاذب، يدّعي بأنه فعل ذلك.
دفع المنضدة باتجاه خزانة الأواني. استند بكوعيه علي سطح الخزانة، ليتمكن من رؤية نفسه في المرآة البيضاوية التي تعلوها. تأمل وجهه المستدير وأذنيه الصغيرتين، في الضوء الوردي الخافت. الظلال تغطي النصف الأسفل من وجهه. حرّك شفتيه بإصبعين، ثم أخرج لسانه محاولًا لمس أنفه به. حاول إخافة نفسه بهذا المنظر، هربًا من خوفه الأكبر من السكون البالغ في أرجاء البيت، الذي يكاد يبكيه.
لم يعد يتذكر الدروس التي أخذها في المدرسة ذلك النهار. حاول أن يتخيل والده وهو يفتح الباب وينير الضوء، لكنه فشل في استعادة ملامحه. شعر نحوه بكراهيةٍ مفاجئة، وتمني أن يقتله بضربة فأس، يومًا ما. حتي وجه أمه كان غائم الملامح، لكنه لم يرغب في قتلها. أحس بحرارة شديدة في ركبتيه، فابتعد عن المدفأة قليلًا، ليبردهما.
بدأ في لف السجادة علي هيئة اسطوانة. اتضحت ملامح أبويه في عينيه، فجأةً. تمني عودتهما. لو سألاه ما الذي يفعله في السجادة بالضبط، لأجابهما:
ما الذي كنتما تتوقعان مني فعله؟ عليّ أن أتغطي بشيء عند نومي علي الأريكة، أليس كذلك؟
لعل الموهبة الوحيدة التي يمتلكها، هي قدرته علي قراءة الساعة ومعرفة الوقت. تعلم ذلك منذ ستة أشهر، وها هو بحاجةٍ إليها الآن. الساعة لا تتأثر بانقطاع التيار الكهربائي. إنها تصدر تكّاتها المعتادة. صوتها يزيد من إحساسه بالإرهاق.
دفع الأريكة بصعوبة، بالقرب من المدفأة. انتصارٌ جعله متيقنًا من أنه في يومٍ من الأيام سيصبح قويًا كأبيه، أينما كان الآن. يبدو أن غاز المدفأة سينتهي قبل حلول الصباح. قام بتخفيف حرارتها، وحرّك المؤشر إلي الرقم 2. استلقي علي الأريكة، وغطي نفسه بالسجادة. شمّ فيها مزيجًا من روائح حجر الخفاف وصابون قديم.
استنشق هواءً باردًا. شعر بأنه يحمل في طياته ضوء النهار، رغم عدم قدرته علي فتح عينيه. مدّ ذراعه لأقصي ما يستطيع، متلمسًا حرارة المدفأة. لم تعد مشتعلة، ما يعني أن غاز الطهي قد انتهي أيضًا. تساءل عن سبب فشله في فتح عينيه. فكّر في تحطيم كرسي خشبي وإشعال المدفأة التقليدية به، لكنه تذكر بأن فتحتها مغطاة بمدفأة الغاز، المثبتة أمامها. شعر بالإحباط، كان يتمني الجلوس بقربها، واضعًا إبريق الشاي بداخلها إلي أن يسودّ قعره، ويغلي الماء بداخله.
حين تمكن من فتح عينيه أخيرًا، كان عقربا الساعة يشيران إلي السابعة والنصف. علي كل حال، لم يتبقَ عود كبر يت واحد، يشعل به أي شيء. ذهب إلي المطبخ ليغسل وجهه.
كان عليه أن يقنع بكوبٍ من الحليب، أضاف له ملعقة سكر. تناول المزيد من الخبز والجبن. راقب الناس في الشارع، متجهين إلي أعمالهم. قال لنفسه بأنه لو استمر غيابهما، فسوف يذهب ليعيش مع جدته، وسيضطر لتغيير مدرسته، لأنها تسكن في »‬نيذرفيلد»، علي بُعد أميالٍ عديدة.
كان قد تبقي لديه بنسان، من الستة بنسات التي أعطته إياها أمه في اليوم السابق. سيكفي ذلك لشراء تذكرة أطفال لباص يقله إلي »‬نيذرفيلد».
قال لنفسه:
هذا كل ما يمكنني فعله.
أدار الساعة باتجاه الحائط، كما تركتها أمه، وتساءل إن كان عليه إعادة قطع الأثاث إلي مكانها الصحيح، حتي لا يغضبا عند عودتهما ورؤيتهما لهذه الفوضي. تمني ألا يشعرا بالغضب. لقد تركاه بمفرده طوال الليل.
شقّ طريقه في زحام الركاب، ليصل إلي الطابق العلوي من الباص. من هنا، يستطيع مشاهدة أسطح السيارات، ورؤية ركاب الباصات الأخري في المدينة. قال لنفسه مُطَمئِنًا:
مَن يدري؟.. قد ألمحهما متجهين إلي البيت، ليضعا شلنًا في كلٍ من عدّاديّ الكهرباء والغاز، من أجلي.
ناول المحصّل ثمن تذكرته.
كان الطريق مزدحمًا، وبخاصّة في منطقة »‬كانينج سيركس». تمني لو أنه حمل معه بعضًا من الخبز والجبن. دخّن عدد من الركاب سجائر كريهة الرائحة، وتحدث طلبة »‬بيبلز كوليدج» مع بعضهم بأصواتٍ مرتفعة للغاية، إلي أن هددهم المحصل بإنزالهم من الباص، إن لم يلتزموا الهدوء.
كان يعرف اسم الشارع الذي يقع فيه منزل جدته، لكنه لا يعرف كيفية الوصول إليه من محطة الباص. دَلّه ساعي البريد إليه. تقع »‬نيذرفيلد» علي أطراف »‬نوتينجهام». السماء مغطاة بغيوم سوداء، تشبه القرنبيط، تخبّيء الشمس وراءها. هبّت ريحٌ من جهة »‬كوليك وودز».
حين فتحت جدّته الباب الخلفي، رأته يعبث في مقبض جهاز عَصر الملابس القديم. أمرته بالتوقف، ثم سألته بدهشة عن سبب حضوره في هذه الساعة.
لقد ذهب بابا وماما..
جرّته إلي المطبخ، وهي تمطره بالأسئلة:
ذهبا؟.. ماذا تقصد؟
لمح النار المشتعلة في مدفأة الفحم، وشمّ بقايا رائحة لحم خنزير. لابدّ أنها أعدّته لإفطار »‬توم»، أصغر أبنائها، الذي لايزال يعيش معها.
التوت قسمات وجهه من فرط الألم. قالت الجدة:
كلا.. لا. عليك ألا تبكي. ما الذي حدث لتبكي علي هذا النحو؟
صبّت له شايًا ساخنًا. ثقيلاً ومليئاً بالسكر. شعر بالندم لبكائه أمامها.
ابتعدت قليلًا، وتمعنت به لتطمئن أنه علي ما يرام:
هل أنت بخير الآن؟
أومأ برأسه، مجيبًا:
لقد نمتُ علي الأريكة.
طوال الليل؟.. أين ذهبا؟
أحسّ بقلقها. قال:
لقد تعرضا لحادث.
سكب الشاي في طبق الفنجان، كي يبرد قليلًا. ناولته بيضة مقلية، ووضعت أمامه خبزًا وزبدًا. قالت بوجهٍ مكفهر:
»‬جاك» ابني لا يتعرض لحوادث أبدًا.
جدتي.. لو أنهما ماتا.. هل بإمكاني العَيش معك؟
نعم. يمكنك ذلك. لكنهما لم يموتا. لا تقلق يا صغيري.
قال ممتلئًا بالثقة:
لا بد أن هذا ما حدث.
أجابته:
حسنًا، دعني أنتهي من تنظيف البيت، ثم نذهب معًا لاكتشاف ما حلّ بهما.
راقبها وهي تكنس المكان، ثم وهي تفرك أرضية المطبخ وتشطفها بماء بارد. قالت وهي تضحك:
عليّ أن أبقي البيت في حالة نظافة دائمة، وإلا غادره عمّك »‬توم». سوف يتزوج في يومٍ من الأيام، علي كل حال، كما فعل إخوته الثلاثة من قبل. والدك الأحمق أحدهم!
في طريقهما إلي محطة الباص، ظلت ممسكةً بيده. قال لنفسه بأنه حين يغادر »‬توم» منزلها، ستأخذني لتعتني بي. أحسّ كما لو أن أعوامًا طويلة مرّت علي آخر لقاء جمعه بأبويه. بدأ يحب إحساس المغامرة المصاحب للموقف. من النادر أن يقطع طرقات المدينة أكثر من مرة في اليوم. عليهما مع ذلك ألا يغيبا عنه طويلًا.
بدأت تُمطر. احتميا بمدخل متجرٍ صغير، في انتظار الباص. لم يكن مزدحمًا بالركّاب في هذه الساعة من اليوم. جلسا في الطابق السفلي، لأن الجدة لم ترغب في صعود السلّم. سألته:
هل أقفلت الباب بالمفتاح؟
لقد نسيت.
فلنأمل ألا يدخل أحد البيت.
لم تعد به كهرباء، ولا غاز. شعرتُ بالبرد حين استيقظت من النوم.
لا شك أنك كنت بردانًا، لكنك ولدٌ كبير، كان عليك الذهاب لمنزل الجيران. كانوا سيعدون لك بعض الشاي علي الأقل. مسز »‬آبتون» كانت ستفعل ذلك، ومسز »‬ماكلي» أيضًا. أنا متأكدة.
كنتُ أظن بأنهما سيعودان في أية لحظة.
حين غادرا الباص، وسارا في شارع »‬إلكيستون»، قالت له من جديد:
عليك دائمًا أن تذهب إلي الجيران.
لم تعد يدها باردة من ماء مَسح المطبخ. استعادت أصابعها دفأها.
ركل حجارة الشارع بطرف حذائه. قالت مؤنبة:
لا تفعل ذلك.
لو تكرر الأمر، فسوف يلجأ للجيران حتمًا، لكنه تمني ألا يحدث ذلك. في المرة القادمة، سينام في فراشه، ولن يستسلم للخوف.
دخلا المنزل من الباب الخلفي. كل شيء في مكانه. أراد أن يقول ذلك، لكنه لم يتكلم. بدا البيتُ الخاوي ميتًا، ولم يعجبه ذلك الشعور. لم يتحمل البقاء بمفرده. لحق بجدته إلي الطابق العلوي. دخل جميع الحجرات، آملًا أن تكون قد عثرت عليهما في مكانٍ لم يخطر بباله.
الأسِرّة مرتبة، وأبواب خزانات الملابس مقفلة. إحدي النوافذ مفتوحة قليلًا. أغلقتها بإحكام، وقالت له:
لننزل إلي الطابق السفلي. ليسا هنا.
وضعت شلنًا في عدّاد الغاز، ثم بدأت بإعداد إبريق من الشاي. قالت بانزعاج:
لنشرب بعض الشاي، بينما أفكر في هذا الوضع الملعون! يا له من موقف عجيب!
لم يسمعها تتذمر بهذا الشكل، من قبل. لم يرها بمثل هذا القلق والتوتر أبدًا. أحسّ بارتياح. اتجهت إلي حجرة الاستقبال في مدخل البيت، فتبعها.
غمغمت وهي تلمس الستائر وأغطية المقاعد:
البيتُ نظيفٌ جدًا علي كل حال. عليّ أن أقرّ بذلك. لكن ذلك ليس كل شيء.
قال موافقًا:
نعم. النظافة ليست كل شيء.
لمح علي الأرض رسالتين أسقطهما ساعي البريد من فتحة الباب الأمامي للبيت. راقب جدته وهي تنحني بجسدها العريض لالتقاطهما. غمره يقينٌ تامٌ بأنهما قد ماتا.
العنوان الأصلي للقصة:
Enoch's Two Letters


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.