يقدم رفاييل كورماك كتابه «منتصف الليل فى القاهرة.. نجمات مصر فى العشرينيات الصاخبة» كدراما مسرحية من ثلاثة فصول. يُفتح الستار على مشهد موسع للأزبكية فى القرن التاسع عشر حينما بدأ الخديوي إسماعيل بتصميم مركز جديد تماما للقاهرة، ووظف جان بيير ديشان الذى خطط حديقة بولونيا بباريس لتحقيق هذا الغرض. اختفت القصور القديمة المتداعية لتتيح الفرصة أمام الشوارع الجديدة الواسعة، وبدأت حدائق الأزبكية الجديدة فى الظهور بالمكان نفسه الذى جفف فيه جده محمد على البحيرة القديمة. خطط إسماعيل أيضا لبناء سلسلة من أماكن الترفيه الفخمة، وسرعان ما ظهر مسرح فرنسي، وسيرك، وميدان سباق للخيل، ومسرح بحديقة، ودار أوبرا على الطراز الإيطالي، هذا كله فى الفترة ما بين عامى 1869 و1872 «فى أزبكية إسماعيل، ولدت حياة الليل والترفيه المصرية الحديثة واستمرت فى الازدهار». يشرح كورماك الحاصل على الدكتوراه فى المسرح المصرى من جامعة أدنبرة والباحث الزائر بجامعة كولومبيا كيف كانت قصة الأزبكية هى قصة مصر الحديثة فى الوقت نفسه، حيث تمتعت القاهرة بحياة ثقافية ثرية بالنسبة لسكان المدينة فى بداية القرن التاسع عشر، لكن العقود القادمة ستغير وجه مصر وحياتها الليلية- بما جعلها تختلف تماما عن عهدها السابق. وستتطور مصر من ولاية مهمة من ولايات الإمبراطورية العثمانية إلى دولة حديثة مزدهرة وملهمة سياسيا، بالتزامن مع ذلك التحول والشكل الجديد للدولة تسيطر المسارح ودور السينما والكباريهات والتياترات على القاهرة وبالتحديد فى حى الأزبكية، لتساهم فى التحول وتصبح شاهدة عليه فى الوقت نفسه. اقرأ أيضًا | مجدى يعقوب: قلب ماعت الباحث عن الحقيقة تاريخ آخر للنسوية لكن الأهم، وما حرص عليه المؤلف بامتداد صفحات الكتاب هو نقل الحكاية من خلال عيون النساء اللاتى صنعن تلك الحياة، الجيل الأول من النساء الذى شهد وشارك فى ذلك التحول المذهل: منيرة المهدية، وفاطمة رشدي، وروزاليوسف، وأم كلثوم، وبديعة مصابني، وتحية كاريوكا، وغيرهن. ويرصد المحاولات الأولى للخروج من الحرملك لإنتاج فن احترافي، والأبواب التى فتحتها صناعة الترفيه للنساء فى مصر، وبالطبع النضال الذى خاضته تلك المجموعة لتحفر لنفسها مكانا فى عالم احتكره الرجال. ساهمت تلك المجموعة بوضوح فى تشكيل المشهد الفنى الأكثر ثراء فى بدايات القرن العشرين، والذى تزامن مع نشأة الحركة النسوية، حيث شهدت العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الخروج التدريجى للنساء فى المجال الفنى بالتحديد، كما لخصت الفنانة فيروز كرواية فى كتابها عن الأغنية والصدارة نقلا عن كورماك نفسه فإن «الفنانات سبقن ظهور الحركات النسوية باكتساب مساحة واسعة فى المجال العام، وحملن على عاتقهن المغامرة باقتحام المجال الفنى وسلوك مسارات صعبة وامتلاك المشروعات الفنية فى عالم ذكورى قاس». يقول المؤلف أنه منذ بدء بيزنس الترفيه الحديث فى أواخر القرن التاسع عشر، كان الناس يخشون من أنه قد يفسد الآداب العامة، خصوصا المتعلقة بالجنس منها، وبالطبع كانت النساء هن المستهدفات من هذه الشكاوى فى أغلب الأحيان «قلما اقترح الناس على النساء ألا يمثلن أو يغنين على الإطلاق، لكنهم سعوا إلى التحكم ومراقبة محتوى عروضهن» فى النهاية ثبت أن هذه الاحتجاجات قد تنجح أحيانا لكنها عادة ما تأتى بنتائج عكسية. يصف كيف كان عالم المسرح الآخذ فى الاتساع فى بداية ما يمكن اعتباره «الفن الاحترافي» ذكوريا بشكل كبير، حتى إن الصبية فى تلك الأيام الأولى كانوا يلعبون دور الإناث لأنه لم يكن ممكنا العثور على من تقبل تمثيل تلك الأدوار «كان ينظر إلى مهنة «الممثلة» فى مصر أنها مرادف للفجور بل والبغاء، ولم تكن تعتبر مهنة محترمة بالنسبة للنساء». وكان للمهاجرين من الشام الفضل فى كسر هذا المحظور وتخطى تلك العقبة، وبدأت المصريات فى الالتحاق بالفرق الفنية ومزاملة الأجانب والشوام اللاتى وفدن على مصر هربا من الاضطهاد العثماني. وبالطبع امتلأت كتابات تلك الفترة بالغضب وبكراهية للنساء فى تلك الأدوار، والإصرار على إظهار قبحهن، اللافت أن أكثر ما كان يزعج هؤلاء الكتاب هو تلك القوة التى تمارسها الراقصات والمغنيات على عقول المشاهدين. كانت صالات الرقص والكباريهات فى القاهرة مع نهاية القرن «مكانا يمكن الوصول إليه للتحرر» حتى وإن كان قائما فى جزء كبير منه على تسليع أجساد النساء واستغلالهن! لكن بعض النساء تمكن من «استغلال النظام» لصالحهن لتحقيق قدر كبير من السيطرة على حياتهن والتأثير أيضا فى الآخرين. كانت شفيقة القبطية مثلا ملكة التياترات فى تلك الفترة من القرن التاسع عشر، وكانت حسب ما يرصد المؤلف تدير صالتها الخاصة، واشتهرت بإغواء الطبقة العليا فى مصر، وكسبت ما يكفى من المال لشراء بيوت خاصة. يجمع المؤلف عدة قصص يمكن من خلالها ملاحظة كيف تحولت شفيقة إلى شيء أسطورى وكيف نمت حولها الحكايات بحيث أصبح من المستحيل فصل الحقيقة عن الخيال. بداية من هروبها من عائلتها المسيحية وحتى أصبحت نجمة فى صالات الرقص بالأزبكية، وكيف طورت الحركات الراقصة وأدخلت رقصات جديدة كرقصة الشمعدان التى فتنت أثرياء القاهرة وضيوفها الأجانب حتى قيل إن بعضهم يغسلون قدميها بالشمبانيا، وقيل إن أحدهم فتن بها إلى حد أنه سقى المشروب لخيولها، يصف المؤلف حياتها فيقول إنها كانت ترتدى ملابس مغزولة بالذهب وأحذية بنعل ذهبى أيضا ومرصعة بالأماس وتعيش فى فيلا كبيرة جنوب الأزبكية، لا تبعد كثيرا عن قصر عابدين الملكي، وفى الوقت الذى كان فيه النبلاء والارستقراطيين فقط من يتجولون بعرباتهم الخاصة، كان لديها عربتان صنعتا خصيصا من أجلها. بحث المؤلف أيضا فى أنواع مختلفة وجديدة من السجلات، إذ يظهر اسمها فى سجلات الشرطة السرية، فيبدو أنها وصلت إلى مرحلة من الأهمية والخطورة وجب معها اطلاع الخديو نفسه على نشاطها، ظهرت بالتحديد فى التقارير التى أرسلتها شبكة المخبرين إلى الخديوى عباس حلمى الثاني، ويقول المؤلف إنها تُظهر جانبا سريا آخر لشفيقة، وهو أنها لم تكن فقط مجرد راقصة كاريزمية، بل أيضا مديرة ماهرة، استغلت السلطات لصالحها، حيث أقامت علاقة غرامية مع المساعد البريطانى لقائد شرطة القاهرة، وقيل إنه كان مفتونا بها إلى درجة أنه وضع عدد من الرجال تحت تصرفها ك»قوة شرطة خاصة بها». الغريب أن النهاية جاءت مغايرة تماما لتلك الحياة الصاخبة، إذ تضاءلت شعبيتها فى أوائل القرن العشرين، وفى السنوات الأخيرة قبل وفاتها عاشت وحيدة ومفلسة، وجاء فى أحد كلمات نعيها أنها رحلت «فى غرفة حقيرة فى درب البرقى أحد الدروب الملتوية فى شارع كلوت بك. ماتت فقيرة بائسة... ولم يشيع جنازتها أحد ممن نعموا برقصها وأدركوا سر فنها وسحرها». وهى النهاية نفسها تقريبا التى نقرأها فى السير الذاتية لغالبية بطلات الكتاب، أو فصل المسرحية الثاني. سلم العار! مع افتتاح محطة الترام فى 1896 أصبحت الأزبكية مركز القاهرة الحديثة، لكن الجهود المبذولة للتأكيد على احترام المنطقة لاقت آذانا صماء كما يقول المؤلف، فبعد احتلال مصر فى 1882 فرضت الإدارة البريطانية نظامها وكانت تجارة الجنس أحد «أهدافهم الإصلاحية». خلال ثمانيات القرن التاسع عشر لم يكن البغاء محظورا، إلا أن البريطانيين نظموه قانونيا بشكل أكثر صرامة، وحولوا شارعان فى الأزبكية وهما شارع كلوت بك ووش البركة إلى «منطقة الضوء الأحمر» أو حى الدعارة المصرح بها، فإلى جانب المسارح والتياترات ازدهر شكل آخر من أشكال الحياة الليلية فى الأزبكية وهو بيوت الدعارة، وبالتالى ظهر على الفور «سلم العار الهرمي» على رأسه جاء المسرح المحترم، ثم التياترات، فى حين استقرت بيوت الدعارة فى قاع الهرم ودرجاته السفلية «أصر الممثلون والممثلات أنهم ليسوا مغنيات أو راقصات كباريهات، وأصرت مغنيات الكباريهات والراقصات أنهن لسن عاهرات. لكن الحواجز بين الثلاثة كانت أكثر مرونة مما أراد الكثيرون الاعتراف به». التحول الأبرز جرى مع الحرب العالمية الأولى، حيث تسبب تدفق أعداد ضخمة من جنود الإمبراطورية البريطانية بما فيها أستراليا ونيوزيلندا والهند فى تغير نوعية الزبائن، وخلق أجواء جديدة تماما فى القاهرة وفى الأزبكية بطبيعة الحال «أصبحت القاهرة المعزولة عن أى قتال فعلى شيئا أشبه بقاعدة عمليات ومكانا للجنود فى إجازة للاسترخاء» مع ما جره ذلك من فوضى ومن تغيير فى شكل «الترفيه» المقدم أيضا، حيث ظهر نوع جديد وهو مسرح الريفيو أو مسرح الاستعراض الغنائى وصارت الدراما أكثر صخبا وحيوية، وكان على رائدة المسرح الغنائى وقتها منيرة المهدية الاستعداد لمنافسة ليس فقط الفرق المسرحية العربية الجادة بل موجة «الفودفيل» المستحدثة أيضا. وخلال فترة الحرب كذلك ولد «مسرح الفرانكو-آراب الغنائى وقدم بمزيج من العربية والفرنسية وضم ممثلين وراقصين ومغنيين أوربيين وعرب وكان نجيب الريحانى من أهم رواد هذا النوع بشخصية «كشكش بيه». مع هذه التغييرات كلها ظهرت «جغرافيا جديدة» بالأزبكية، أبرز ملامحها كان ظهور مبانى القرن العشرين فى شارع عماد الدين والتى حلت محل تياترات القرن التاسع عشر القديمة، حيث شهد العقدان الأول والثانى من القرن العشرين موجة قوية من الانشاءات الجديدة شملت المبانى السكنية الفاخرة والكباريهات ودور السينما والمقاهى والعديد من المسارح. ومنح هذا الجو الجديد مجموعة من الفرص لظهور مجموعة جديدة من النجوم والنجمات كان على رأسها يوسف وهبي. ثورة 1919 رأى كورماك أن الدور الذى لعبته النساء فى ثورة 19 كان له أهمية رمزية كبيرة، بل اعتبره لحظة فاصلة فى تاريخ الحركة النسائية المصرية، وقال إن رجال ونساء مسارح وكباريهات القاهرة لم يختلفوا عن الآخرين، ساردا دورهم فى الاحتجاجات بالحماس نفسه الذى يروى به دور هدى شعراوى والمناضلات من الحركات النسائية. لكن النتيجة كانت واحدة على الجميع حيث تركن خارج العملية السياسية الجديدة بحرمانهن من حق الترشح للانتخابات أو حتى التصويت. وإن أمكن القول إنه مع أحداث ثورة 19 والتحول الكبير الذى جرى فى تلك الفترة والاحتاك بالأجانب، تبلور الدور النسائى وانتبهت العاملات فى الحقل الفنى لما يمكنهن تقديمه والمساهمة به عبر فنهن، حتى وإن لم يسلمن من الاتهام الدائم بإفساد الأخلاق العامة. يقول المؤلف إن التحول الحضرى المتزايد فى مصر، وشعور التحرر الذى جاء مع الثورة، وتنامى دور الحركة النسائية العالمية، أدى إلى خلق «المرأة الجديدة» فى مصر. حيث ظهرت المرأة المصرية فى الحياة العامة بشكل أكبر بكثير من ذى قبل. وكانت الحركة النسوية تكتسب أرضا جديدة بفضل الدور الذى قامت به هدى شعراوى وغيرها، وأيضا العاملات فى المجال الفنى وعلى رأسهن روز اليوسف التى رأى فى صعودها إلى الشهرة أول صورة تفصيلية لعالم المسرح المصري، وللأبواب التى فتحتها صناعة الترفيه الجديدة أمام النساء فى مصر «وفر المسرح لروز مسارا استثنائيا للتحقق والنجاح. من الصعب أن نتخيل أن فتاة صغيرة ظهرت وحدها فى الإسكندرية فى بداية القرن العشرين كان من الممكن أن تصدر مجلتها الأدبية فى مصر لو أنها لم تجد طريقها إلى عالم الفنون وتصبح واحدة من أكبر نجمات مصر». حتى وإن لم يستطع التأكيد على كونها مجلة نسوية أم لا، رغم دعم صاحبتها للنساء على الدوام. وهو الدور نفسه الذى لعبته فاطمة رشدى فيما بعد، والتى كانت من كبار المشاهير فى مصر وطارت شهرتها فى جميع أنحاء الوطن العربي، وكانت بوصفها أحد أبرز وجوه المسرح العربى دائمة الحرص على التعبير عن دعمها للنساء، ورغم ذلك «كانت حياتها المهنية بمثابة تذكير دائم بأنه بغض النظر عن مقدار الظهور العام الذى اكتسبته النساء وبغض النظر عن مقدار القوة والاستقلالية التى زعمن أنهن كن يتمتعن بها، كان هذا العالم لا يزال يحكمه الرجال». وبمرور الوقت وبالضبط كما حدث مع الأزبكية من قبل بدأت الصحف والمجلات تنشر مقالات تدين تأثير الكباريهات وصالات الرقص ومسرح الفودفيل على الأخلاق، وأطلق المعترضون على الشارع اسم «فساد الدين» بدلا من «عماد الدين» وكالعادة كانت نساء الشارع أكثر أهداف النقد الأخلاقى وضوحا. إسدال الستار فى الثلاثينيات حدث تحول جديد بصبغة فنية هذه المرة، حيث صعدت صناعة السينما ووجهت ضربة قاسية لمسارح القاهرة، أصبحت السينما فى وقت قصير نسبيا أكثر حيوية ونجاحا خصوصا مع الانتاجات المحلية، لذلك رأى كورماك أنه ليس من المستغرب أن العديد من النساء اللاتى اشتهرن فى العشرينيات كمغنيات أو راقصات أو ممثلات بدأن فى خوض تجربة صناعة السينما الجديدة. بالتالى أمكن القول إن توافد الجمهور على شارع عماد الدين فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى لم يعد من أجل المسرحيات، بل من أجل الأفلام التى يؤمن المؤلف بأنها تدين بالفضل للمسرح وللأزبكية التى كانت وراء كل شيء «إن كانت السينما قد غيرت شارع الأزبكية وعماد الدين، فإنها لا تزال تدين بشيء لتاريخها الموسيقى والمسرحي... جذورها تعود إلى العالم الذى تركته ورائها. قبل الانتقال إلى ستوديو مصر بوقت طويل، تعلم نجوم مصر حرفتهم فى الأزبكية، الأزبكية التى مثلوا فى مسارحها وتحدثوا وشربوا فى باراتها ومقاهيها ورقصوا وغنوا فى كباريهاتها. ولا تزال السينما الجديدة تحمل صناعة الترفيه المصرية القديمة فى جيناتها». مع الحرب العالمية الثانية عادت للقاهرة أهميتها كمحطه استقطبت أشهر الكتاب والسياسيين والصحفيين والفنانين والجواسيس «وظفت العديد من الراقصات من قبل كثير من الأطراف المختلفة وكلفن بالعثور على أية معلومات يمكنهن الحصول عليها عن العدو بأى وسيلة» وفى هذا الجزء من الحكاية تبرز أسماء كحكمت فهمي، وأيضا تحية كاريوكا التى انجذبت إلى مجموعة أنصار السلام واستمرت حياتها السياسية المجاورة لفنها حتى قيام ثورة يوليو. بلغ التحول مداه فى السنوات التى أعقبت أزمة السويس، حيث بدأ الأجانب فى مغادرة البلاد بأعداد كبيرة، طرد البريطانيون والفرنسيين والكثير ممن تبقى من اليهود «أصبحت مصر مجتمعا أقل تنوعا بكثير والقاهرة مدينة أقل تنوعا بكثير» اختفت التياترات والبارات القديمة ولم يبق سوى هياكل لعدد قليل من تلك المبانى الحافلة بالتاريخ والحكايات والأساطير.. خفتت أخيرا أضواء الأزبكية الساطعة «لكن بعض آثار العالم القديم لا تزال باقية إن كنت تعرف أين تبحث».