رسميا.. اعتماد فلسطين عضو مراقب بمنظمة العمل الدولية    وكيل "تموين قنا" يتابع انتظام عمل المخابز البلدية في أول أيام عيد الأضحى    تراجع أسعار الذهب محليا في أول أيام عيد الأضحى    أهالى بنى سويف يلتقطون الصور السيلفى مع المحافظ بالممشى السياحي أول أيام عيد الأضحى المبارك    إسرائيل بالجرم المشهود.. قصف غزة في العيد وسقوط شهداء    أنشيلوتي: رأيت تحسنا أمام الإكوادور رغم ضيق الوقت.. ونملك ثقة كبيرة قبل مواجهة باراجواي    الهلال الأحمر يشارك في تأمين احتفالات عيد الأضحى بالتواجد في المساجد والحدائق العامة وبوابات السفر    حجاج الجمعيات الأهلية يواصلون أداء المناسك.. ويرمون جمرة العقبة الكبرى.. والبعثة توفر كافة الخدمات في مشعر منى    "بيصبح علينا العيد".. أغنية جديدة لوزارة الداخلية في عيد الأضحى    وفاه الملحن الشاب محمد كرارة وحالة من الحزن بين زملائه ومحبيه    محمود المليجي.. الوجه الآخر للشر وصوت الإنسان في دراما القسوة    محافظ الدقهلية في زيارة خاصة لأيتام المنصورة: جئنا لنشارككم فرحة العيد    نائب وزير الصحة يستكمل جولته الميدانية في محافظة القاهرة بتفقد منشآت الرعاية الأساسية    «لو مبتكلش اللحمة»..طريقة عمل فتة مصرية بالفراخ    حبس المتهم بقتل شاب يوم وقفة عيد الأضحى بقرية قرنفيل في القليوبية    فى أول أيام عيد الأضحى.. إقبال متوسط على شواطئ الإسكندرية    برواتب مجزية وتأمينات.. العمل تعلن 3209 وظيفة جديدة للشباب    محافظ دمياط يحتفل بمبادرة العيد أحلى بمركز شباب شط الملح    أسعار الخضار أول أيام عيد الأضحى في مطروح    بعد رحيله مساء أمس، 5 معلومات عن الملحن محمد كرارة    نانسي نور تغني لزوجها تامر عاشور في برنامج "معكم منى الشاذلي"|فيديو    تركي آل الشيخ يطرح البرومو الدعائي لفيلم "The seven Dogs"    محافظ القليوبية يتفقد حدائق القناطر الخيرية    استشهاد مصور صحفي متأثرا بإصابته في قصف للاحتلال الإسرائيلي خيمة للصحفيين بغزة    لا تكدر صفو العيد بالمرض.. نصائح للتعامل مع اللحوم النيئة    ماذا يحث عند تناول الأطفال لحم الضأن؟    «وداعًا للحموضة بعد الفتة».. 6 مكونات في الصلصة تضمن هضمًا مريحًا    الآلاف يؤدون صلاة العيد داخل 207 ساحات في المنيا    أحمد العوضى يحتفل بعيد الأضحى مع أهل منطقته في عين شمس ويذبح الأضحية    شباب قنا يوزعون بليلة بالكوارع والقرقوش في عيد الأضحى (صور)    الآلاف يؤدون صلاة عيد الأضحى وسط أجواء احتفالية بالحسين    محافظ شمال سيناء يؤدي صلاه العيد وسط جموع المواطنين في مسجد الشلاق بالشيخ زويد (صور)    روسيا: إسقاط 174 مُسيرة أوكرانية فيما يتبادل الجانبان القصف الثقيل    الرمادي: الحديث عن استمراري في الزمالك سابق لأوانه    مقترح ويتكوف| حماس تبدي مرونة.. وإسرائيل تواصل التصعيد    محافظ سوهاج يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بمسجد "الشرطة" بمدينة ناصر    وزير الدفاع الإسرائيلي يهدد لبنان: لا استقرار دون أمن لإسرائيل    80 ألف فلسطيني يؤدون صلاة العيد في المسجد الأقصى    الونش: الزمالك قادر على تحقيق بطولات بأي عناصر موجودة في الملعب    إقبال ملحوظ على مجازر القاهرة في أول أيام عيد الأضحى المبارك    سرايا القدس تعلن تفجير آلية عسكرية إسرائيلية بعبوة شديدة الانفجار في خان يونس    محافظ القليوبية يقدم التهنئة للمسنين ويقدم لهم الهدايا والورود - صور    خطيب عيد الأضحى من مسجد مصر الكبير: حب الوطن من أعظم مقاصد الإيمان    أجواء من المحبة والتراحم تسود قنا بعد صلاة عيد الأضحى المبارك وتبادل واسع للتهاني بين الأهالي    محافظ الفيوم يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بمسجد ناصر الكبير.. صور    تعرف على سعر الدولار فى البنوك المصرية اليوم الجمعه 6-6-2025    محافظ جنوب سيناء يؤدي صلاة العيد بشرم الشيخ ويوزع عيديات على الأطفال    فرحة العيد تملأ مسجد عمرو بن العاص.. تكبيرات وبهجة فى قلب القاهرة التاريخية    مدح وإنشاد ديني بساحة الشيخ أحمد مرتضى بالأقصر احتفالا بعيد الأضحى    عاجل - موضوع خطبة الجمعة.. ماذا يتحدث الأئمة في يوم عيد الأضحى؟    الرئيس السيسي يشهد صلاة عيد الأضحى من مسجد مصر بالعاصمة الإدارية| صور    سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك    سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك للرجال والنساء في العيد (تعرف عليها)    اليوم.. وزارة الأوقاف تفتتح 8 مساجد جديدة بالمحافظات    «ظلمني وطلب مني هذا الطلب».. أفشة يفتح النار على كولر    بالفيديو.. استقبال خاص من لاعبي الأهلي للصفقات الجديدة    «3 لاعبين استكملوا مباراة بيراميدز رغم الإصابة».. طبيب الزمالك يكشف    حارس الزمالك: المباراة كانت صعبة ولكننا كنا نثق في أنفسنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زيارة خاصة إلى قسطنطين كفافيس
خطوات على الطريق إلى إيثاكا

كان قسطنطين كفافيس خالقًا داخل الشعر، إذ أعاد المنسى والمغمور من أشخاص وأماكن وأزمنة إلى الوجود. وأوصل حاضره الخاص بماضيه الهيليني، أو بالأحرى وقف فى شرفته ينظر إلى أطلال وخرائب عالم قديم، فاستحضر ذلك العالم من جديد.
وبالعصا السحرية لشِّعره لمس الموات فأحاله حياة؛ قد تكون حياةً آفلة وهشّة وعابرة أو خاسرة، لكنها حياة وليست موتًا. ثم أوَليست كل حياة آفلة وهشة وعابرة بالضرورة والتعريف؟!
أحضَرَ كفافيس للشِعر نظراتٍ مختلسة ووجوهًا غير مكتملة وعواطف غير مُشبَعة ورغبات مستبدة وذكريات غائمة.
أحضر خطوطًا ولمساتٍ وأحاسيس منفلتة، وأخضع نفسه للفن، راجيًا منه أن يُنعِم عليها جميعًا بالاكتمال، آملًا منه أن يمنحها شكلًا وقوامًا ويملؤها بالجمال والمعنى.
فى السطور التالية زيارة خاصة إلى قسطنطين كفافيس، ومع أنها تنطلق من زيارتى مؤخرًا لمتحفه فى الإسكندرية، إلّا أنها صدى لعلاقة ممتدة بشِّعره بدأت قبل سنوات طويلة رافقتنى فيها قصائده فى مواقف حياتية لا تُحصى، ومثلت فى كثير من الأوقات جوابًا على أسئلة لطالما شغلتني. علاقة قرائية أثبتت لى ما آمنت به دومًا من أن المكان الأمثل لمصادقة الكُتَّاب هو صفحات أعمالهم.
ذات ظهيرة حارة من شهر يوليو، وقفت على ناصية شارع قسطنطين كفافيس (ليبسوس سابقًا) بالإسكندرية، بجوارى حقيبة سفر صغيرة وعن يمينى طيف أشعر به يرافقنى كظلى متشوقًا للشروع فى رحلة صوب إيثاكاه الخاصة. خلفى شارع يتظاهر بالهدوء كاتمًا صخبه، فى انتظار خروج المصلين من صلاة الجمعة، ولا يصدر عنه سوى مشاحنات بسيطة بين لاعبى الطاولة فى مقهى مجاور وأصوات متقطعة لسيارات عابرة، وأمامى يمتد شارع خالٍ وصامت كأنما ينتمى إلى زمن آخر، كأنه استعاد سمته القديم حين كان يحمل اسم شارع ليبسوس وينتمى إلى إسكندرية أخرى اتسعت الهوة فيها بين أولاد البلد وبين الأجانب والمتمصرين، لكنها احتضنت الجميع ولم تضق بهم.
خطوت فى الشارع إلى أن وصلت إلى البناية المنشودة. قرأت ببطء اللافتة المثبتة على واجهتها، وفتحت البوابة لأجدنى فى مدخل نقلنى بدوره قرنًا بأكمله فى الماضى حيث الرحابة وأناقة المعمار والدرج الرخامى المصقول رغم قدمه البالغ. توقفت متعمدة ضبط إيقاعى على إيقاع تلك البناية العتيقة التى بدت لى خالية من السكان.
تأملت الدَرَج برهبة، وحملت حقيبة السفر صاعدة إياه يتبعنى الطيف الغامض. وصلت إلى مبتغاى لأُفاجَأ بباب مغلق لا يختلف كثيرًا عن أبواب باقى الشقق. ثمة شيء حميم تبدى لى فى هذا الموقف. استعدت زيارات عديدة لأقارب وأصدقاء وقفت على أبوابهم المغلقة قبل طرقها.
ليس هذا متحفًا بالمعنى المعروف، أنا فى زيارة لبيت صديق غاب عن العالم وظل أثره المكتوب، بيت أوشك على الخطو فيه بلا تذكرة دخول كما هى العادة فى المتاحف. للحظة ترددت، لا صوت ينبعث من الداخل على الإطلاق، ولا من الطابق كله.
ضغطت الجرس، فظل الصمت راسخًا. هل فاتنى شيء ما؟ راجعت معلوماتي: عاد المتحف إلى الحياة مؤخرًا بعد إغلاقه لتجديده على نفقة مؤسسة أوناسيس. المكان مفتوح طوال أيام الأسبوع، باستثناء الاثنين، من العاشرة صباحًا إلى الخامسة مساءً. اليوم هو الجمعة، والساعة تجاوزت الواحدة ظهرًا بقليل. كل شيء على ما يرام إذن.
ضغطت الجرس مجددًا وانتظرت. خلال دقيقة سمعت وقع خطوات على الجانب الآخر، ثم فُتِح الباب واستقبلنى شخص ودود تنحى جانبًا تاركًا لى المجال للدخول بعد وضع حقيبتى فى ركن قريب. كان ثمة شاب وصديقته يلتقطان صورًا لهما مع مقنيات الشاعر وفى أركان بيته. نظرا لى للحظات بفضول، ثم انشغلا بما يفعلان.
أشار لى أمين المتحف إلى نقطة البدء، واحترم رغبتى فى تأمل تفاصيل المكان بمفردي، لكنه مع هذا بقى على مقربة، وكلما استشعر سؤالًا يتكون فى رأسى اقترب ليشرح ما توقع أنه غمض عليّ، وفى معظم الحالات كان توقعه صائبًا.
لساعة كاملة غصت فى عالم كفافيس الحميم متناسية مرافقة الطيف لي: رسائل وقصائد وأوراق مكتوبة بخط يده، صور عديدة له معلقة هنا وهناك، وفى كل غرفة صور تمنحنا فكرة عمّا كانت عليه فى الماضي، أحدق فيها لبعض الوقت، ثم أعود لتأمل كيف أعيد تصميم الغرفة نفسها كى تشبه هيئتها السابقة فى الماضي. بعض قطع الأثاث ابتيعت من محال بيع الأثاث والتحف القديمة، وبعضها الآخر صُمِّم خصيصًا، والهدف فى الحالتين الوصول إلى نسخ مطابقة للأثاث الأصلى للشقة.
توقفت كثيرًا أمام طبعات أعمال كفافيس فى لغات مختلفة، وجواز سفره المدون فيه أن وظيفته شاعر، وقناع الموت الأبيض المغمور بضوء النهار المنسكب للداخل.
من نافذة إحدى الغرف لمحت العلم اليونانى يرفرف فوق كنيسة القديس سابا التى خرج منها جثمان الشاعر إلى مثواه الأخير، وعن يسارى بينما أنظر من النافذة نفسها مبنى المستشفى الذى قضى فيه أيام مرضه الأخير. كم كانت حياة شاعرنا صغيرة متقلصة فى مساحتها المكانية! عالمه كله يكاد ينحصر فى مربع ضئيل، لكن ما أوسع الآفاق التى فتحها له الشعر، وما أبعد المسافة التى أتاحت له وقفته فى شرفة سكندرية اختراقها عبر الأزمنة والأمكنة!
فى النهاية، جررت حقيبتى خلفي، وغادرت متبوعة بالطيف الغامض، وفى ذهنى أننى أهبط الدرجات نفسها التى سبق أن قطعها الشاعر المؤرخ، كما أطلق على نفسه، صعودًا وهبوطًا، وأسير فى الشارع نفسه وأنا أفكر فى سيولة الزمن وفى أن الأماكن مهما تغيرت سيبقى فيها ما يدل على روحها القديمة وجوهر وجودها إن دققنا النظر فى طبقاتها الخفية وأجدنا الإنصات إلى همسها الخافت.
صاحبنى اقتباس «تظل دائمًا هى الإسكندرية» الذى قرأته قبل قليل مدونًا على أحد حوائط البيت-المتحف، وأبعد عنى هذا صوت الضجيج المتصاعد رويدًا كلما ابتعدت عن شارع إسطنبول. شعرتُ بأن حقيبة السفر وضرورة مغادرتى المدينة خلال ساعات قليلة لهما معنى خاص هنا. أعادنى هذا إلى سفرى نصف الشهرى من القاهرة إلى بيت أهلى والعكس حين كنت أدرس الصحافة بكلية الإعلام، وكيف ترك هذا التنقل المستمر بصمته على حياتى ونفسيتى حينذاك. أنا التى تستهوينى الطرق أكثر من الوجهات النهائية، وتتواءم الحركة الدائبة مع توتر نادرًا ما أفلح فى التخلص منه، اعتدت تذكير نفسى بأن الطريق إلى إيثاكا أجمل من إيثاكا.
وها أنا أجد نفسى فى زيارة سريعة إلى بيت كفافيس وأنا فى مقام الارتحال، بطريقة تعيدنى إلى ماضيّ كأنما أنظر إلى أطلاله وخرائبه من شرفة متخيلة.
بعد يومين من زيارتى متحف كفافيس بالإسكندرية، وفى شرفة غرفة بفندق بيروتي، وجدتنى أطل على خرائب من نوع ما ممثلة فى بناية مهجورة انطبعت عليها آثار الزمن فى هيئة أسوار مهدمة وشبابيك غائبة إلّا من فتحاتها المتيحة لى الاطلاع على ما كان مستورًا وقت عمار البنيان من دواخل البيوت وأسرار العائلات.
بدا لى الدرج القديم المتهدم فى غير موضع يقود إلى عوالم أخرى وأزمان منفلتة. ذكرنى هذا الطلل ببنايات أخرى – صادفتها فى روايات لبنانية عدة – تُرِكت بسبب الحرب للصمت والخراب بعد أن كانت ضاجة بالحياة. رحتُ أتخيل حيوات السكان السابقين للشقق الخاوية المترائية أمامي. أى هناءات وأشواق اختبروها! أى أحزان وآلام قضّت مضاجعهم! وأى تفاصيل صغيرة، فى نظر العالم، شكلت حيواتهم وشهدت عليها هذه الجدران الخربة!
أعادنى هذا إلى كفافيس وشرفته التى أطل منها على خرائب وأطلال أزمان سحيقة، وإلى كيف انشغلتُ، قبل يومين، بتخيل دقائق حياته فى تلك الشقة الرحبة بشارع ليبسوس، وكيف أنها احتوت عالمه بأسره.
مثل كفافيس، تنتمى بيروت إلى العالم المتوسطي؛ إلى المتوسط مركز العالم القديم وحلقة الوصل بين حضاراته العريقة؛ قلب الحضارات الهلينية والرومانية والبيزنطية التى فضّل كفافيس التجول بين ربوعها واستدعاء أعلامها ومجهوليها على حد سواء.
أغمضت عينَى فى جلستى بالشرفة البيروتية متخيلة مسارًا يربط الإسكندرية ببيروت ويصلهما بالموانئ السورية والتركية ثم اليونانية. لم تأتنى تلك المدن فى صورتها المعاصرة، أحالها خيالى إلى سيرها الأولى أو لو شئنا الدقة إلى حالاتها فى الفترات التى لطالما استهوى كفافيس الغوص فيها.
فتحت أحد مواقع التواصل الاجتماعى لدقائق، ففاجأتنى صورة لحى يونانى بمدينة إزمير قبل دمارها فى الحرب اليونانية التركية. ميناء آخر من موانئ عالمه القديم مع إشارة إلى دمار وحُطام! اعتبرت الأمر ينطوى على علامة ما، وإن كنتُ لم أعرف علامة على ماذا؟! قلتُ لنفسى المسألة فقط أن كفافيس وعالمه قريبان منى حاليًا لدرجة تجعلهما بوصلة لتأويلاتي، فربما لو رأيت الصورة نفسها فى وقتٍ آخر، لستُ منشغلة فيه بكفافيس، لَمَا ربطت بين إزمير ودمارها السابق وبينه من الأساس، خاصة أنه قضى أيامه فى تركيا بإسطنبول لا بإزمير.
ذكرنى هذا بمطرقة ماسلو أو قانون الأداة الذى وضعه عالم النفس الأمريكى الشهير أبراهام ماسلو عام 1966، ومفاده بإيجاز أنه لو أن مطرقة هى كل ما تملكه من أدوات، فكل شيء حولك سيبدو لك كمسامير.
ومطرقتى فى تلك اللحظة تمثلت فى شاعر سكندرى رحل قبل تسعة عقود، لذا مِلت لتأويل كل ما أصادفه انطلاقًا منه، كأنه قد أصبح محور عالمى وصلة الوصل بينى وبين ما أراه أو أقرأه.
عادة ما أعود إلى قراءة كفافيس دوريًا، وكلما صادفنى ما يتحدى تصوراتى عنه، أعيش برفقة كلماته، رغبةً منى فى استعادة صورته التى تخصنى بعيدًا عن طيفه المخترَع فى هذه الرواية أو تلك.
أقرأ له وعنه، وأشعر أحيانًا كأننى أتبصر فى تفاصيل لم أنتبه إلى كل دلالاتها قبلًا. على سبيل المثال، لطالما أحببت قصيدة «عندما تخلى الإله عن أنطونيو»، واعتدت قراءتها متعاطفة مع أنطونيو الذى أكن له مودة خاصة كشخصية تاريخية تراجيدية بامتياز، وفى بالى أن الشاعر اليونانى يفعل مثلى بدافع انحياز الفن للخاسرين وخاصة لمن يحمل منهم تركيبة ثرية وملهمة ومعقدة كهذا القائد الروماني، لكننى أدركت هذه المرة أن الأمر أبعد من هذا عند كفافيس، إذ يرى نفسه فى أنطونيو ويجعل منه مرآةً وقرينًا تاريخيًا له.
فشاعرنا هو ذلك البطل التراجيدى الذى انقلبت أقداره بتخلى الإله عنه وسير موكبه بعيدًا برفقة الفرقة الموسيقية الخفية الماضية إلى الزوال. هو سليل المجد الغابر؛ عائليًا وقوميًا. عائلته الثرية المرفهة فقدت أموالها فى طفولته، وظل التعثر رفيقًا لها بعدها، واليونان لم تعد تلك الإمبراطورية العظمى والمُشِعَّة.
وهو نفسه صار يتيمًا يُتمًا مضاعفًا أو أصبح مارك أنطونيو آخر تخلّت عنه الآلهة وتركته لمصيره الفادح، لكنه أنطونيو جديد من طينة مختلفة، ليس قائدًا ولا مقاتلًا، بل شاعر فطِن أتقن تعويض خساراته بالفن، وأجاد وضع ذاته وأفكاره فى السياق المفضل لديه؛ سياق العالم الهيلينى القديم، غير آبهٍ بحدودِ الزمن ولا بقهر المسافات للبشر.
عاش كفافيس فى الخيال: به وَسَّع عالمه، واستعاض به عن الواقع. وبالشعر ألغى الزمن والمسافة، وأقام فى عصور ماضية، كاتبًا على الضد من عصره الواقعي، إن نظرنا للظاهر، وكاتبًا عن جوهر كل العصور والخيط الرابط بينها إن تعمقنا أكثر فى فهمه وتأمله.
هو الذى لم يكد يغادر مكانه إلا لمامًا وفى انتقالات عائلية شبه إجبارية من مستقر إلى آخر، أخبرَنا أن الطريق إلى إيثاكا أجمل من إيثاكا، وقد يسأل سائل: كيف يُحاضِرنا عن متعة الرحلة وفوائد الارتحال من لم يكد يرتحل؟ والجواب أنه لم يكف عن الارتحال بالذاكرة والخيال، وأنه توصل إلى وصفة سحرية لإلغاء حُجُب الزمان والمكان، وكان الأكثر دراية بأن حياتنا إن خربت فى ركننا الضيق الأليف ستخرب فى كل مكان آخر، وستطاردنا المدينة وتحكم علينا بألا نغادرها حتى وإن فصلت بيننا وبينها آلاف الأميال، كما أخبرنا فى قصيدته «المدينة».
حين أقرأ هذه القصيدة فى ضوء الرابط بين كفافيس وقرنائه التاريخيين، أجازف بمد خط معناها فى اتجاه آخر مرتبط بالزمان لا بالمكان، بحيث يصبح: بما أن قرينًا تاريخيًا لك قد خرب حياته، فى لحظة سحيقة غابرة، سيخرب قرناؤه حيواتهم فى كل زمان آخر، وسيخرب الشاعر أيضًا حياته المنتهية عام 1933. وبالمثل خسارة مارك أنطونيو وغيره من القرناء التاريخيين للشاعر المؤرخ، تعنى أن خسارته هو حتمية، فهو محكوم بها. وفى هذا قلب، من نوع ما، لطبيعة علاقته بهؤلاء القرناء العاكسين لانحيازه للآفلين والمندحرين والمنسيين ومَن تغيرت أقدارهم فجأة من المجد إلى اللاشيء ومن القمة إلى الهاوية، إذ يبدو الأمر كما لو أنهم هم مَن اختاروه منذ البدء، ومَن حددوا مصيره ومزاجه، ومن حددوا الزاوية التى ينظر بها للعالم والنبرة التى يكتب بها شعره؛ نبرة الخفوت والمناجاة الخليقة ب«شاعر عالم مفقود»، كما وصفه تشارلز سيميك.
شاعر عالم مفقود يعنى أيضًا أنه شاعر أطلال. كأن هذا هو الشعر؛ أن تشخص عينا الشاعر نحو البعيد، نحو ما فات وتلاشى وتحطم فلم يبق منه سوى خرائبه، لكن كفافيس لم يكن – رغم هذا - شاعر رثاء أو بكائيات بالمعنى الشائع.
أفكر فى وصف سيميك له، فيخطر لى أن علاقته بالفقد لا تقتصر فقط على العالم الهيلّينى المنفلت والحضارتين البيزنطية والرومانية الغابرتين ورجال التاريخ المنصرم، ممن وجدوا أنفسهم فجأة خارج لحظة مجدهم، أو حتى خارج حياتهم كما ألفوها. يمتد الفقد ليظلل حياته كلها ويرافقها مثل غيمة مثقلة بمطرٍ مِن وخسران.
المفقود والمُدمَّر من قصائده مثلًا أضعاف ما نجا منها، إذ يُقال إنه كان يكتب قرابة سبعين قصيدة سنويًا يحتفظ بأربع أو خمس قصائد فقط منها ويدمر الباقي، أى يحيله إلى أطلال من نوعٍ ما، وربما يبنى على آثاره قصائد مستقبلية يرضى عن النذر اليسير منها، ويدمر معظمها مجددًا. هكذا يبدو الشعر عنده فعل هدم بامتياز قبل أن يكون فعل تشييد.
أترجع هذه الانتقائية الشديدة إلى فهم شاعرنا العميق لحركة الزمن؟ أيمكننا قول إنه رغب فى محاكاة فِعل التاريخ بأن يغربل إبداعه بنفسه؟ قد يكون فى هذا مبالغة فى التأويل، لكن المؤكد أن كفافيس كان أقسى نقاد شعره، وأن اعتياده الفقد جعله لا يتردد فى التخلص من كل ما لا يرتقى لمستوى ذائقته المتطلبة.
واستكمالًا لمسلسل الفقد، حياته خارج الشعر شبه مفقودة بالنسبة لنا، إذ كما قال الشاعر اليونانى الفائز بنوبل جورج سيفريس: «خارج شِّعره، لا وجود لكفافيس». ويبدو أن هذا نبع من رؤية واعية سعى كفافيس عبرها إلى تلاشى شخصه الواقعى (على الأقل عبر عدم التدوين عنه) لصالح إبداعه، أى إلى تحويل الذات إلى طيف وشخصية فنية متخيلة، أو حتى شخصية تاريخية تشبه تلك الشخصيات التى أغوته كى يلتقطها من صفحات التاريخ المنسية ويبعثها حيّة فى قصائده؛ شخصيات عابرة أو ملوك لممالك مندثرة وإمارات صارت أثرًا بعد عين.
أكثر من أى شيء آخر فى سيرته، تبدو الأيام الثلاثة التى زار فيها كفافيس باريس عام 1897 كأنما تؤكد صحة ما ذهب إليه سيفريس من أن لا حياة له خارج شِّعره، فهذه الرحلة لا يُعرَف عنها إلا أقل القليل، ولهذا السبب تحديدًا انطلقت منها الروائية والشاعرة اليونانية إرسى سوتيروبولوس لكتابة روايتها «ما تبقى من الليل»، وفيها نرى كفافيس الشاب لا يكاد يتوقف عن المشى فى شوارع باريس.
وهذا أمر يمكننى تفهمه تمامًا، فعلى مدار ثلاثة أشهر، من يناير إلى أبريل 2021، لم أتوقف بدورى عن السير فى شوارع باريس. كنت أتجاوز الأحياء والدوائر السكنية وأمشى من لوتيل دو فيل حتى مونمارتر، أو جسر ميرابو أو ساحة الجمهورية أو أى مكان آخر مهما بعد، وفى ذهني، كثيرًا ما استحضرت عالم باتريك موديانو، خاصةً حين أقطع الجسور صوب الضفة اليسرى من نهر السين.
خلال تلك التمشيات الطويلة اعتدت الشعور بأننى بطلة فى رواية لموديانو أقتفى أثرَ وجهٍ من الماضى أو شيءٍ مفقودٍ، غير أننى –على خلاف أبطاله- لم أكن أعرف عَمَّ أبحث بالضبط، أو حتى لم أنتبه إلى أننى فى حالة بحث من الأساس. ربطت هذا المشى اللانهائى بموديانو وعالمه الروائي، ولم أفكر فى المثال الأقرب، المتمثل فى تسكع بودلير وتنظير فالتر بنيامين حوله، إلّا لاحقًا عبر مرآة قسطنطين كفافيس، كأننى احتجت إلى هذا السكندرى المُحدِّق فى الماضى البعيد للوساطة بينى وبين بودلير.
فخلال قراءة «ما تبقى من الليل»، بعد صدور ترجمتها العربية عام 2022، انتبهت إلى أنه يتجول فى شوارع باريس معظم الرواية، وذكرنى هذا بجولاتى اليومية فيها قبل عام، ثم عند نقطة معينة فى القراءة خطر لى أنَّ سوتيروبولوس تحيله فى روايتها إلى بودلير آخر؛ شاعر مأخوذ بالتسكع فى أنحاء المدينة وتحت بواكيها، ومن هنا اتصل درب تصنعه خطواتنا نحن الثلاثة فى فترات زمنية متباينة.
قلتُ فى سري، من المؤكد أننى سرت فى كثير من الأماكن والطرقات التى رَوَّضتها خطوات شاعر «أزهار الشر» من قبل، ومن المحتمل أن الأمر نفسه قد تكرر مع كفافيس ولو لمرات قليلة بحكم أنه لم يبقَ فى باريس سوى لثلاثة أيام.
فى تلك الإقامة الأدبية كنت أستشعر لذة لا تُضاهَى فى الإطلال على العالم من علٍ، من موقع يمنح الرائى وهم امتلاك كل ما يراه. أقمت خلال تلك الفترة فى أستوديو بالدور الثالث بالمدينة الدولية للفنون، يطل على نهر السين وجزيرتَى سان لوى ولا سيتيه. النصف الأعلى لحائط الواجهة بالكامل كان عبارة عن نوافذ زجاجية، أوارب إحداها حينًا لإدخال بعضٍ من برودة الخارج المنعشة إلى الأستوديو الدافئ، وأتأمل منها معظم الأحيان مياه السين الأشبه بعقيق مُذاب مائل لخضرة مراوغة وبرجَى كنيسة نوتردام وبرج مونبارناس المترائى لى نصفه العلوى من بعيد، وأراقب جسور السين سعيدة بالمسافة الفاصلة بينى وبينها، وبالزجاج الذى ينقل لى جمالها متخلصًا من أى صخب أو ضجيج أو شوائب.
وفى تلك اللحظات، كثيرًا ما استعدت كفافيس واقفًا فى شرفة تطل على ماضٍ مندثر لا يراه ولا يشعر به غيره، واستحضرت بينما أبصر شبابيك بنايات جزيرة سان لوي، المطلة على النهر من الجهة المقابلة لي، شبابيك باريسية أخرى تبدت لراينر ماريا ريلكه عبر نافذته كعيون تراقبه مهدِّدة متوعدة، فيما هو جالس إلى مكتبه يقرأ ويكتب فى أوقاته الأولى فى باريس قبل أكثر من قرن، تلك الأوقات التى قضاها فى وحدة تامة، وساعدتنى القراءة عنها على تقبل وحدتى والتصالح معها.
أعرف الكثير عن سنوات ريلكه فى باريس لأنه حفظها بالتدوين عنها، وبالأعمال الإبداعية التى كتبها خلالها، لكننى فى المقابل، لا أكاد أعرف شيئًا عن أيام كفافيس الثلاثة فى المدينة نفسها.
لم يكتب عنها قط، وبالتالى لا شيء معروفًا عنها باستثناء تفاصيل قليلة من قبيل أنه لم يستمتع بحفل الأوبرا الذى حضره هناك لأنه لا يحب الأوبرا، وأنه تفرج يوم 19 يونيو 1897 على التراجيديا الإغريقية الوحيدة التى يُعتقَد أنها شاهدها وهى مسرحية «أوديب ريكس» لسوفوكليس وتمثيل جان مونيه سَلي.
حاولت تخيل ماذا قد يفعل كفافيس فى باريس فى عصرنا هذا؟ وهل كان سيتواءم مع الإسكندرية فى وضعها الحالي؟ هل كانت وصفته السحرية للعيش فى زمنه الخاص لتجدى وسط كل هذا الصخب؟ أحدس بأن رؤيته الخاصة للزمن كانت لتساعده كثيرًا فى أن يتواصل مع الأزمنة الماضية بالقدر نفسه، وهو أمر أرجعه أحد معارفه ويُدعى لاسكاريس إلى انتمائه إلى فئة البرجوازيين المفلسين، تلك الفئة التى تملك موهبة العيش فى الماضي، حيث أيام ازدهارها ومجدها. هكذا بكل بساطة.
والسؤال هنا: ما الذى يجعل كفافيس راهنًا وعصيًا على التقادم رغم أن عينيه وخياله كانا مصوبين نحو الماضى معظم الوقت؟ يتمثل الجواب من وجهة نظرى فى أن موضوعات قصائده وانشغالاتها تخاطب البشر على اختلاف ثقافاتهم وأزمانهم. هكذا يجد قراء كفافيس أنفسهم يستحضرون قصيدة، «إيثاكا» مثلًا وهم فى طور الارتحال والتنقل، لدرجة باتت معها إيثاكا تنتمى إليه هو ربما أكثر من انتمائها للأوديسة، وأصبحنا بفضله نرى تيه أوديسيوس فى ضوء جديد مختلف عما صوره هوميروس فى ملحمته الشعرية، لم يذكر الشاعر أوديسيوس صراحةً فى شعره، لكن ذِكر اسم الوجهة المقصودة يدلنا عليه، وإخفاء هويته يحيله إلى مجاز لكل من يخوض رحلة ما.
وبالمثل يقرأ كثيرون «فى انتظار البرابرة» فيرونها معبرة عن مجتمعاتهم الباحثة عن عدو تحمله مسئولية إخفاقاتها وتجد فيه ما يريحها من عبء مواجهة مشكلاتها الحقيقية.
ويستعيد آخرون «عندما تخلى الإله عن أنطونيو» كلما انقلبت أقدارهم للأسوأ أو شهدوا على تدهور أحوال من يعرفونهم. ويردد كثيرون قصيدته الشهيرة «المدينة» مؤمنين بأنهم إن خربوا حياتهم فى ركنهم الضيق، ستخرب فى كل مكان آخر، وستلاحقهم المدينة مهما ابتعدوا عنها وحاولوا الفرار من أسرها لهم. وسوف يسألون أنفسهم، مثلي، وأنا أتذكر الطيف المرافق لى فى زيارتى لمتحف كفافيس: أكان هذا الطيف طيف كفافيس أم طيف المدينة نفسها يلاحقنى حيثما اتجهت؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.