سلوها الالتزام بمواعيده من أولوياته، دخل القاعة في ميعاده كالعادة، بروفيسور محمود يصحب دخوله هذه الصورة التي ملأت الشاشة خلفه وحدَّق فيها الجميع، أعلى الصورة كتب عليها جملة "سلوها".. ظنوا أنفسهم المنوطين بالأمر، لكن بروفيسور محمود أوضح لهم أنه عنوان هذه القصة التي ضمها كتاب منتصر الفلسطيني. وكأن الأمر موجه لكل من يرى الصورة عبر العصور، انتاب الحضور مشاعر مختلطة، لقد شاركوها الابتسامة، وحزنوا لفراقها، وتشوقوا لمعرفة قصتها، وأخيرا صمت يعم القاعة وترقب لحديث البروفيسور. من الصورة للجمهور يقر بروفيسور محمود بأن الصورة أخذته من كل ما حوله، وأن مشاعر مختلطة أصابته تماما كما يعتقد أنهم كذلك وأن رغبته في المعرفة دفعه للقفز على السطور التى كتبها منتصر حتى يعرف سر هذه الصورة. يسير خطوات، يضع الأوراق التى بيده على المنصة، يبدو أنها حفرت بداخله، لا حاجة لأوراق تذكره بها. أخد يقول: لسنا الوحيدين الذين خطفتنا الصورة، فمن قبلنا منتصر الفلسطيني الذى صدّر القصة بالصورة ثم كتب أسفلها: ليسوا أرقاما، هم أبطال ولكل بطل حكاية، رضيعهم كشيخهم. ومن المقدمة إلى الدخول في القصة يسترسل: وأنا أتابع التلفاز رأيتها، لم أدر هل أفرح أم أحزن؟! ظللت أتأمل الابتسامة البريئة وكأنها المرة الأولى التي أرى فيها ابتسامة، أروح وأجيء، أنشد النوم لأتخلص من الضجيج بداخلي دون فائدة، بحثت عن بن لأصنع فنجانا من القهوة، لا بن، لا ماء، لا غاز. أسندت ظهري إلى الكرسي والصورة تطاردني، أراها على الحائط أمامي.. أغمضت عينيّ وبدأ الضجيج يسكن والنوم يزحف رويدا رويدا، صورة امرأة خمسينية يلتف حولها صحفيون أجانب وتطاردها كاميرات من مختلف الدول، الكل يسأل سؤالا واحدا، وردها على الجميع بابتسامة من يريد تعجيزهم وبجملة: سلوها. فتحت عيني فجأة وملامح المرأة أمامي، أخذت أبحث عن كل ما يتعلق بالصورة في وسائل الإعلام وأثناء البحث وجدتها.. تواصلت مع كثيرين حتى وصلت إليها في إحدى المستشفيات التي لم تدمر بعد.. سلامات أختي، حمدالله على نجاتك. بصعوبة اتجهت ناحيتي وقالت فضل من الله ونعمة. لا أريد أن أثقل عليكِ، أنا رأيتك في منامي وكثيرون يسألونك ولا إجابة لك عليهم إلا إشارة بيدك إليها وأنتِ تحملينها وتقولين "سلوها".. رغبت في توثيق القصة ونقلها للأجيال القادمة فجئت لأسألك أنتِ، أعلم مقدار ألمك لكنه حقهم علينا أن يعرفهم العالم. اِحكِ لو تحبين. يتدخل الطبيب: إنها متعبة ولن.. تقاطعه، في الكلام عنهم سعادتي حتى لو كان مؤلما. إذن لا تثقل عليها؛ لقد نزفت كثيرا والجرح حديث. يحذره الطبيب. أعدك حينما ترغب في التوقف سأخرج فورا. بدأت السيدة الخمسينية تحكي: كنا جوعي، منعوا عنا الطعام كما تعلم، أعيش وابنتي وأولادها الثلاثة في خيمة، يقول لي الولدان نحن جوعي يا جدتي. أجيبهم: لقد جاع الرسول وصحبه وربطوا بطونهم من شدة الجوع، ألا تريدون أن تكونوا مثلهم. يصمتون. تحبون الرسول؟ يقولون: نعم. تحبون الله الذي أرسله لنا. يردون: نعم. هل هناك أحد أقوي من الله؟ يجيبون مستنكرين: لا بالطبع. إذن من يحب الله أكثر يجلس أمام الخيمة ووجهه إلى السماء ويرفع يديه طالبا من الله أن يشبعنا. وإذا جاءنا العدو من أعلى. إذا جاء سيعرف أنكم لا تخافونه وأنكم مع رب السماء. وهل فعلا؟ نعم. تسابقا وظلا هكذا حتى ناما. 0وفي الصباح لم يسألاني لِمَ لمْ يرسل لنا الله الطعام، ولم يتحدثا عن جوعهما كالأمس، بعد قليل جاء جارنا في مثل عمرهما وفي يده بعض الحشائش، أعطاهما بعضا منها وبدأ الثلاثة في أكلها دون أن يتحدثوا معنا!. لم تبد الدهشة علىّ يقول منتصر، ولولا حزنا يقطر من كلماتها لأخبرتها أنى جائع مثلهم!.. ليت الرضيعة تسكت، صوت بكائها يمزق قلبي وقلب أمها، لاتشبعها قطرات الماء، وصدر ابنتي جف من الجوع.. تظل تبكي وتصرخ حتى تصمت من التعب. ما الحل يا ابنتي؟ وماذا بيدنا يا أمي، لها رب يطعمها. من أجلها. اقرأ أيضا| «البرهان» قصيدة للشاعر زياد خالد من أجلها ماذا؟ اقتربت منها وصوتي يسح حنانا، من أجلها كلي. تنظر لما بيدي مستنكرة :حشائش يا أمي؟! من أجلها! نفسي تعافها لا أستطيع كلا، كلا. أمرر يدي على رأسها وآخدنا في حضني، لا حل أمامنا الآن. أقول لها. سيرسل الله لنا الحل، سأرفع رأسي للسماء وأقول يارب. ترد ابنتي. ابنتي سندعو وندعو. وإلى أن يأتي الفرج أمسكي. نظرت إلىّ مستنكرة تصميمي. من أجل الرضيعة، هيا، هيا. صرخت الرضيعة، حملتها ووقفت بها على باب الخيمة علها تهدأ. ولافائدة، بللت ابنتي حزمة الحشائش بدموعها وبدأت تقضمها. صمتت المرأة، لم أحثها على الاستمرار يقول منتصر، صمت أنا كذلك إلى أن عاودت: الولدان نائمان داخل الخيمة وأنا والرضيعة خارجها، أسمع ضغطات أسنان ابنتي على الحشائش لكن يبدو. ماذا؟ سألتها. يبدو أن العدو استكثر علينا الحشائش فضغطوا على صواريخهم!؛ لتشتعل خيامنا ويتحول كل من بداخلها إلى كتل من النيران. تقاوم الألم، تريد أن تبدو قوية أمام نفسها. ابنتي، أحفادي جيراني، حرقوا أحياء. وكيف نجوتي؟! كما قلت لك كنت أمام باب الخيمة، ورأيت الجحيم بعيني، ابنتي تصرخ اهربي بالطفلة، أرجوكي يا أمي، أسرعي. لم أكن في وعيي ولم أدر ما أفعل، أقترب من ابنتي، لا أدرى كيف أتصرف مع النيران أحثو عليها التراب أم أقذفها بقليل الماء الذي نشربه، أم آخذها في حضني ونموت سويا؟! تبتعد عني وهي تصرخ ابتعدي من هنا، ابتعدي من هنا. وصيتك ابنتي. لم أدر ما أفعل، لم أشعربقدميّ وهي تنطلق كالريح، لم أقف حتى بعد الرصاصة التى أصابت كتفي، ذهب الجميع فلتبق الطفلة. لا أحد سيوقفني هكذا حدثت نفسي،. يشعر بها تلهث وهي تتحدث وكأنها تجري الآن. يؤلمك الحديث فلنتوقف الآن. ألم تقل إنها من أجل الأبناء والأحفاد؟ بالفعل هي كذلك. يرد منتصر فلنكمل إذن، لاندري هل نلتقي ثانية أم لا. تفضلي. قضوا وذهبوا إلى ربهم، لن يعانوا الجوع بعد الآن، أقول لنفسي هذا وأنا أهرول وأشعر بالدماء تصل لقدمي. كم قطعت من مسافة، كم الوقت الذي مر، أين أنا؟ لا إجابة. أعلن جسدي عجزه عن الاستمرار، ليس الموت ما يخيفني، إنه مصيرك يا ابنتي. وضعتها بجواري، وألقيت بجسدي بجوارها، هززت جزع النخلة خلفي، ربما تساقط علينا رطبا جنيا، متعبة أنا لا يمكنني، صرخات ابنتي وطفليها، دعوات الصغيرين، صرخات الرضيعة، دمي الذى يسيل، مصيرها بعدي، الغوث ياربي، الغ.. يهدأ جسدها وترتخي أهدابها، صوت حركة بعيدة تصل لأذنيها، تشعر بالبرودة تسري في جسدها، تصعد روحها طلبا للدفء تنظر إليها من علٍ و تطير ومعها غبار الحاضر المؤلم، تحلق وتحلق بحثا عن سماء ملبدة تمطر ثلجأ يطفئ النار المستعرة في القلوب، لا تجد.. تستمر في التحليق، تسمع أصواتا في السماء، أضواء تسلط على جسدها وعلى حفيدتها التى تصرخ. يصيح أحدهم المرأة إما ماتت أو في طريقها إلى الموت، يرد عليه الآخر وفرت الطلقة التى كنا سنرميها بها. مارأيكم نأخذ الطفلة؟ وجع يسري في روحي، ترتفع وترتفع حتى ترى أمامها الملائكة! ما بين راكع وساجد وبين مسبح ومستغفر كانوا. لا أمان لهم أبدا. يقول القائد إنها لا تدري من أمرها شيئا. يقول الجندي. إنها نبتتهم الشيطاني، سنربيها وتنقلب علينا. ملك الموت يرسل من ينادي رضوان، نظر إليها توقعت أنها هدفه. رضوان، رضوان. فيم استدعاؤك له يا ملك الموت؟ يسأل أحد الملائكة. سيعرف حين يأتي يرد ملك الموت. فلترمها أنت برصاصة الآن. يأمره القائد. أنا؟! ولم أنا؟! لأنك شعرت بالعطفِ على عدونا. إنها رضيعة بعد. يرد الجندي. فلتذهب معها إلى الجحيم، يطلق القائد عليه النار وسط صمت الجنود . حضر رضوان وتهب معه على المكان رائحة زكية بثت الطمأنينة بداخلها؛ تعلم إنها رائحة الجنة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. يلقى التحية رضوان وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يرد الحضور. فيم طلبك لي على غير سابق تعامل بيننا يا ملك الموت. يقول رضوان. أريدك معي وأنا أسترد أمانة الله. طننته يتحدث عني. تقول الجدة. فإذا به يشير لحفيدتي. لم أدر هل أفرح لها أم أحزن لفراقها، نزعت نفسي من نفسي وعدت إلى حديثهم. أريد أن نحسن استقبالها وننسيها ما عانته على الأرض وسيحدث ذلك حين تراك. تعرف قدر هؤلاء عند ربك. ولأني أعرف أقترح عليك ما يسعدها في آخر لحظاتها على الأرض. ماعاد يرضيني أن أبرحهم، ماعدت أرغب في حياة يسودها قانون الغاب. تقول الجدة لمنتصر، قالت هذا روحي لكن لم أسمع ردا. تدخل ملك يهابه الجميع وقال: هؤلاء القوم لا يبغون بأرضهم بديلا، يرونها الجنة ودونها النار. صدقت. يرد الجميع. فلنصنع لها أرضا تشبهها ونأت بوالديها وأخوتها وجيرانها. وأنا معهم وأنا معهم. تصيح روح الجدة ولا مجيب هكذا تكمل حديثها مع منتصر. ساعتها عرفت أن خروجي من الأرض لم يحن بعد وأن لقائي بأحبابي مؤجل لحكمة يعلمها الله. صرخة موحشة من القائد، الآن نطلق جميعا الرصاص عليها حتى يعلموا أننا لن نرحم شيخهم ولا رضيعهم. أمر من ملك الموت: هيا، هيا، السماء تنتظرك. تنطلق رصاصات تكفى لقتل كتيبة، تمد ابنتي يدها لطفلتها والابتسامة تملأ وجهها، يقترب أخواها منها لترى وجهيهما وهما يداعبانها كما كانا يفعلان، والدها الشهيد يملي عينيه منها، سبقهم قبل أن تولد، تتسع الصورة أمامها لترى بيتها والأهل والجيران وبجوار الجميع رضوان وصفوف من الملائكة. تبتسم ثم تتسع الابتسامة حتى تملأ وجهها، استجابت لحضن الجميع وودعت دنيا الشقاء بابتسامة فاقت ابتسامة الموناليزا التى تدهشهم . يرتعد قائد العدو وجنوده. أنمطرها رصاصا وترد بابتسامة؟! ما هذا؟! يصيح القائد وقد جن جنونه. سلوها عن السبب. يصيح فيهم الجندي المصاب هازئا. طلقة من القائد تسكته للأبد، ينسحبون من المكان وكل واحد منهم يرغب في سؤالها لكنهم لا يدرون كيف . بعد مغادرتهم شعرت بدفء يسري في أوصالي ودعتهم روحي سعيدة باجتماع شملهم وعثر علىّ أهل الخير ونقلوني وجسد الحفيدة إلى المستشفى بعد أن عادت روحي لتسكن هذا الجسد مرة أخرى. أنهت حديثها بابتسامة وقالت هل تصدقني أم ترى أننى جننت؟. بل أصدقك. هل ستنقل كلامي هذا للعالم؟ سأنقله ولن أنقص منه حرفا. أشكرك. قلت: بل أنا من يشكرك. فتحت باب الحجرة للخروج واعتدلت لألقي عليها سؤالي الأخير: ماذا أنت فاعلة الآن؟ هل ستنتظرين اللحاق بهم؟ ترد مبتسمة: كلا، بضعة أيام وتسمع عني في صفوف المقاومة. أغلقت الباب خلفي حتى لا ترى دموعي وأنا أردد: لن نهزم أبدا مادام فينا أمثالكم. يكرر بروفيسور محمود عبارة منتصر الأخيرة وهو يرى مدى تجاوب الحضور وتأثرهم ودهشتهم مما حكي. وأردف يقول: لن نحتاج للسؤال عندما نرى الابتسامة وصاحبتها أليس كذلك؟ الجميع: بلي.