نوال سيد عبدالله فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، قال ونستون تشرشل عام 1946: «من ستالينجراد إلى بحر اليابان، تلقى ستارة حديدية عبر القارة». كان ذلك تحذيرًا من التحولات الجيوسياسية التى بدأت تتبلور فى العالم آنذاك، حيث لعبت الولاياتالمتحدة دورًا حاسمًا فى الحفاظ على الأمن فى أوروبا من خلال قيادتها لحلف الناتو. واليوم، بعد مرور أكثر من سبعة عقود، يُطرح سؤال جديد: هل حان الوقت للولايات المتحدة أن تُخفض من دورها وتترك أوروبا تتحمل مسئولية أمنها بنفسها؟ فى مقال نشرته مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، تم تسليط الضوء على أهمية إعادة تقييم هذا الدور فى ظل التغيرات الجيوسياسية الحالية، مشيرين إلى أن الوقت قد حان لأوروبا أن تتقدم لتأخذ زمام المبادرة فى الدفاع عن نفسها، مما يشكل تحولاً كبيرًا فى السياسة الأمنية الدولية. اقرأ أيضًا | إيران.. استنساخ لضربة أبريل أم رد مختلف؟ على مدى أكثر من قرن، اتبعت الولاياتالمتحدة هدفًا استراتيجيًا ثابتًا فى أوروبا: منع أى قوة واحدة من الهيمنة على القارة، وبالتالى الحفاظ على توازن القوى الذى يحمى المصالح الأمريكية. كان هذا النهج ضروريًا خلال الحربين العالميتين والحرب الباردة، حيث تدخلت الولاياتالمتحدة لمنع ألمانيا ثم الاتحاد السوفيتى من تحقيق الهيمنة فى أوروبا. وكان حلف الناتو، الذى تأسس عام 1949، حجر الزاوية فى هذه الاستراتيجية، حيث تم تصميمه لحماية أوروبا الغربية من التوسع السوفيتى ودمج ألمانيا فى تحالف غربى لضمان عدم هيمنة أى دولة على أوروبا مرة أخرى. ومع ذلك، تغير المشهد الجيوسياسى بشكل كبير فى فترة ما بعد الحرب الباردة. انهار الاتحاد السوفيتى عام 1991، واليوم روسيا، على الرغم من أنها لا تزال قوة عسكرية كبيرة، لا تشكل نفس التهديد الذى كان يمثله الاتحاد السوفيتى فى الماضي. تفتقر روسيا إلى القدرة الاقتصادية والعسكرية اللازمة لفرض نفوذها فى جميع أنحاء أوروبا، كما أن عدد سكانها واقتصادها يقل بكثير عن دول الناتو الأوروبية. ومع عدم وجود مرشح واضح للهيمنة الأوروبية، فإن الولاياتالمتحدة قد حققت بالفعل هدفها التاريخى المتمثل فى منع أى قوة واحدة من السيطرة على أوروبا. وبالتالي، فقد حان الوقت للولايات المتحدة «للإقرار بالانتصار» واعتماد نهج جديد يعكس الواقع الحالي. ويتضمن هذا النهج تخفيضًا تدريجيًا للوجود العسكرى الأمريكى فى أوروبا، و«أوربنة» حلف الناتو، وتحويل مسئولية أمن أوروبا إلى الأوروبيين أنفسهم. تتمثل الخطوة الأولى فى هذه الاستراتيجية فى بدء سحب بعض القوات الأمريكية من أوروبا. حاليًا، يتمركز حوالى 100٫000 جندى أمريكى فى القارة، مع وجود أكبر تركيز لهم فى ألمانيا. وتقترح المجلة الأمريكية أن الولاياتالمتحدة يمكن أن تبدأ بسحب 20٫000 جندى تم نشرهم فى أوروبا بعد بدء الحرب بين روسيا وأوكرانيا عام 2022. سيرسل هذا رسالة واضحة إلى الدول الأوروبية بضرورة تعزيز جهودها الدفاعية. ومع مرور الوقت، يمكن للولايات المتحدة أن تستمر فى تقليص قواتها التقليدية فى أوروبا، مما يشجع الدول الأوروبية على الاستثمار بشكل أكبر فى قدراتها الدفاعية. فعلى مدى عقود، أصرت الولاياتالمتحدة على أن تشترى الدول الأوروبية المعدات العسكرية الأمريكية وأن تتجنب تكرار القدرات الأمريكية. مثل هذه السياسة أعاقت قدرة أوروبا على بناء قوتها العسكرية الخاصة، وينبغى على الولاياتالمتحدة بدلاً من ذلك أن تشجع الدول الأوروبية على الاستثمار فى صناعاتها الدفاعية. علاوة على ذلك، تقترح المجلة الأمريكية ضرورة تحويل حلف الناتو تدريجيًا إلى تحالف بقيادة أوروبية. يمكن أن يشمل ذلك إنشاء «ركيزة أوروبية» داخل الناتو، حيث يمكن للأعضاء الأوروبيين العمل على صياغة مواقف مشتركة بشأن قضايا الدفاع والأمن دون تدخل أمريكي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون القائد الأعلى القادم لقوات الحلفاء فى أوروبا، وهو منصب تقليدى يشغله أمريكي، من الأوروبيين، مما يؤكد تحول القيادة. فى النهاية، تؤكد المجلة الأمريكية أن الوقت قد حان لإعادة تعديل دور الولاياتالمتحدة فى أمن أوروبا. من خلال تقليل مشاركتها، يمكن للولايات المتحدة أن تحرر الموارد لمواجهة تحديات أكثر إلحاحًا فى أماكن أخرى، مثل آسيا، وتتيح لأوروبا تحمل مسئولية أمنها الخاص. إن علاقة متوازنة بين الولاياتالمتحدة وأوروبا، حيث تعمل واشنطن كضامن أخير للتوازن بدلاً من أن تكون المزود الرئيسى للأمن، ستكون مفيدة للطرفين.