وكأن القدر يتآمر على الشعب السوداني مرتين، فقد عاش منذ أشهر فى حرب كادت أن تأتى على الأخضر واليابس، وتهدد مستقبله ووحدة أراضيه، حتى كانت الطامة الكبرى منذ السابع من أكتوبر الماضى. مع الطلقة الأولى لعملية طوفان الأقصى بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، اكتشف السودانيون أن أزمتهم لم تعد محور العالم، الذى سرعان ما ينسى الأزمات مهما كانت فادحة، بل تتحول إلى ترتيب متأخر إذا أضيف لها المواجهات الروسية الأوكرانية. اتجهت أنظار العالم إلى قطاع غزة، رغم أن السودان يعانى من أزمة لا تقل عن ما يواجهه الشعب الفلسطينى، ولعل دخول الأزمة عامًا جديدًا كان جرس إنذار لكل العواصم العالمية، بأن هناك شعبًا يواجه الإبادة ويشهد أكبر عملية نزوح في التاريخ، مما جعل الاهتمام بالقضية يعود بشكل أكبر نسبيًا. فقد شهدت باريس أمس الأول «الاثنين» أعمال المؤتمر الإنسانى الدولى للسودان وجيرانه، برئاسة فرنسية ألمانية أوربية ومشاركة دولية واسعة ومن بينها الجامعة العربية، وهناك توقعات بقرب استيفاء لمسار جدة المدعوم عربيًا ودوليًا. فى هذا الملف محاولة للحصاد المر لعام كامل، من معاناة شعب السودان، نتوقف فيه عند حقيقة الدور المصرى من الأزمة، والجهود العربية فى ذلك المجال، فضلا عن رصد أبعاد الصراع العسكرى ومراجعة وسيناريوهات المرحلة القادمة، ومخاوف تحول السودان إلى ملاذ آمن للجماعات الإرهابية، مع رصد للحجم غير المسبوق من المأساة الإنسانية فى السودان. تدهور الأوضاع فى السودان تسبب فى مأساة داخلية استمرت على مدار عام كامل، لكن الأزمة يمكن أن تصبح عابرة للحدود، نتيجة خلق الحرب بيئة حاضنة للإرهاب، وهو تهديد حقيقى تدعمه المعارك المشتعلة والمساحة الشاسة لأحد أكبر البلدان فى أفريقيا. الأمر الذى قد يضيع سنوات من الجهود المستمرة، سعى فيها السودان للقضاء على الإرهاب داخل حدوده، وأحرز تقدما فى هذا الأمر. علاقة السودان بالإرهاب ليست جديدة، حتى تم إدراجه على قائمة الولاياتالمتحدة للدول الراعية للإرهاب فى أغسطس 1993 واستمر ذلك إلى أن تم رفعه من القائمة فى 2020. وخلال السنوات الفاصلة بين الإدراج والرفع تعرضت الخرطوم لعقوبات دبلوماسية من قبل الأممالمتحدة.. ونظرا لاحتلال السودان موقعاً استراتيجياً فقد أدى ذلك إلى تصدير الحركات الإسلامية، بسبب حدوده مع كل من مصر وليبيا ومع ست دول أفريقية، بما فى ذلك إثيوبيا، التى تضم عدداً كبيراً من السكان المسلمين الفقراء. يعد السودان، ثالث أكبر دولة إفريقية (بعد انفصال جنوب السودان عام 2011)، مما جعله ملاذا تختفى فيه مراكز تدريب الإرهابيين. ويضم مواقع معروفة بتدريب مجموعات معينة أو أشخاص من بلدان معينة، منها معسكر الموكيل قرب شندى الذى استخدم لتدريب الجزائريين والتونسيين. وفى أوائل مايو 1990، بدأ حوالى 60 عربيًا من شمال إفريقيا وفرنسا وبلجيكا التدريب فى منطقة شمبات بالخرطوم.. ويحذر الخبراء والباحثون من تفاقم الأوضاع الإقليمية والعالمية نتيجة الصرعات الداخلية وغياب الاستقرار السياسى والاجتماعي والاقتصادي فى السودان. فى البداية أكدت د.سمر الباجورى أستاذ الاقتصاد بكلية الدراسات والبحوث الأفريقية أن تطورات الصراع فى السودان تهدد بتوليد بؤرة إرهاب جديدة فى القارة الأفريقية، وهو الأمر الذى يعززه العديد من الشواهد منها هشاشة الأوضاع على حدود السودان، حيث تعد الفرصة مناسبة لتسلل العناصر الإرهابية، وخلق نقاط تجمع، وتشكيل خلايا على الحدود أو أطراف الخرطوم. هذا بجانب إقليم دارفور غربى البلاد، الذى يعد منطقة نزاع داخلى، وغير مستقر، ومكان عبور للإرهابيين من وإلى السودان، خاصة أنه يقع على الحدود مع ليبيا وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى. وتوضح الباجورى أن خطط تنظيم داعش الإرهابى تشمل تأسيس «ولاية» فى السودان عبر خلايا نائمة، وتمرير عناصر من دول الساحل الإفريقى إلى دارفور.. وهو الأمر الذى يمثل خطرا فى ظل وجود من يمكن أن يوفر ملاذا لجماعات إرهابية داخل السودان، وتذكر فى ذلك تجربة إيواء الرئيس السابق عمر البشير، لأسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة وقيادات إرهابية أخرى. وتشير إلى أن السودان شهد خلال السنوات العشر الأخيرة محاولات من جماعات إرهابية للعبث به وبدول الجوار، وتوضح الباجورى أن إحدى الدراسات عن الجماعات الارهابية فى أفريقيا، رصدت ثمانى جماعات إرهابية أساسية تابعة لداعش فى القارة، تشمل 52400 مقاتل، وذلك وفقاً للبيانات الصادرة عن لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن، ورغم أن البيانات تخص القارة بشكل عام إلا أن الأوضاع المتدهورة فى السودان يمكن أن تجتذب العديد من هذه التنظيمات والعناصر. من جانبها تؤكد د.أميرة محمد عبد الحليم الباحثة المتخصصة فى الشأن الأفريقي، أن التطورات التي شهدتها السودان فى العام الأخير تمثل بيئة جيدة وحاضنة لبروز الجماعات الإرهابية، خاصة فى ظل وجود حركات إسلامية كانت تمارس العمل السياسى داخل السودان. ورغم عدم ممارستها الإرهاب، لكن تواجدها واستمرارها قد يسهل تجنيد الشباب فى الجماعات الإرهابية.. خاصة فى ظل الفوضى التى تعيشها البلاد. وترى أن المشهد الحالى يوضح أن حالة الدولة منهارة، بعد خروج مناطق كثيرة من سيطرة الحكومة وبالتالى لا توجد سلطة مركزية حقيقية، يمكنها السيطرة على كامل الإقليم، وهو الأمر الذى يؤدى إلى فراغات أمنية يمكن للجماعات الإرهابية التواجد والنمو فيها بجانب إمكانية استخدام أرض السودان كممر للأسلحة وعمليات التدريب. وتشير إلى أن هناك مجموعة من التصورات والأحداث التى تؤكد أن السودان الآن مكان ملائم جدا لتفريخ الجماعات الإرهابية وهو الأمر الذى يمثل خطورة كبيرة. وتوضح أنه فى حالة تصنيف العمليات الإرهابية والمقارنة بينها وبين عمليات الصراع أو العنف الأخرى، سنجد أن بعض الممارسات التي ظهرت حاليا فى السودان تمثل ممارسات إرهابية.. وهو الأمر الذى يضعنا أمام شقين أحدهما يتعلق بالتنظيمات الإرهابية التى ستجد من هذا البلد ملاذا آمنا أو ممرا.. وسيتم استغلال الأوضاع من جانب بعض الجماعات الإرهابية بصورة كبيرة فى تنفيذ أهدافها والحصول على الدعم.. والشق الآخر أننا أمام أطراف ترفض الحل أو تقديم بعض التنازلات وتقوم بممارسات إرهابية فى حق المدنيين.. وهذا يشكل خطورة كبيرة جدا على مستقبل السودان والمنطقة. وأضافت د.أميرة أن أحداث السودان يمكن أن تؤثر سلبا على إقليم شرق أفريقيا، خاصة أنه أصبح يعج بالفوضى، ومن أبرز الحركات فى الإقليم حركة شباب الصومال، وقد انشق منها جزء وانضم لداعش، وجزء آخر انضم للقاعدة.. كما توجد جنوبا فى موزمبيق حركة الشباب التابعة لداعش وهى قريبة من تنزانيا.. وبالتالى يوجد تهديد بأن تجد العناصر الإرهابية فى موزمبيق دعما ومساندة فى تنزانيا وتستطيع بناء تنظيم إرهابى جديد داخلها. وتؤكد وجود تهديدات خطيرة فى ظل معاناة الإقليم من صراعات كبيرة وتنظيم إرهابى رئيسى «حركة الشباب المجاهدين».. بجانب انفجار الوضع فى السودان، حيث تحول أكثر من نصف شعب دولة بهذا الحجم والثروات إلى طالبين للمساعدات، فضلا عن خروج معظم مؤسسات الدولة عن عملها، ووجود ما يقرب من 8 ملايين نازح داخلى بجانب اللاجئين، ومع بروز بعض التنظيمات الإرهابية القديمة أو استعادة قوتها فى ظل هذا الأوضاع ستصبح التهديدات خطيرة، خاصة إذا وضعنا الأمن الدولى فى الاعتبار، فهناك تهديد على الملاحة فى السودان وأمنها خاصة السفن الغربية لأن أغلب هذه الحركات الإرهابية تكون مناهضة للقوى الغربية خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية.