تبدأ 24 يوليو، محافظ الدقهلية يعتمد جدول امتحانات الدور الثاني 2024    معهد بحوث الإلكترونيات يوقع عقد اتفاق مع شركة "إي سبيس" لإدارة وتشغيل المقر المؤقت    سياسيون كبار يهددون المدعي العام للجنائية الدولية: المحكمة لقادة أفريقيا وبوتين فقط    الجامعة العربية والحصاد المر!    رونالدو يتصدر قائمة البرتغال في يورو 2024    من 3 ل 4 درجات، انخفاض درجات الحرارة بدءا من هذا الموعد    أمن الأقصر يضبط عاطلا بحوزته 156 طربة حشيش وسلاح ناري    أعضاء مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية يشيدون بدور مصر لإنهاء الحرب في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية    هيئة الدواء المصرية: مشروع تصنيع مشتقات البلازما تأمين للأدوية الحيوية    فوائد البنجر، يخفض مستوى السكر بالدم ويحمى من تشوهات الأجنة    السيسي: مكتبة الإسكندرية تكمل رسالة مصر في بناء الجسور بين الثقافات وإرساء السلام والتنمية    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    مبادرات التخفيض "فشنك" ..الأسعار تواصل الارتفاع والمواطن لا يستطيع الحصول على احتياجاته الأساسية    وزير التنمية المحلية: إنشاء 332 مجمعًا خدميًا في قرى «حياة كريمة»    موعد تجديد عقد لوكاس فاسكيز مع ريال مدريد    جاهزية بديل معلول.. الأهلي يتلقى بشرى سارة قبل مواجهة الترجي بنهائي إفريقيا    ختام فعاليات المرحلة الثانية من الدورة التدريبية لخطوات اختبارات الجودة    تحقيق جديد في اتهام سائق بالتحرش.. وتوصيات برلمانية بمراقبة تطبيقات النقل الذكي    ضبط طرفى مشاجرة بالقاهرة نتج عنها وفاة طفلة وإصابة آخر    أجازة 9 أيام .. تعرف على موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2024    بتهم القتل والبلطجة.. إحالة أوراق عاطل بالقليوبية لفضيلة المفتي (تفاصيل)    تأجيل 12 متهما ب «رشوة وزارة الرى» ل 25 يونيو    تفاصيل حجز أراضي الإسكان المتميز في 5 مدن جديدة (رابط مباشر)    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    نقيب القراء: لجنة الإجازة بالإذاعة حريصة على اختيار من هم أهل للقرآن من الكفاءات    كيت بلانشيت بفستان مستوحى من علم فلسطين.. واحتفاء بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي العرب (صور)    دعاء النبي في الحر الشديد: كيفية الدعاء أثناء موجة الطقس الحار    تعاون مصري سعودي لتعزيز حقوق العمال.. برنامج تأميني جديد وندوات تثقيفية    150 هزة ارتدادية تضرب غرب نابولي.. وزلزال الأمس هو الأقوى خلال العشرين عامًا الماضية    إجراء 74 ألف عملية جراحية لمواطني المنيا ضمن مبادرة «القضاء على قوائم الانتظار»    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    لمواليد برج السرطان.. توقعات الأسبوع الأخير من مايو 2024 (التفاصيل)    للتوعية بحقوقهن وواجباتهن.. «الهجرة» تناقش ضوابط سفر الفتيات المصريات بالدول العربية    وزير الري: أكثر من 400 مليون أفريقي يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى مياه الشرب    الخارجية الأردنية: الوضع في قطاع غزة كارثي    «القاهرة الإخبارية»: حماس تنتقد جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنين    محافظ جنوب سيناء ومنسق المبادرة الوطنية للمشروعات الخضراء يتفقدان مبنى الرصد الأمني بشرم الشيخ    هالاند.. رقم قياسي جديد مع السيتي    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    «التضامن»: مغادرة أول أفواج حج الجمعيات الأهلية إلى الأراضي المقدسة 29 مايو    وزير التعليم: مدارس IPS الدولية حازت على ثقة المجتمع المصري    الموعد والقناة الناقلة لقمة اليد بين الأهلي والزمالك بدوري كرة اليد    هل يصبح "خليفة صلاح" أول صفقات أرني سلوت مع ليفربول؟    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    أحمد الفيشاوي يحتفل بالعرض الأول لفيلمه «بنقدر ظروفك»    طلب تحريات حول انتحار فتاة سودانية صماء بعين شمس    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    دونجا: ياسين لبحيري حماني من إصابة خطيرة.. وشكرته بعد المباراة    خبيرة تغذية توجه نصائح للتعامل مع الطقس الحار الذي تشهده البلاد (فيديو)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-5-2024    لجان البرلمان تواصل مناقشة مشروع الموازنة.. التموين والطيران والهجرة وهيئة سلامة الغذاء الأبرز    داعية إسلامي: الحقد والحسد أمراض حذرنا منها الإسلام    حسام المندوه: الكونفدرالية جاءت للزمالك في وقت صعب.. وهذا ما سيحقق المزيد من الإنجازات    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد الزناتي يكتب: لا تسبّ حياتك: من أفكار ويليام جيمس وفلسفته
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 04 - 03 - 2023

«مهما بلغت حقارة حياتك لا تتجنبها ولا تسبّها، لأنها ليست فى مثل رداءتك، والعيّاب سيجد عيوبًا فى الفردوس. بعْ ملابسك واحتفظ بأفكارك وسيحرص الله ألا تحتاج إلى أحد».
والدن، ديفيد هنرى ثورو
هل مزيد يُقال عن وليام جيمس وأفكاره؟ أقصد فى الغرب أولًا بعد مرور ما يزيد على قرن كامل على وفاته؟ ناهيك عن ترجمة جُلّ أعماله إلى العربية، بداية من إرادة الاعتقاد فى أربعينيات القرن الماضى وصولًا إلى سِفره الضخم تنويعات التجربة الدينية بترجمة ممتازة (ت: إسلام سعد- على رضا)؟ برغم ذلك ، صدر مؤخرًا كتاب «Be Not Afraid of Life عن دار برينستون» ما الغاية من وراء إعادة تقديم فلاسفة قُتلوا بحثًا ودراسة؟ المال؟ هل تحتاج دار غنية الموارد، راسخة القدم مثل دار جامعة برينستون إلى هذا النوع؟ أعجبنى العنوان الأصلى للكتاب: لا تخشَ الحياة. هل هو عنوان وضعَه Marketer شاطر؟ ربما.
وعلى أى حال ما شجعنى على المضى قدمًا فى الكتاب هو تصدير الكتاب بكلمة لكاتب أيرلندى من القلّة المفضّلين عندى من الكُتاب الأحياء، أعنى جون بانفيل، تقول: «[الكتاب] تمهيد ممتاز لأعمال وليام جيمس وفلسفته. وقد جاء فى أوانه، لاسيما لو وضعنا فى اعتبارنا أحوال العالم وهو يهوى إلى قعر الجحيم فوق عربة يد. الكتاب نجدة تُسعفنا، حتى لو كانت عاجزة عن إنقاذ روح أحد».
وقد أعجبنى أن بانفيل ، الروائى الأشهر، وهو إلى جانب ذلك قارئ ومثقف من طراز ثقيل، أقول أعجبنى أنه لم يخش سخرية،آراء رفاقه من الكُتاب السائرين على الكتالوج، «المقموصين» من كتب فلسفة الحياة وتطويع الأدب والحكمة لمواصلة الطريق.
وعلى فترات أتناوب، دونما خطة، على قراءة فقرات من وليام جيمس (مثلما أفعل مع إيمرسون، ومونتينى ونصوص محفوظ)، أخطّط أسفلها أحيانًا؛ رسائله ومقتطفات من محاضراته. وفى كل مرة يترسّخ عندى مبدأ مهم: التجربة هى ما تصنع المفكر- الكاتب - الفنان الحقيقي. جيمس فيلسوف تجريبى، يتأمل التجارب الفردية، لا، بل أقول يتأمل تجاربه الذاتية أولًا، يسجّلها، يعانى معها ومنها، ثم يستخلص منها رؤية كلية للحياة (ربما لا تلزم أحدًا غيره).
وفى الآونة الأخيرة، بدأت دور النشر الغربية فى الالتفات إلى تقديم مختارات من أعمال الفلاسفة الكبار، بل حتى إعادة تقديم الفلسفة الإغريقية تقديمًا مزودًا بالتعليقات والحواشى بما يتلاءم مع أحوال عصرنا الراهن (وهو الغرض الذى فطن إليه جون بانفيل بذكاء)، ربما إيمانًا منها بأهمية إعادة تسليط الضوء على الفلسفة وعلّتها الأصيلة، مَحبّة الحكمة والسعى وراءها.
ولاسيما فى الأوقات الإنسانية الصعبة. عندنا محاولات جديرة بالتنويه، منها أعمال د. عادل مصطفى وترجماته. من بين ما اقتنيتُ من المعرض مؤخرًا كتاب بعنوان برجسون فيلسوف الحياة للدكتور حسن حنفى، ألقيتُ على الفهرس نظرة سريعة، ربما ندردش عنه بالتفصيل يومًا.
وليس العمل مجرد قصّ ولزق من كتب جيمس ورسائله، بل إن المحرّر يستهل كل فصل بمقدمة مكثفة ذاتية الطابع يتناول فيها الغرض من اختيار المادة وربطها بآراء الفلاسفة وعلماء النفس المعاصرين مثل فيكتور فرانكل (صفحة 44 مثلًا) بعنوان معضلة الحتمية، حول مشكلة الجَبر والتسيير فى الحياة.
وربما سيلاحظ القارئ تركيزى أكثر على مقدمة المحرّر وأسلوبه ورؤيته فى بناء الكتاب أكثر من الكتاب نفسه، فأعمال جيمس متاحة بالمجان للجميع (وبكل اللغات)، متاحة على قارعة الطريق لمن شاء أن يقرأ، ما يعنينى استقبال المحرّر - القارئ - صاحب التجربة للمكتوب.
ويبدأ المحرّر، الذى اضطلع بانتقاء فقرات من رسائل جيمس ومقالاته بمقدمة تكشف عن رؤيته الشخصية، وهو ما أكسب العمل قيمة مضافة فى نظرى، لأنها صادرة عن قارئ واع، لا ينقل كالذى ينعق بما لا يسمع، بل يفهم ويحلل المادة التى ينتقيها ويقدّم لها فيقول:«عادة ما يُنظر إلى الفلسفة على أنها أدنى الأنشطة الإنسانية قيمة وأزيدها عن الحاجة.
ويستمر الأمر هكذا حتى اللحظة التى يدرك فيها المرء بغتة أنها ليست كذلك. ربما تبدأ الفلسفة بسؤال الدهشة مثلما ذهب الفلاسفة القدماء، ولكنها مولودة أيضًا من رحم الصراعات، الشخصية منها والسياسية على حد سواء، وهى قادرة على اختراق عظام الرجال والنساء العاديين.
وفى أوقات الأزمات كأوقاتنا هاته- إذ نواجه المعاناة والظلم والموت-، ربما يشرع الإنسان فى طرح سؤال طالما كان، بل وسيبقى ضاربًا بجذوره فى قلب الفلسفة: «هل الحياة، هذه الحياة، حياتى، الحياة الذى تثير الذعر فىَّ حتى النخاع، هل تستحقُّ العيش؟ لا نفع من وراء كل إجابة متسرّعة طائشة، بل المنفعة الحقيقة فى الإجابة الحكيمة الرزينة. ومع طرح هذا السؤال يكتسب حب الحكمة أهمية الحياة والموت. فتحدونا الرغبة فى فهم الأشياء، أن نفهم مغزاها، أن نصير أقل خوفًا».
ويضيف المحرر: «الأهم من ذلك أن كلماته قدمت رفيق درب حكيماً، قدمت دليلًا شبيهًا بفيرجيل [المقصود دليل دانتى فى بداية الكوميديا الإلهية]، لمساعدتنا على السير عبر حلقات الجحيم الصغيرة الخاصة بنا. ها هو ذا كلام جيمس دليل واضح وضوح الشمس: غالبًا ما تكون الحياة مخيفة، وليس هذا الشعور مدعاة للخزى، بل الخزى حقًا لو لم نتخلص من هذا الخوف».
وفي المقدمة فى نظرى لا تقل أهمية عن الكتاب نفسه، يُخيّل إلى أن المحرر الشاب دخل فى تجربة مع مقولات ويليام جيمس وآرائه، وربما رأى انعكاس أثرها فى حياته. لنعُد من مقدمة كتابنا:
«بادئ ذى بدء علينا أن نكون واضحين بشأن أمر محدد: ليس فى مقدور ويليام جيمس إنقاذ حياتك. لكن كتبه وأفكاره وتوصياته قادرة على إثراء طريقة عمل عقلك، بل حتى عواطفك. قد يلقى الكتابُ الضوء على كيفية تعاملك مع مشكلتك.
ولكن لا تعتمد على ذلك، وقبل كل شيء، لا تعقد عليه كثيرًا من الأمل. نحن نختلف بكل احترام مع بانفيل. بالنسبة لمن هم على حافة تدمير ذواتهم تدميرًا تامًا، فإن منهج وليام جيمس فى إثراء طريقة عمل عقلك وعواطفك قادر فى كثير من الأحيان على خلق شعور بالخلاص.
وهذا هو المعنى الذى يمكن للفلسفة أن تخلّصكَ به، وهو ترياق حقيقى مثله مثل أى دواء مادي. لقد جُمِعت هذه المختارات كهدية للمرضى، كدعوة لتلقّى جلسة من جلسات العلاج الفلسفى على يد رجل نعدّه واحدًا من أكثر المفكرين حكمة وغزارة فى الإنتاج فى القرن التاسع عشر. اعتقدَ جيمس أنه فى مقدور القلوب المعتلّة «فضلتُ ألا أترجمها القلوب المريضة، لأن الذين فى قلوبهم مرض لا يُشفون أبدًا» أن «تُولد مرتين»، لتواجه العالم بشجاعة وبروح مؤمنة بوجود المعنى. وهو ليس بالأمر الهيّن. إنها على الدوام المسألة الشائكة المتمثلة فى تجريب قوة الإرادة.
وفى تعديل منظور رؤيتك إلى الأشياء، فى إفساح المجال للتساؤل والأمل. كما جُمعت هذه المختارات لأجل أصحاب القلوب السليمة، أولئك الذين يرون الكون كُلًا باعثًا على الرضا، معمًا بالتناغم. جُمعت نصوص الكتاب كوسيلة لفهم المتأرجحين على حافة أمراض الروح القاتلة من الأصدقاء وأفراد العائلة والجيران وتقديم يد العون إليهم. تمر الولايات المتحدة حاليًا بأزمة وجودية جماعية، وهى مرحلة يتساءل فيها عدد غير مسبوق من الشباب عن معنى الحياة، فتتزايد حالات الاكتئاب والانتحار والسلوكيات شبه الانتحارية، بعد أن فرضتْ علينا معدلات البطالة المرتفعة، والتضخم، والاستقطاب والحروب الخارجية مزيدًا من الضرائب».
وفى المقدمة نفسها يحكى المحرر أن ويليام جيمس، مؤسس البراجماتية (وأدعو القارئ الفطن إلى التأنّى وهو يسمع هذا المصطلح الذى أسيء فهمه وتأويله من العامّة)، ومؤسس علم النفس التجريبى توجّه فى سنة 1895 إلى جمهور من الشبّان فى نهاية إحدى محاضراته بسؤال عن معنى الحياة، ثم رفع عقيرته قائلًا: «لا تخشوا الحياة، آمنوا بأن الحياة جديرة بأن تُعاش، وإن إيمانك قادر على مساعدتك فى خلق الحقيقة».
ويلاحظ المحرّر بذكاء أن هذه الكلمات لم تكن وصية إله عزيز يتردد صداها فى الكتاب المقدس، بل هى كلمة رجل لم تكن حياته إلا عربة غارسة فى وحل الخوف، وهو ليس خوفًا من شيء بعينه، كالخوف من الوحوش أو العناكب السامة، وإنما خوف من مواجهة الحياة بوجه عام.
ويقول المحرر نصًا: «لأن العالم بكل بساطة غير حَفِيّ بنا، وهو مُحقّ فيما يقول. العالم الدنيوى غير حَفِى بالبشر. هذه حقيقة مؤكدة، ولا مهرب من ذلك، وهو فيما أظن السبب الأصيل وراء نشأة الفن والأدب والكتابة والموسيقى، الاستئناس بشيء تحتفى به ويحتفى بكَ.
ويقول المحرر إن حياة ويليام جيمس الإنتاجية برمتها (وكان بالمناسبة رجلًا غزير الإنتاج على نحو متطرف)، كانت ردّ فعل معقداً على مسألة معنى الحياة. هذا المعنى قرأته أيضًا فى خواتيم كتابه الفذّ المهم تنويعات التجربة الدينية، إذ ذُكر أن سرد وتحليل هذه التجارب الدينية / الروحانية كان يحمل وراءه آثارًا من تجربة دينية شخصية متفردة لويليام جيمس.
وفى مقدور القارئ العربى أن يتبيّن من فهرس العمل أن كثيرًا من الفصول المذكورة تُرجمت إلى العربية مثل: البراجماتية، إرادة الاعتقاد، تنويعات التجربة الدينية، فقرات من رسائله ترجمها محمد على العريان ورمضان بسطويسى فى أفكار شخصية - وليام جيمس (المركز القومى للترجمة، 2013). لكن ثمة فصلا أثار فضولى بشدة يحمل عنوان: «حول نوع معيّن من العمى عند البشر (1899)»، لاهتمامى بمسألة العمى والبصيرة فى تجلياتها المختلفة فى الأدب وفى البشر عمومًا، وهو فى الأصل محاضرة ألقاها جيمس سنة 1892 إلى حشد من المُعلّمين.
ويذهب المحرر إلى أن جيمس طالما كان موضع انتقاد الدارسين وعلماء عصره لأنه قَصَر اهتمامه على الفرد وحده، ولم يول اهتمامًا كبيرًا بالمجتمع، بمعنى اعتقاده بأن الفردانية تتفوق على أى اهتمام أوسع بالمجال الاجتماعى والسياسي.
ولكن محاضرته حول نوع معيّن من العمى عن البشر تدحض هذه المزاعم على نحو واضح. صحيح أن فلسفة وليام جيمس (وأضيف سالكى طريقه المباشرين وغير المباشرين من أمثال إدموند هوسيرل، ك.ج.يونج، فيتجينشتاين وغيرهم على اختلاف توجهاتهم) فردية صرفة، وهذا صحيح تمامًا، لكن فلسفته الفردية تضمّنت ما سيطلق عليه جيمس «التعددية» فيما يتعلق بالقيم والمعنى.
ويقول المحرر نصًا: «إن العمى الذى يشير إليه جيمس فى هذا المقتطف هو عجز كل منا عن رؤية ما هو أبعد من منظوره الشخصى، المحدود للغاية، وهو كذلك الفشل فى الاعتراف بالحياة الداخلية [الجوّانية] للآخرين الذين يعيشون خارج ما أسماه ديفيد فوستر والاس ممالكنا الصغيرة صِغَر حجم الجمجمة. يٌقرّ جيمس، فى لحظة اعتراف ذات مغزى عميق، بأنه كان يعانى من محدودية النظرة هاته. فى إحدى رحلاته يروى واقعة مروره بعدد من المنازل الصغيرة التى لم تكن ترقى إلى مستوى منزله فى إيرفينج ستريت فى كامبريدج.
وسخر على الفور مما اعتبره ظروفًا مجتمعية رديئة، فارِضًا ذوق الطبقة المتوسطة العليا «التى ينتمى إليها» على حى لم يفهمه ولم يحترم ذوقه. إنها لحظة مفصلية فى حياتنا الأخلاقية عندما ندرك أن الآخر يجد المعنى والجمال كل على طريقته الخاصة، وأنه من المستحيل بالنسبة لنا أن نفهم تمامًا ثراء وعمق اختيارات وتفضيلات شخص آخر. وهو مرادف لِلون من ألوان التواضع المعرفى (بمعنى أننا نعترف بأن منظور رؤيتنا للأمور قاصر ومحدود).
وهو حجر الزاوية فى التعددية الأخلاقية عند وليام جيمس. لا تعبّر المحاضرة [أو المقالة لو شئتَ القول] عن وجهة النظر الفاضلة غير المشروطة القائلة إن على كل شخص التعايش مع الآخرين أو إن كل شخص جدير بالاحترام.
وكان هدف جيمس هو المجادلة بشأن حقيقة أن المرء يرتكب أحيانًا خطأ هائلًا عندما يفترض أنه يفهم الأمور فهمًا مكتمل الأركان، ثم يُصدر حكمًا على حياة الآخرين. هذه المحاضرة مرتبطة بنظرة محددة للعالم وعلاقاتنا الأخلاقية إزاءه، فالحقيقة أعظم من أن يسَعَها أى عقل. ليست هناك وجهة نظر عامة كونية شاملة البتة. وأسوأ ما فى الأمر أن أولئك الذين يبحثون عنها من الخارج، لا يعرفون أين يبحثون .
وإن أحكامنا حول قيمة الأشياء، كبيرة كانت أم صغيرة، مرهونة بالمشاعر التى تثيرها تلك الأشياء فينا. والعمى عند البشر، وهو محور محاضرة جيمس، هو العمى الذى نُبتلى به جميعًا عندما يتصل الأمر بمشاعر المخلوقات والأشخاص المختلفين عنا»، واهتمام الفرد بذاته هو، فى اعتقادى، أكبر احترام وتوقير وأسمى شعور بالإنسانية يمكن للإنسان أن يقدّمه لغيره.
فماذا لو سحبتُ مقولات وليام جيمس على وضعنا الحالى مثلما فعل المحرر؟ هل قصد جيمس بالعمى التعامي؟ بمعنى انشغال الإنسان عن تدبّر حاله ومشكلاته وتعليق بصره بنقدِ الآخرين والسخرية منهم والحطّ من شأنهم والانشغال بشئونهم؟ طالما انتقد جيمس بسبب إغراقه فى التأكيد على الفردانية وضرورة تمسّك الإنسان بجوهر شخصيته، بوجوده الأصيل كى لا يجرفه صراخ القطيع. هل فردانية وليام جيمس المُنتَقَدة بهذا المعنى مستهجنة كما يدّعى خصومه أم العكس؟
وأعجَب من قدرة البعض على متابعة كل شيء، والتعليق على كل شيء ومناقشة كل شيء والإدلاء بالدلو إياها فى كل شئ فأقول من أين يأتى البشر بهذا الوقت؟ بهذا المزاج؟ بهذه الطاقة الهائلة على الانشغال بتفاصيل حياة الآخرين (ناهيك بالاهتمام بها من الأساس!) وإغضاء الطرف عن مشكلاتهم وحياتهم؟ هل لأنهم لا يملكون حياة حقيقية؟ أم لأنهم يتحاشون مواجهة الحياة الحقيقية؟ فيكون من الأيسر التعليق على حياة الآخر ومبادئه وسلوكه وقناعاته؟ نعرف أن وليام جيمس مارس تأثيرًا قويًا فى نشأة ما أسَميه بتيار الغنوصية الجديدة (برجسون، يونج، إلياده، كامبل، جيمس هيلمان، ألان واتس وغيرهم).
لكن ما أهمية التأكيد على الفردانية بالنسبة للصحة النفسية/الذهنية للمرء؟
وفى إحدى محاضراته لشرح نصوص نيتشه يعلّق ك.ج. يونج على عبارة: «إن كانت لك فضيلة يا أخى، وكانت هذه الفضيلة خاصة بك فلا تشارك فيها أحدًا سواك». تأويل يونج لكلمة فضيلة، وبالألمانية Tugend أنها قيمة شخصية، قيمة وجوده فى الدنيا، ولا علاقة لها بالمعنى الأخلاقي/المجتمعى الشائع. لذلك استُخدمت كلمة «الفضيلة –Virtus» اللاتينية للتعبير على سمات سحرية خاصة كسمات المعدن الثمين أو الحجر النبيل.
ولو فقد الحجر الكريم خصاله الجوهرية = فضائله، لتحوّل إلى حصاة تعلق بنعال الأحذية. مثلاً سمة = فضيلة الذهب هى أنه متجاوز للزمن، لأنه يبقى ذاته (نفسه) فلا يصدأ، وبالتالى فالإنسان الفاضل هو الإنسان المتمتع بشخصية مستقلة وبقيمة وجوده التى يخلقها بنفسه. أن يكون نفسه.
وينزع نيتشه فى أحد كتبه المتأخرة عن كلمة الفضيلة كل غطاء أخلاقي؛ فى إشارته إلى الفضيلة الكبرى فى نظره وهى البسالة، ينحت نيتشه مفردة «مورالين» على وزن مورفين وكوكايين وكل مخدّر، فيقول بالألمانية «moralinfreie Tugend» أى فضيلة خالية من المورالين. البسالة فى مواجهة الذات ومواجهة الآخرين بفضيلة خالية من أخلاق القطيع.
اقرأ ايضاً | الروائية علياء هيكل تفوز بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الأدبي
نقلا عن مجلة الأدب:
2023-3-4


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.