الكاتب يَنفُذُ إلى جوهر الإبداع الذى يخاطب الوجدان أكثر مما يخاطب العقل والمنطق. ويكفى أن نتعرف على تلك الأجواء، ومدى تأثيرها، أن نعلم أن الرواية تقوم على فعل مركزى واحد، وتتحول الرواية منه إلى إضاءات، نتعرف منها كيف كانت، وما أسبابها، وما نتائجها. إذا كان المألوف لدى العرب، أن السرد هو لغة العقل، وأن الشعر هو لغة الوجدان. فأول طريق للوجدان هو محادثة الذات، وتأملها، والبحث عن فلسفة وجودها ارتبطت الأحلام فى الذهن الجمعى بالمستحيل، حتى إذا ما تحدث أحد بما يود فعله، وبدا للآخر بأنه بعيد المنال، فيكون رده (إنت بتحلم). وتلك هى بؤرة أحدث روايات المبدع أحمد عبد اللطيف «عصور دانيال فى مدينة الخيوط»، والتى تأرجح السرد فيها بين حلم النوم، وحلم اليقظة، واتخذ من الشكل الدائرى، حيث تبدأ وتنتهى بذات المشهد – تقريبا- وسيلة هى أقرب للحلم، شكلا ومضمونا. فمن حيث الشكل، لا تستغرق الرواية –زمنيا- فترة أطول من فترة الحلم، ومضمونا، فإن الرؤية التى يمكن استخلاصها، تتمحور حول اليأس من تحقيق الأمنية. فضلا عن أن تلك التقنية- الحلم- أتاحت له أن يخترق المألوف، فانقسمت الشخصية المحورية –السارد المشارك- إلى ثلاث شخصيات، تحرك كل منها لأداء وظيفة محددة، وكأن كل منها شخصية مستقلة، بينما الانقسام، انقسام داخلى، داخل الشخصية نفسها، وهو ما لم يكن مناسبا فقط لتقنية الحلم، بل كان –أيضا- تعبيرا عن التشتت الذى اعترى تلك الشخصية، تعبيرا عن المرحلة التى تتناولها الرواية، والأشبه بما تميزت به رواية الستينيات باستخدام تيار الوعى، وإن لم يستخدم الكاتب هنا هذا التيار، فتركزت الرواية حول رؤية محددة، أحاطها بالكثير من التلاعب الإبداعى، الذى يقول كل شىء، دون أن يترك (حرزا) محددا يمكن أن يمسك به القارئ، فكأنه لم يقل. وكأننا أمام قاتل محترف، لم يترك ما يُستدل عليه به. رغم قناعة المحقق بكونه الفاعل، ورغم قناعتنا بأن مثل هذا الإبداع، لا يكتبه إلا كاتب مبدع، نحن نعرفه، ونعرف اسمه. كما ينضاف إلى تلك الحيل الإبداعية، تكرار الكاتب بشكل ملفت للتعبير –المدعى البراءة- (فلم أكن أعرف تقدير الزمن) بما يوحيه من التيه وعدم الاتزان، الذى يفرضه الجو العام للرواية، فإنه يعرف جيدا ذلك الزمن الذى يتحدث عنه. والذى استطاع أن يُذيبه فى الكثير من حيل التمويه، فجعله عصورا، بما توحيه كلمة «عصور» من تباعد الزمن وقدمه، وتجاوز عن التسلسل المنطقى له، بقصدية متعمدة، وراء الإبهام الذى بدأ منذ العنوان الرئيسى للرواية «عصور دانيال فى مدينة الخيوط». والذى يُثير الكثير من التساؤل، والغرابة، التى لابد تنناب القارئ منذ قراءته. بينما القصدية، والتعمد، يتكشفان مع صفحات الرواية، خاصة aعندما حدد العصور بالأربعة، وإن كانت على أرض الواقع تسير خطيا، إلا أنها فى الرواية لا تلتزم بذلك، فيبدأ الفصل الأول بالعصر الرابع. والفصل الثانى بالعصر الثالث، ثم العصر الأول فالعصر الثاني، ثم العصر الثالث، فالثانى، فالرابع. ولكن المهم أنها ظلت محصورة فى أربعة عصور، قد نُدرك بدايتها إذا ما عدنا مع السارد للوراء لنتعرف على تاريخ أسرته « أسرة دانيال»- التى هى الفضاء الذى يتحرك فيه السارد، حيث يقول: «حينها انفتح تاريخ أبى أمامي. وبدأت أفكر فيه كرجل وُلِد مع ثورة يوليو. والتصق تاريخه بها. وفى سنوات التكوين اصطدم بنكسة67 . النكسة العامة تجسَّدت فى نكسة أخرى شخصية: أطفال يموتون بعد الميلاد كأملٍ كاذب سراب لا يروى لكنه يثير العطش» فإذا كان لكل نبتة جذور، غُرست فى الأرض قبل وجودها، فجذر الإنسان هو والده، الذى هو هنا (وُلِد مع ثورة يوليو). ليكون ذلك هو العصر الأول. وبالضرورة تأتى العصور الثلاثة الأخرى مع من تولى القيادة لفترات رئاسية تلتها. ثم نسير مع صفحات الرواية، لنعرف أن ناس المدينة، ليسوا إلا دمى، تحركها الخيوط، فكانت مدينة الخيوط. ولو أن الكاتب كتبها «مدينة الدمى» لحددت للقارئ خط سيره، ورؤيته المسبقة. لذا فضل أن تكون «مدينة الخيوط»، ليضفى عليها عنصر التشويق الذى يمسك بالقارئ ليستكمل المسير. وأما «دانيال»، ذلك الاسم الذى قد يتصور القارئ أنه اسم مسيحى، فإنه يكشف عن سره –الظاهر- كاشفا عن الجذر الثقافى المتحكم فى السلوك. وكإحدى السلطات المتحكمة فى مسيرة الحياة- فى: «كان اختيار الاسم بأمر واضح من عرَّافة غجرية». أما غير الظاهر، أو ما رمى إليه الكاتب فى اختيار الاسم «قالت العرافة: ثم إن دانيال اسم نبي. ولم تعرف أنه نبى توراتي. فصار دانيال. الوحيد بين كل جيرانه وزملائه بهذا الاسم». وقرأ سِفْر دانيال التوراتى وأحد حكماء بابل. وعلقت فى ذهنه عبارات ودوَّنها، فإلى جانب قدرته على تفسير الأحلام- حيث الرواية تدور فى منطقة الحلم- فهى الشخصية الرئيسية فى سفر دانيال، فإنه يعتبر المنقذ، أو المخلص- وهى الرؤية التى يراها الكاتب لتلك الشخصية. كما تكرر كثيرا –بطول الرواية- تكرار الإشارة إلى معزوفة رومانس لارجيتو، تلك المعزوفة المعروفة باسم المقطوعة الحالمة، والتى تتوافق أيضا مع طبيعة وأجواء الرواية، القائمة على الحلم. فضلا عن أن الإشارة إلى شوبان (1810 – 1849) تستدعى ما اشتهر به من مقدمات موسيقية(24 مقدمة)، يأتى من أبرزها المقدمة المعروفة ب(قطرات المطر). التى يشير فيها تكرار النغمات، لتمنح الإحساس بقطرات المطر، حيث تلعب تلك القطرات (المطر) دورا رئيسيا فى بداية «عصور دانيال»، وما تضفيه الصورة التى بدأ بها الكاتب روايته من جو شتوى، يوحى بالكآبة والكمون والخوف، فكانت (معزوفة) بدأ بها –الكاتب- لتهيئة القارئ لما هو مقدم عليه من أجواء ضبابية وخيالية وكابوسية. وكأن الكاتب يَنفُذُ إلى جوهر الإبداع الذى يخاطب الوجدان أكثر مما يخاطب العقل والمنطق. ويكفى أن نتعرف على تلك الأجواء، ومدى تأثيرها، أن نعلم أن الرواية تقوم على فعل مركزى واحد، وتتحول الرواية منه إلى إضاءات، نتعرف منها كيف كانت، وما أسبابها. وما نتائجها. أما ذلك الحدث، فهو اعتداء (الشيخ) بإحدى المدارس (الدينية) على السارد/الطفل فى الفصل، ولنتعرف على أنها ليست الفعلة الأولى له، ولكنه درج على فعلها مع الكثيرين من أطفال تلك المدرسة، حتى يقرر الطفل «دانيال» الانتقام من الشيخ عملا بمبدأ أن صمت الفرد منجاة –فى رؤية العامة-، أما صمت المجموع فكارثة. فقرر أن يصطحب الشيخ الضرير وأن يتركه فى منتصف الطريق، ليكون لقمة سائغة للسيارات، فكانت نهاية الشيخ –الفرد- وبداية مأساة الطفل دانيال– الفرد والمجموع. وهنا يمكن القراءة على أكثر من مستوى. المستوى الفردى وهو ما يقع فى نطاق الهم الفردى، من جراء الأب والأم، حيث نجد التأثير المباشر لموت الأم «بموت أمى انقطعت صلتى بالأحياء» ، وكأن موت الأم كان له تأثيره فى تأكيد عزلته، وتوحده مع نفسه، بل وانشقاقها. كما سنجد أنه طفل تعرض لجرح غائر فى النفس، بوفاة الأم، وصفعة الأب. وكان أمام خيارين، الصمت أو الجهر بحقيقة ما يحدث، وألمُه النفسى من جراء إخفاء الدافع الفعلى للواقعة الرئيسية، موت الشيخ الضرير «وكان رهانى على الصمت مطوَّقًا برغبة سرية بأن يكتشفوا الجانى لأعلن أسباب الجريمة وأتحرر من سر هو سر حياتي». ويعلم الأب بأن ابنه هو الطفل الذى كان يصطحب الشيخ أثناء الحادثة، فيصفعه صفعة تُحدث قطعا فى خده ولسانه، وبما يشير إليه ذلك من (قطع اللسان) ولم يكن ما حدث من الأب هو الأثر المادى الظاهر، وإنما كان الأثر النفسى، أكثر تأثيرا. وهو ما يمكن أن نراه فى تشظى شخصية دانيال إلى ثلاثة، وتشظى الزمن وعدم الإحساس به. فنحن هنا أمام شخصية غير سوية، نتيجة تصرف الأب. كما يمكن أن نقرأ تكرار الأحلام، وحضور «إبراهيم» للسارد أكثر من مرة، على أنها تبيان وتأكيد للاضطراب الذى يعانيه السارد، جراء واقعة قتل- أو التسبب فى قتل «الشيخ» فى فترة الطفولة. وهو ما أكده فرويد حين فسر الأحلام والهذيان لدى مؤلفى الأعمال الفنية: «فهم حين يجعلون الأبطال الذين أبدعته مخيلتهم يحلمون، يتقيدون بالتجربة اليومية التى تدل على أن تفكير الناس وانفعالاتهم يستمران فى الأحلام، ولا يكون لهم من هدف غير أن يصوروا، من خلال أحلام أبطالهم، حالاتهم النفسية». الأمر الذى يُكرس للضغط النفسى الواقع على الطفل –السارد- ومستمر معه، فيجعل الرغبة والفعل، امرا منطقيا، ومُبررا. خاصة عند تجاوز ما يمارسه الكاتب من إيهام فى البداية، توحى بأن «إبراهيم» شخصية منفصلة، وصولا إلى اعترافه بعد ذلك، بأنه هو من وقع عليه الفعل. أى أنه هو من اعتدى عليه الشيخ الكفيف، وهو من اصطحبه فى الطريق وقاده لحتفه تحت عجلات التريلا، وليصبح دانيال الآخر الذى اصر دانيال الأول على اصطحابه معه أثناء تلك الواقعة.- وهو ما سنوضحه فيما بعد- لنتعرف على قدر ذلك الضغط النفسى. وإن كنا نرى أن هذا التصرف هو ما يقودنا إلى المستوى الثانى للرؤية. المستوى الدينى والذى يُثير التساؤل، لماذا كان «الشيخ الضرير» تحديدا؟ وهو ما نرى معه تأثير (السلطة الدينية)- كثانى السلطات بعد سلطة الأب- تأثيرا على تصرفات الإنسان –العربى- فتتجمع هنا السلطات الثلاث التى مارست دورها على دانيال(الأب والدين والحكام)، وتضافرت جميعها فى حدوث الفعل، وتداعياته. فتصرف الأب يمكن النظر إليه، لا فقط على أن ابنه تخلى عن الشيخ، ولكن لأنه شيخ، ونعلم تأثير (الشيوخ) فى رؤية العامة، ونظرهم إليهم، وقد يعضد ذلك، التناص مع الآية 275 من سورة البقرة «وهم نائمون فيسيرون إلى الحّمَام كمن يتخبَّطه الشيطان من المسِ» (ص19). كما أن الرؤية الدينية، تُرجع كل تصرفات الأفراد للغيب، أن كل ما يمر به أو يفعله ليس إلا ما هو مكتوب فى صفحة الغيب، وهو لا يراه، ونحن هنا أمام أرشيف يتحكم مُمسكوه فى مصائر الناس. فنقرأ هنا «وتحت الأرض مدينة هى مركز تحريك الخيوط فتجعلهم يرقصون ويتعاركون ويحبون ويكرهون ويتزوجون ويتناسلون. وفوق الأرض مدينة يسير سكَّانها إلى مصير محتوم كأنهم قطارات تسير على قضيبين بلا التفاتٍ للوراء ولا قدرةٍ على تغيير القِبلة».. وكأن استحضار لفظ (القبلة) بما يوحية من قدسية دينية، لم يكن جزافا، حيث يوحى المقتطف بفعل غير المنظور، وتحكمه فى الكثير-إن لم يكن فى كل من تصرفاتهم. وإذا كانت الرواية تتناول الفترة البادئة من العام 1952 وحتى الآن، وهى الفترة التى بدأت فيها جحافل الجماعات الإسلامية المتطرفة، والذين يمكن رؤيتهم فى الدمى الخضراء، فى إشارة للأشراف الذين كان لنقيبهم السطوة والسلطة الإسلاميةمنذ العهد الفاطمى. حيث يشير إليها «وعلى كوبرى الجلاء شاهدتْ دُمْيَة رجل تمسك بيد دُمْيَة فتاة وبدا أنهما يتحدثان فى الحب والولَه فاقترب منهما دُمْيَة خضراء وعنَّف الولد والفتاة وبدا أنه يسبُّهما كأنهما خرجا عن أعراف الدُّمَى التى تأسست فى غيابى». وإذا كنا نعلم أن السارد لم يَغِبْ فى أى فترة من حياته، بقدر ما تعرض له –كفرد فى مجتمع- للتغييب، والغيبوبة- وهو ما قصده الكاتب كنوع من التورية، وإثارة التساؤل، ونوع من الشاعرية. كما تشير بعض الإشارات إلى سيطرة التعليم، -والتعاليم- الدينى، بما يؤكد سلطته على رؤية. وتصرفات الناس فى المدينة مثل «كان دانيال وإبراهيم يدرسان فى مدرسة دينية. بالقرب من مدرستى الحكومية. ظننت أن الشيخ يعطيهم حصة واحدة أو حصتين واكتشفت أن حصص القرآن خمس حصص يوميًّا بينها حصة واحدة للعربى أو الحساب». ولما كان لذلك من سيطرة، وسُلطَة، سعت إليها الجماعات الدينية، خاصة فى السنوات الأخير، لتُمسك بالسلطتين معا، الدينية والسياسية، فهو ما يقودنا إلى: المستوى السياسى وهى الرؤية السياسية. والتى تبرز فور التعرف على العصور الأربعة، إذا ما خرجنا بها من الرؤية المحدودة، للرؤية العامة، والتى تتأكد عندما يلتحق دانيال للعمل بالأرشيف، بعد انعدام فرصة العمل، كشاب «كنت حين وصلت إلى مصلحة الأرشيف المركزى قد تخرجت فى الجامعة منذ عامين بلا عمل بلا طموح بلا أمل فى الغد». وعن طريق الواسطة، وتم تخصيصه لملفات الاعتداءت الجنسية، فيلاحظ «كانت ملفَّات قسم الاغتصاب وخاصة اغتصاب الأطفال كثيرة وتشغل مساحة ملفتة فى الأرشيف وتغطى فترة زمنية طويلة على ما بدا لى وكانت الملفات الأولى ترجع للخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وتقترب الصورة أكثر، إذا علمنا أن هذا الأرشيف، الذى لا يترك أى تفصيلة فى حياة الناس. وكأنه قد زرع كاميرا الأخ الكبير. فصار المدون فى ملفات هذا الأرشيف يتحكم فى مصائر البشر. وهو ما عبرت عنه الرواية فى «وسؤالى الساذَج كيف وصل هذا الملف إلى هذا المكان لكنى سريعًا ما أدركت فى أى مكان أعمل ومع مَنْ فالسلطة التى أعمل معها. وصرت أنا جزءًا أصيلا فيها تعرف كل شيء عن كل شيء وعن كل أحد ولم يكن ممكنًا تحت أى ظرف وبأى طريقة أن أنجوَ أنا من هذا الشرط». لذلك لم يكن ميسورا العمل فى مثل هذا الأرشيف، الذى نجح الكاتب فى تصويره، وتصوير مكانه، حيث جعله فى الطابق الثانى تحت الأرض. ولا يٌفتح إلا بشفرة محددة، فكأن الناس طبقة من الدمى، تتحرك كالعرائس، تعيش، أو تتنفس وكأنها تعيش، فوق الأرض. وطبقة تُمسك بالخيوط المحركة لهذه العرائس، وتعيش تحت الأرض، لكن فعلها .. فوق الجميع. كما تأتى إشارة أخرى، تؤكد ذلك المستوى من القراءة. والتى تتضح إذا ما علمنا أن الأب فى الأدبيات يشير إلى السلطة، بدأ من السلطة الأبوية، كأولى السلطات المتحكمة فى الإنسان، إلى السلطة السياسية المتحكمة فى كل أفعال الإنسان – خاصة فى مجتمعاتنا العربية-. وبعد أن قاد دانيال الشيخ إلى حتفه، وظن الأب ألا تعمد فى المسألة، ولكنه تصرف طفولى حرص على الحياة، إلا أنه صفع ابنه صفعة تركت أثرها المعنوى ليستمر معه، فضلا عن مقاطعته لأربع سنوات كاملة قبل أن يرحل، وكأنها تمثل القطيعة بين السلطة، ومن يقع تحت طائلتها. ويريد دانيال أن يخبر أباه بالسبب الحقيقى للفعلة، عله يرضى عنه. فيحاول تحضير روحه، غير أنه كلما حاول، ظهر له وجه الشيخ «لم أكن أفهم لماذا يظهر الشيخ حين أستدعى أبي. لكن الفضول الممزوج بالخوف دفعنى لأواصل لليالٍ كثيرة». «حين نمت جاءنى إبراهيم فى الحلم غاضبًا. أمرنى بنبرة قوية ألا أحضر روح أبى لأنى فى كل مرة سيأتينى الشيخ مكانه». حيث نجد أن وجه الشيخ قد حل فى وجه الأب. أى أن وجه السلطة تجسد فى وجه الشيخ. ليصبح من قام بالفعلة – الاعتداء، أو انتهاك كرامة وإنسانية الإنسان. هو السلطة. ولذا {واكتشفت مع ضحيتى الأولى مَحاضر شرطة مكتوبة بخط سيئ تعود إلى مايو 1987ويناير 1990 وسبتمبر 1993 تقدَّم بها آباء أطفال أو أمهات قد انتهكهم وانتهى بها المطاف إلى الحفظ». وقد تعمد الكاتب الإشارة إلى التواريخ المحددة، ليس لأنها ترتبط بأحداث محددة، وإنما لإضفاء الواقعية على الرؤية، وارتباطها بالواقع المعيش، ولذا يشتعل الغضب، وتحضر الرغبة فى الانتقام «وينتهى بنا المطاف فى مصلحة الأرشيف نبحث عن هؤلاء الذين أفسدوا حياتنا لنقبض أرواحهم مرةً واحدةً» . ولقد كان الكاتب ذكيا حين تعمد أن يكون الضحايا –غالبيتهم- من الأطفال الذين هم المستقبل، وكأن السلطة، وعن طريق الأرشيف السرى، يحصى على الناس أنفاسهم ليحاسبهم وقت أن يشاء. فكأنه قضى على المستقبل، خاصة إذا ما علمنا أن هذا الأرشيف كان العامل الرئيسى فى تحويل البشر إلى دمى يُمسك بخيوطها. الجالسون بعيدا عن الأعين، والقابعون فى الأرشيف. فكانت النتيجة أن أصبح الجميع دُمى، حتى دانيال ذاته ف «بعد الحادثة بات دانيال يرى نفسه كدُمْيَة. كان يرسم فى إسكتشات رسم صورته ذاتها. دانيال النائم على السرير بعقدة حول رقبته وخيط ممتد إلى السقف». ومن هنا يمكن التعرف على النتائج المترتبة على فعل الأرشيف، الذى يتحكم فى تصرفات البشر، فأحالهم إلى دُمى، يتحركون بالخيوط غير المرئية، والتى التحق بها السارد فاكتشف ما لم يكن يتوقعه، حيث وجد ملفات الأطفال/ المستقبل، فوق تصوره «دارت عيناى بالأرشيف مصعوقًا من اللون الأحمر الذى سيطر على هذا الطابق. وخَطَوتُ خطواتٍ بطيئة لأقترب من تضخُّم الملفات الجنسية وخفق قلبى حتى كاد يقف». وهو ما زرع الخوف فى قلوب الآباء والأمهات، فمن الدارج أن يخاف الأباء والأمهات على أبنائهم، فلذة أكبادهم، اكثر كثيرا من خوفهم على أنفسهم «عادت الدُّمَى إلى بيوتها بمعجزات وتركت السيارات غارقةً فيما راحت تركض فى الشارع مثل المجاذيب». الأمر الذى أثار حفيظة السارد، وتحت وطأة رغبته المُلِحَة أن يبوح بالسر الحقيقى وراء عملية القتل، ورغبة فى كسر الجمود والصمت الرازح تحته الناس، جراء مفاهيم زرعها الدين، وزرعها السادة، ليسهل قيادتهم، وكأنه نذر نفسه لقيادة التغيير «ثمة أقاويل كاذبة تحاول خداعنا دائما تؤكد أن الإنسان كائن لا يحب التغيير. وأنه خُلِق ليكون شجرة لا ليكون عصفورًا». فلم يكن أمامه من وسيلة للتخلص من كل من أساءوا للأجيال إلا بالقتل. بل القتل أكثر من مرة، فيقتل مائة وتسعة أفراد. ويذهب إلى الأرشيف لمراجعة ملفاتهم. وكانت مياه كثيرة قد جرت فى النهر. إذ يمكن أن نتعرف على فورة وصحوة جاءت بعد الخامس والعشرين من يناير، رغم أن الكاتب لا يشير إلى ذلك صراحة غير أن صدمة كانت بانتظاره: « كل الذين قتلتهم أحياء». ليبدأ اليأس يدب فى الأوصال، والقناعة بأن شيئا لم ولن يتغير «ورغم أن الحياة هى الأمل والأمل فى الحياة بعض من النبل فإن محاربة طواحين الهواء بتصور أنها هى العمالقة تحمل من السذاجة أكثر ما تحمل من المثالية». الموسيقى والشعرية وإن كانت هذه النهاية تعود بنا إلى بداية صفحات الرواية، حيث كتب فى أحد مداخلها: «هذه ليست معزوفة موسيقيَّة، لكنها حنينُ شخصٍ للعودة إلى ذاته» (شوبان عن معزوفة رومانس لارجيتو). لنخرج منها بنفى النفى، إلى جانب أن ذلك الحنين الذى يعود به السارد إلى طفولته، يُبرز الجانب الشاعرى فى الرواية. حيث تسترجع لنا رائعة بيتهوفن العظيم فى سيمفونيته الخامسة والمسماة «ضربات القدر» فتبدأ الرواية بضربات قوية تشد انتباه القارئ. وتضعه منذ البداية فى الواقع الأليم، حيث تبدأ بالنهاية، الشكل الدائرى الذى سبق الحديث عنه، وكأنها تفتح على الفاجعة، ما يحمل السخونة والحرارة، وكأننا أمام ضربات القدر، لتلهث أنفاسنا، ويشتعل ترقبنا «فى صباح الثالث والعشرين من فبراير فتحت الدُّمَى بيدٍ خشبيةٍ نوافذ غرفها وأبواب شرفاتها لتشاهد بعيون زجاجية لم ينقصها الصعقة. والرعب عشرات الجثث الملقاة حول نافورة الميدان الرئيسى بدمٍ يطفو على ماء المطر وعيونٍ مفتوحةٍ على العدم». ثم تنتهى تلك النهاية (البطيئة). وكأن التعب والإنهاك قد حل بالسائر بعد طول مكابدة، وكأنه وصل إلى نهاية المضمار، وقد بدأ التعب يَحِل، ومع الإجهاد، تخور القوى . وإذا كان المألوف لدى العرب، أن السرد هو لغة العقل، وأن الشعر هو لغة الوجدان. فأول طريق للوجدان هو محادثة الذات، وتأملها، والبحث عن فلسفة وجودها. فإلى جانب اعتماد السرد هنا على ضمير المتكلم. وهو الأقرب للبوح، والفضفضة، حتى أن الشخصية الرئيسية –السارد المشارك- انقسم إلى ثلاثة شخوص «دانيال الكبير ودانيال الصغير وإبراهيم» «لكن حدث لى ولا يزال يحدث إلى الآن نوع من الانقسام إذ استحلتُ شخصًا منفصلا عن ذاته يطلُّ عليها كغريب يراقب غريبًا وبهذه الطريقة كنت دانيال الذى يكتب عن دانيال ودانيال الذى يحدِّث دانيال ودانيال الذى يحب ويكره دانيال ودانيال الذى يصحب دانيال إلى السينما وكنت ولا زلت أرى نفسى فى الواقع بنفس طريقة رؤيتى لذاتى فى الحلم». وهو ما يعبر عن تفتت الذات وانقسامها، فضلا عن التيه فى الزمن، الذى يعبر عن التيه فى الفضاء الإنسانى، وما يوسع من فضاء الرؤية «فلم أكن أعرف تقدير الزمن». ذلك الزمن الدوار، فى روتينية كأنها دورات الليل والنهار المتعاقبة، والسائرة بلا توقف «وأقصى ما كنت أتمناه أن يمرَّ اليوم ليسلِّمنى إلى الغد سلمنى دون نقصان كما فعل الأمس مع اليوم»، وكأننا نستحضر قولة أبى العلاء المعرى «هذا جناه أبى علىَّ ولم أجن على أحد». وما عبرت عنه الرواية فى تلك المناجاة، التى يُسائل بها السارد الوجود: «الأصل فى الحياة هو التعاسة. طرق مُلغَّمة بالأحزان والخسائر. هذه الوحدة التى لا يملؤها أحد. هذا الركض نحو العدم ومعانقة اللاشىء. فما أقربها من مناجاة الشاعر للطبيعة وللوجود، فهى لحظة تأمل شاعرية، لا ينقصها سوى الوزن. فإذا كانت «عصور دانيال» قد تجولت فى «مدينة الخيوط»، المدينة التى يمسك بالخيوط فيها ساكنو ذلك الأرشيف غير المرئى الذين «يبدُون بشرًا لكنهم من سلالة أخرى أو ربما مرحلة من مراحل تطور الإنسان»، فكانت مصدر اللعنات، «قلت له هل أصابتك لعنة صدى الصوت قال اللعنات لا تصل إلى هنا لأن هنا تُصنع اللعنات». فحولوا ناس المدينة إلى «موظفين من الدُّمَى لن يعطوهم جوابًا شافيًا لأن المرضى الدُّمَى والأطباء الدُّمَى والمساجين الدُّمَى والسجَّانين الدُّمَى لا أحد فيهم سيرى غرابةً فى اختفاء الأطفال خاصةً لو كانوا أطفالَ دُمى أخرى لا تخصهم». فحاول دانيال الخلاص، لكنه وجد أن «فى هذه العتمة لن يظهر إلا الجانب البائس فى الدُّمَى حتى الشموع التى أضاءت الليل لم تمنح جوًّا رومانسيًّا بقدر ما منحت أجواء أفلام الرعب السابقة على حوادث القتل». فترك دانيال للأجيال أن تقوم بدورهامؤكدا أنهم ليسوا شجرا، وغنما هم بشر، لهم أجنحة. اقرأ ايضا | منى منصور تكتب: طىّ الألم: الكتابة لمواجهة تآكل الذاكرة