منتخب مصر بصورة داخل الطائرة: أنجزنا المهمة.. وفى الطريق راجعين    كوارث يومية فى زمن الانقلاب…حريق محل مراتب بالموسكي ومصرع أمين شرطة فى حادث بسوهاج    هاني شاكر ل اليوم السابع: شكرا لمصر وأخيرا أطفال غزة هتنام في أمان    جامعة جنوب الوادي تقيم حفل تأبين للدكتور أحمد عمر هاشم    حقيقة زيادة أسعار البنزين اعتبارا من اليوم الخميس| البترول تكشف    الحكومة تعلن أسعار الحديد والأسمنت اليوم.. زيادة جديدة في مواد البناء    الموعد الرسمي لبدء التوقيت الشتوي في مصر 2025 وطريقة ضبط الساعة بعد انتهاء التوقيت الصيفي    نائبة وزيرة التضامن تبحث مع وزير التنمية الدولية بالنرويج سبل تعزيز التعاون المشترك    موعد سحب قرعة كأس العالم 2026 والقناة الناقلة بعد تأهل منتخب مصر    إطلاق قافلة زاد العزة ال47 من مصر إلى غزة بحمولة 3450 طن مساعدات    لليوم الثاني.. محكمة شمال بنها تواصل استقبال المرشحين لانتخابات مجلس النواب    الرئيس السيسي يوجه رسالة لمنتخب مصر بعد تأهله لكأس العالم    6 ميداليات لمصر في صباح اليوم الأول لبطولة العالم للسباحة بالزعانف    محافظ البحيرة تشهد ورشة نقل وتبادل الخبرات بالإدارة المحلية    مصرع وإصابة 20 شخصا في تصادم ميكروباص وملاكي بالصحراوي الغربي بالأقصر    يقتل شقيقه الأكبر بسبب الميراث بالشرقية    ننفرد بنشر بنود اتفاق إنهاء خصومة راح ضحيتها 11 قتيلا في أبو حزام| خاص    إصابة مواطنين في انهيار جزء من منزل بالفيوم    حبس المتهمين بقتل التيك توكر يوسف شلش فى المطرية 4 أيام    حقيقة تغيير امتحان اللغة العربية لصفوف النقل| مصدر بالتعليم يكشف    محافظ أسيوط يشهد احتفالية قصور الثقافة بالذكرى ال 52 لانتصارات اكتوبر المجيدة    بالحبر الطائر: صوت المرأة المتلاشى تحت وطأة القهر والخيبات    تفاصيل حفل أنغام المقبل في قطر أكتوبر الجاري    شباب المسرح يبدعون اليوم بثلاث تجارب جديدة في مهرجان نقابة المهن التمثيلية    هبة رشوان توفيق: والدي متألم من شائعات وفاته وجالى اكتئاب    نائب وزير الصحة يتفقد منشآت صحية بالإسكندرية    الصحة العالمية: مستعدون لتلبية احتياجات المرضى في غزة    تيودور بلهارس يعزز التعاون الدولى مع منظمة الصحة العالمية لمكافحة البلهارسيا    برشلونة يعلن رسميا إقامة مواجهة فياريال في أمريكا    منسوب بحيرة ناصر مرتفع، خبراء بحوض النيل: السد العالي يستقبل مياه الفيضان من "مروى"    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى نحو مليون و119 ألفا و390 فردا منذ بداية الحرب    لبنان.. انطلاق رابع مراحل خطة الحكومة لعودة اللاجئين السوريين    لليوم الثاني، محكمة شمال بنها تتلقى أوراق المرشحين المحتملين لانتخابات النواب    المنافذ "حاجة" والأسواق "حاجة تاني خالص"، مفاجأة في أسعار الطماطم اليوم الخميس    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 9 أكتوبر 2025 في محافظة المنيا    موعد حسم اعتراضات رئيس الجمهورية على مواد مشروع قانون الإجراءات الجنائية    التقييمات الأسبوعية للطلاب فى صفوف النقل عبر هذا الرابط    قاتلة ابن شقيق زوجها تدلي باعترافات أمام جهات التحقيق بقنا    طريقة عمل بطاطس بيوريه بالجبن والثوم، أكلة سريعة التحضير ومغذية    الصحة: نجاح استئصال ورم بالجفن لمريضة عمرها 87 عامًا في مستشفى أتميدة المركزي    عاجل- رئيس الوزراء يحضر القمة الرابعة والعشرين لتجمع الكوميسا نيابة عن الرئيس السيسي في نيروبي    هل يجوز منع النفقة عن الزوجة لتقصيرها في الصلاة والحجاب؟.. دار الإفتاء تجيب    وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي تستهل مشاركتها بالنسخة الثانية من منتدى «البوابة العالمية 2025» ببروكسل بلقاء مديرة الشئون المالية والاقتصادية بالمفوضية الأوروبية    فيفا: منتخب مصر يمتلك مقومات تكرار إنجاز المغرب فى كأس العالم 2026    متوسط التأخيرات المتوقعة لبعض القطارات على خطوط السكة الحديد    اتحاد الكرة: نشكر الرئيس السيسي على دعمه للرياضة.. ونتمنى أن يكرر حسام حسن إنجاز الجوهري    محافظ أسيوط يكرم أبطال السباحة بعد فوزهم بالمركز الأول في بطولة الصعيد لمراكز الشباب    شاهيناز: «مبحبش أظهر حياتي الخاصة على السوشيال.. والفنان مش إنسان عادي»    عاجل- ترامب: قد أزور مصر يوم الأحد.. ومفاوضات اتفاق غزة "بالغة القرب"    عاجل - بالصور.. شاهد الوفود الدولية في شرم الشيخ لمفاوضات غزة وسط تفاؤل بخطوة أولى للسلام    سما المصري توجه رسالة ل المستشار مرتضى منصور: «ربنا يقومه بالسلامة بحق صلحه معايا»    «مقنعة جدًا».. وليد صلاح الدين يكشف ردود سوروب على أسئلة «الأهلي»    من أدعية الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج    8 شهداء في غزة خلال الساعات ال24 الماضية جراء الغارات الإسرائيلية    وزير الداخلية: مصر تمضي بثبات وسط عالم يموج بالصراعات والأزمات    سوء تفاهم قد يعكر الأجواء.. برج العقرب اليوم 9 أكتوبر    حساب فيفا يحتفى بصعود الفراعنة للمونديال: مصر البهية تُطِل على كأس العالم    دينا أبو الخير: قذف المحصنات جريمة عظيمة يعاقب عليها الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب قبل النكسة بيوم:موجهات الخطاب السردى وانحيازاته
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 21 - 08 - 2022


محمد سليم شوشة
إن تداول الخطابات باختلافها بل بتعارضاتها أو تناقضاتها أحيانا هو بذاته ظاهرة دالة على الحالة الصحية للمجتمع، ودالة كذلك على قدر ما يسود المجتمع من قيم الديمقراطية والانفتاح الفكرى والثقافى ومؤشرات الصحة والتواصل الإيجابى بين أفراد هذا المجتمع، وكما يقول ميشيل فوكو فى كتابه نظام الخطاب، فإنه بدل المعرفة المحتكرة والسرية فى الاستبداد الشرقى تقدم أوروبا المثال المعاكس المتمثل فى التواصل الشمولى للمعرفة والتبادل اللامحدود والحر للخطابات. ولهذا فإنه من إيجابيات الحالة الثقافية التى نعيشها فى مصر بعد 30 يونيو أن تكون هناك خطابات أدبية تمتلك هامشا أرحب من الحرية ومن البحث والتنقيب أو حتى مجرد القدرة على التعبير عن الغضب أو الانفعال حتى ولو كان فرديا.
هذا ما يتمثل ويتجسد بقوة فى رواية قبل النكسة بيوم للروائى الدكتور إيمان يحيى وهى رواية دالة على عدد من الظواهر وفيها نقاط كثيرة جديرة بالتأمل والبحث والدراسة لعدد من الأسباب. هذه الرواية نموذج لخطاب سردى مشحون بالانفعال والغضب وموجه بحالة من الحزن والضيق والألم الممتد لعقود منذ نكسة يونيو 67 وحتى اللحظة، ألم ربما لم تخففه أو حتى تهون من آثاره حرب أكتوبر واستعادة الأراضى المصرية والانتصار على إسرائيل، هذه التجربة الروائية الثرية والمهمة تكشف عن تحول ثقافى مهم لدينا يرتبط أولا بهامش الحرية المتاح لكافة الخطابات وبخاصة الخطاب الأدبى الذى هو بالأساس ذو هوية جمالية وفنية ترتبط بالمتخيل والمجازى والإبداع بدرجة أكبر مما يرتبط بالحقيقى أو التاريخى مثل الخطابات العلمية أو الأكاديمية. وثانيا فإن هذه التجربة الروائية موجهة كذلك نحو أسئلة مهمة ترتبط بعلاقة الفن بالحقيقة العلمية أو التاريخية، وكذلك موجهات الخطاب ورسائله أو أهدافه ونزعة المؤلف أو منشئ هذا الخطاب وأنه لا يمكن أن يكون هناك خطاب برىء تماما، وهذا أمر طبيعى ويجب أن نتفهمه وأن الخطاب بشكل حتمى وربما بدون تخطيط يكون منحازا أو نابعا من موقف معين أو مدفوعا فى إنشائه من انحيازات معينة. ولهذا فإن هذه التجربة ومثيلاتها مهمة لكونها مبدئيا توجه إلى مزيد من الاهتمام بعلم تحليل الخطاب وتطوير ممارسات وإجراءات هذا العلم وتطبيقاته على نحو يتسم بالطابع العلمى ويتجاوز المقولات السطحية والمكررة السائدة. وأول مداخل هذا التحليل يتمثل فى سؤال الحقيقة التاريخية فى الخطاب الروائى عموما، وهل يعنى استقصاء كم هائل من المعلومات والحقائق التاريخية أن الخطاب الروائى لا يطرح إلا الحقائق وأنه برىء تماما من أى مقاصد أخرى غير الحقيقة التاريخية؟ وهو سؤال يدفع ناحية النظر فى أساليب الخطاب واستراتيجياته مثل الانتقاء والحذف أو الاختزال والاختيار وتشكيل النموذج، وهى كلها أساليب وتقنيات لا ترتبط بالطابع الجمالى أو بالاستراتيجية الجمالية وحسب ولكنها بالأساس مرتبطة برسالة الخطاب أو ما ينتج من دلالة ومعان وتلميحات.
هذه الرواية من الناحية الجمالية مهمة وتمثل لبنة مهمة فى مشروع إيمان يحيى السردى المتكون من ثلاث روايات هى الكتابة بالمشرط والزوجة المكسيكية وهذه الرواية الجديدة؛ «قبل النكسة بيوم». وهى مزيج من السرد الخبرى والسرد المشهدى والتضفير المحكم بين الماضى والحاضر ومستويات مختلفة من الأزمنة، وتطرح نماذج إنسانية تتسم بالحيوية والتكامل الإنسانى والنبض والديناميكية وتتحرك فى فضاءين زمانى ومكانى يتسمان بالثراء والامتداد والتنوع والتشعب، وتنقب فى مساحات خاصة بها وتبدو رواية مشغولة أو مهمومة بأسئلتها الخاصة وهى كلها أمور تحسب لهذه الرواية وتنضم لمجمل سمات سرد إيمان يحيى الذى يبدو مدفوعا فى مجمله بانحيازات وانشغال بقضايا عامة مهمة وأسئلة ذات طابع إنسانى منها ما يرتبط بالسياسة أو بالعلم والأمانة والمهنية أو ما يرتبط بالثقافة والتأريخ والقضايا الوطنية أو إشكاليات التطور أو أزمات التأخر أو التراجع الحضارى.
بعد البداية غير الموفقة فنيا فى تقديرنا حيث يهيمن عليها السرد الخبرى فى صوت كريمة نجد أن سرد الرواية هيمن عليه تماما أسلوب إيمان يحيى الأقرب إلى المشهدية والاستراتيجية السينمائية وكنت قد كتبت عن هذا الأسلوب لديه فى أكثر من مقالة وهو سمت يتميز به ويهتم فيه بأدق التفاصيل الصغيرة التى تجعل القارئ كما لو كان يشاهد بعينه هذه العالم الروائى يتحرك على شاشة أو يشارك الشخصيات الحضور فى هذا العالم ويعيش بينهم، فيتابع الأنشطة اليومية للشخصيات من العمل والمشاركة السياسية أو الاجتماعات أو اللقاءات الرسمية وغير الرسمية أو مقابلات الأصدقاء على بعض المقاهى أو الأماكن العامة فى وسط البلد أو فى معهد إعداد القيادات فى حلوان أو الحديقة اليابانية أو فى الإسكندرية فى الجامعة أو بعض المطاعم الشهيرة أو الشواطئ أو غيرها من الأماكن، والأهم أن هذا السرد المشهدى يأتى مشحونا بحالات إنسانية نابضة ويأتى ضمن ترهين خاص بالسياق الدرامى أو حالات الانفعال أو الصراع الذى تعبر عنه الرواية، والحقيقة أن هذه النقطة عن السرد المشهدى تنقلنا إلى نقطة أخرى جمالية مهمة تتمثل فى أن غالبية شخصيات الرواية تقريبا تعيش حالات مختلفة أو متنوعة من الصراع؛ إما الصراع من أجل تحقيق الذات أو الصراع من أجل تحقيق المبدأ السياسي، وأشكال أو أنماط الصراع على السلطة، أو الصراع من أجل الحب أو البحث عن السعادة أو مجابهة العادات والتقاليد وصور الرجعية، أو غيرها من الأمور التى تشكل نسيجا من التعارض فى المصالح الذى يجعل الرواية على قدر كبير من الحيوية وتبدو مشحونة بأكبر قدر من التوتر والطابع الحركي.
فباستثناء صفحات البداية القليلة من ص7 حتى ص12 التى تكثفت فيها الأخبار الإجمالية عن كريمة وتاريخ عائلتها نجد أننا بعد ذلك أمام الأسلوب السردى السينمائى المعهود لدى إيمان يحيى والذى صار يتميز به، وكنت أتصور أن الرواية لو كانت قد بدأت من المشهد الراهن المحدد القسمات بين الجدة كريمة وحفيدها وأحداث يوم الجمعة هذا والمحددة ملامحه بدقة من الصفحة 12 بداية من فتح شباك شقتها المطلة على المقطم وبداية حوار حفيدها الانفعالى عن الغضب الثورى المتصاعد ثم العودة إلى الوراء تدريجيا إلى المعلومات التعريفية المتناثرة عنها لكانت بداية الرواية أوفق وأكثر روعة واتساقا مع بقيتها.
من ناحية الشكل الفنى هناك الكثير مما يمكن تناوله فنيا فى هذه الرواية وبخاصة فيما يتصل بسمات المكان والزمان والعودة إلى التقاليع وسمات العصر السابق وأنماط المعيشة فيه ونقل حياة كاملة بنبضها وحيويتها وعبر مذاق خاص فيه حماس الشباب واندفاعهم وتصوير إيقاع المجتمع بشكل كامل فى حيويته واندفاعه نحو الإنجاز والتعليم والطموح وغيرها من الأمور مثل حالات من القلق السياسى أو التشكك والتخوف لدى بعض الفئات أو الأفراد، ورصد تحولات المجتمع بكل دقة وبخاصة فيما يتصل بالأسعار ونتائج الخطة الخمسية الأولى وتعثر الخطة الخمسية الثانية وإيقاع الحكومة والتحديات التى كانت تجاببها، وتلميحات إلى الصراع الداخلى أو قدر ما يمكن أن يكون حاصلا من التعارض فى المصالح بين رجال الثورة وقادتها وهكذا يكون للرواية منجز آخر حول جمعها بين إيقاع المجتمع فى قاعه أو طبقاته مع إيقاعه وحركته فى مستوى السلطة أو القمة أو الربط بين هذه الأطراف التى تبدو متباعدة أو كان يصعب السيطرة عليها فى كثير من الأعمال الروائية الأخرى، فنجد أن بعض الروايات إذا ما اهتمت برصد المجتمع فقط تعجز أو يصعب عليها أن تتناول المكون السياسى كذلك مع هذا الرصد الاجتماعي، أما هنا فنجد أن هناك مزجا بين ما هو اجتماعى وسياسى وثقافى ودمجهما بل تذويبهما إلى حد كامل وهو أمر مهم ويجعل الرواية تطرح صورة جديدة عما كان سائدا من كتابة روائية عن هذه الحقبة تختلف كثيرا عن كتابات كثيرين مثل صنع الله إبراهيم برواياته الشهيرة عن هذه التحولات الاجتماعية ولا يتماس فيها مع المكون السياسى إلا قليلا أو من باب الإشارة العامة العابرة، فى حين أنه حين كتب رواية سياسية هى 1970 غاب عنه المكون الآخر الذى تميز به وهو الاجتماعى والثقافى أو التأريخ لتحولات المجتمع. والأمر ذاته مع إبداعات سلوى بكر مثلا فى تعبيرها عن تحولات المجتمع وحركة الرجعية فيه وتقلب الإنسان المصرى بين الأمل والخيبة والطموح والإخفاق والدهشة، ونجد ذلك مثلا فى أحدث رواياتها فيلة سوداء بأحذية بيضاء، لكنها لا تتصدى للمكون السياسى كذلك، أما لدى إيمان يحيى فى رواية «قبل النكسة بيوم» فنجد الاجتماعى قد التحم بالسياسى وأصبح كل منهما صدى مباشرا للآخر واتضح تلاحم هذين البعدين وما ذلك فى تقديرنا إلا لكونه اتجه إلى النكسة بما فيها من الألم ولكونه مشغول بالأساس بالمكون السياسى بقدر اهتمامه بالحياة الاجتماعية أو بقدر إلمامه بما هو اجتماعى وتاريخي. ومن إنجازات الرواية كذلك على المستوى الدلالى أو مستوى المضمون جرأته فى التعبير عن اختراقات الغرب لثقافاتنا ودولنا وتركيزه من وقت مبكر على استقطاب العقول والاستحواذ عليها أو الإفادة منها وتشغيلها فى مجالات معلوماتية أو مجالات التحليل الفكرى والمعرفى وتشغيلها فى مجالات الاستشارات الفكرية، وهو ما يمثل شكلا جديدا من الهيمنة عن بعد أو أساليب ما بعد الكولونيالية فى التوجيه السياسى والفكرى والسيطرة على شعوبنا عبر الشركات التى تبدو فى ظاهرها تعمل فى أنشطة عامة أو معرفية أو مجالات اقتصادية ومالية وهى فى الحقيقة أنشطة استخباراتية غير تقليدية. فنجد فى الرواية جرأة كبيرة فى التعبير عن هذه الحالة وبدون مواربة أو تلميح بل بالأسلوب المباشر المعهود فى خطابات إيمان يحيى الروائية.
لكن بعد هذه الإنجازات ونقاط التوفيق هناك مواضع ومساحات كثيرة للاختلاف حول ما طرحت الرواية أو حول موقفها بوصفها خطابا سرديا موجها أو مدفوعا بتوجيه معين من المؤلف أو مواقفه الفكرية وانحيازاته، فهل تعبر الرواية بشكل حقيقى عن جوهر النكسة وأسبابها أو حقيقتها أو ما دفع إليها؟ أو هل يمكن أن تمثل الرواية مراجعة تاريخية لهذه المرحلة أقرب للحقيقة؟ أو هل يمكن أن تكون على قدر من الشمولية فى إرادتها للمعرفة أو إرادتها للحقيقة؟ أتصور أن كل هذا من قبيل الوهم، وأن الرواية بقدر ما يمكن أن تكون فى تصور مؤلفها خطوة نحو الحقيقة ربما تكون فى جوهرها خطوة نحو مزيد من الوهم وخطوة نحو مزيد من التيه أو التضليل، فالخطاب الذى قد نتصور أنه يقربنا إلى الحقيقة ربما يكون فى حقيقته مجرد تضليل أو مجرد خطوة إضافية فى طريق الابتعاد عن الحقيقة وبخاصة إذا كان خطابا منفعلا أو منحازا أو مشبعا باليقين. لا أقول إن الرواية كلها تبتعد عن الموضوعية ولكن أقول إن الحقيقة بالأساس أصعب من أن تنال بهذه الطريقة أو أصعب من أن يكشف عنها بكل هذه البساطة.
من حق أى خطاب سردى أو خطاب أدبى أو أى خطاب بشكل عام أيا كان نوعه أن يقرر ما يشاء أو يطرح ما يريد من فكر أو تصور حول أى قضية، ولكن من المهم كذلك أن تكون لدينا الحالة النقدية الواعية بما فيه الكافية ليكون لدينا من اليقظة والتنبه لكون الخطابات وبخاصة الفنية ليس من وظيفتها استقصاء الحقيقة، فهذه الرواية ليست تقريرا قضائيا أو تحقيقا للجنة قانونية أو قضائية أو تتسم بالطابع الفنى العسكرى أو القضائى حتى تنال بدرجة أكبر من حقيقة النكسة أو تكشف عن أكبر قدر ممكن من ملابساتها، والمتلقى الذى يتعامل مع هذه الرواية بوصفها نوعا من الإدانة الكاملة والأكيدة لطرف أو لجهة أو لشخصية وتحمله مسئولية النكسة هو بالتأكيد متلقى على أعلى قدر من السذاجة السطحية الفكرية والابتعاد عن كافة أشكال الوعى الثقافى والوعى بجوهر فن الرواية والخطابات الأدبية التى مهما نالت من التاريخ أو حقائقه وأحداثه فإنها تظل فنا وإبداعا، فلا يمكن أن تجد فى إسرائيل مثلا روائيا يمكن أن يكتب عن حرب أكتوبر أو حرب عيد الغفران لديهم بما يجعله يطرح نفسه بديلا لمخرجات لجنة أجرانات مثلا، وهذا أمر طبيعى ومنطقى لمن كان لديه وعى ويبتعد عن الخلط، فالفن الروائى يبقى فنا ويبقى ذاتيا وشخصيا وتبقى حقائقه محكومة بدوافع الذات المنشئة للخطاب وانحيازاتها وتكوينها أو ملابسات نشأتها، فالجيل الذى تتركز لديه إشكالات الصدمة النفسية للنكسة من الطبيعى أنه سيكون جيلا له خصوصيته أو مواقفه الخاصة ومعالجته الخاصة للنكسة أو حتى مجرد استرجاعها ولو بينه وبين نفسه.
ولهذا يمكن حصر عدد من المواضع التى غابت فيها النظرة الشمولية عن الرواية وهى ليست مطالبة بها، لأن هذه الآثار ناتجة عن خصوصية الذات المنشئة للخطاب، وناتجة عن إكراهات الخطاب وموجهاته الظاهرة والضمنية أو الخفية أو المرتبطة باللاوعي. أولها أن مقاربة خطاب الرواية للرجعية جاءت محدودة ومحصورة فى شكل وحيد من الرجعية التى كانت تناوئ ثورة يوليو أو تهدد مسيرتها، فنجد أن الرجعية فى منظور الرواية تركزت فى رجعية الرجل النوبى الذى يرفض أن يزوج ابنته لزميلها المتعلم الذى يحبها حتى ولو كان من طبقة أعلى أو صاحب منصب وهى نظرة ضيقة ومحدودة إلى أقصى درجة لأن الرجعية كانت متغلغلة ومتشعبة وبخاصة الرجعية الدينية التى يشير إليها خطاب الرواية إشارة مختزلة متمثلة فى جماعة الإخوان، بل إن هذه النظرة المختزلة والضيقة للرجعية أغفلت بعض المواضع فى حوارات الرئيس عبد الناصر يمكن تفسيرها على نحو أدق وبخاصة حين تحدث فى مؤتمر المبعوثين عن إمكانية عمل حزبين اشتراكيين وصعوبة ذلك فى وجود أحزاب أو حتى حزب واحد رجعى يهيمن على الساحة. وأتصور أن هذا هو الفارق بين إبداع نجيب محفوظ وتناوله الرمزى لإشكالياتنا وبين تناول بعض روائيينا الآن، فإبداع محفوظ وتناوله فيه من الشمولية والإحاطة ما لم يكن متاحا لغيره، فهو دائما ما يرمز لكل تيار أو لكل اتجاه أو نمط أو مظهر من مظاهر التقدم أو مظاهر الرجعية، ولهذا تجد لديه كافة المكونات والأطياف حاضرة بصورة فنية ورمزية، والحقيقة أن بالرواية الكثير جدا مما يمكن تناوله أو مقاربته وتفسيره وسأحاول التكملة فى قراءة أخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.