كتب: رشيد غمرى مسيرة طويلة قطعتها اللوحة الفنية المصرية، لتخرج من عباءة الفن الغربى الذى نشأت تحت مظلته. أكثر من قرن هو عمر فننا التشكيلي، أحد تجليات نهضتنا الحديثة، الذى تخرج رواده الأوائل على أيدى أساتذة أجانب، ووفق مناهج غربية، لكن سرعان ما وضع كلٌ منهم لبنة فى صرح هوية إبداعية مصرية، ما زالت تتشكل، وإلى الأبد، حاملة جينات متوارثة لمختلف الطبقات الحضارية، ومدفوعة بالتجريب المبدع، والتلاقح الخلاق. وفقا لكتاب "كلية الفنون الجميلة.. مائة عام من الإبداع" الصادر عام 2008، تولى النحات الفرنسى جيوم لابلان، الإشراف على تأسيس مدرسة الفنون الجميلة وإدارتها بتكليف من الأمير يوسف كمال عام 1908. واستعان فى ذلك بعدد من الفنانين الفرنسيين والإيطاليين، منهم باولو فورتشيلا، وجابرييل بيسى، وبيبى مارتان، وروجيه بريفال، وجميعهم من فنانى الانطباعية الآفلة فى الغرب، والمفضلة لدى الأرستقراطية المصرية فى ذلك الوقت. وهكذا نشأت المدرسة على أسس الأكاديمية الغربية. لكن لأن الفن هو عملية إبداع ذاتى، يتدفق مشتبكا مع الوعى الجمعى، فسرعان ما انبثقت من قلب القواعد والأساليب الغربية روح ورؤى وطنية. ومع الوقت صار إنتاج فن مصرى هو الهاجس الرئيسى لنخبة من أهم مبدعينا من جيل الرواد وإلى الآن. وقد فعلوا ذلك عبر عملية معقدة من البناء والهدم والاسترجاع والإزاحة والتجريب المستمر على مستويات الموضوع والشكل والتكنيك، وفتح الآفاق أمام رؤى جديدة. وهى رحلة تحتاج إلى رصد سواء على مستوى المنابع التى استقى منها الفنانون تجاربهم، أو الطريقة التى تفاعلوا بها مع المنجز الغربى. وهو ما يمكن أن يلقى الضوء على آلية تشكل الهوية الثقافية على العموم، عبر جدلية العلاقة بين الموروث والوافد. كان راغب عياد أحد أعضاء الدفعة الأولى فى مدرسة الفنون. تخرج عام 1911، واستكمل دراساته العليا فى باريس وروما، ثم أطاح تقريبا بالمنهج الأكاديمى الذى تعلمه هنا وهناك، باحثا لموضوعاته المصرية عن أسلوب يلائمها. ونجح فى كشف الحجب عن عذوبة التفاصيل الريفية والشعبية، ففتح الباب أمام رؤى جمالية، نهلت من ثراء عناصر الحياة المصرية. ووفقا لكتاب "راغب عياد رائد التعبيرية الاجتماعية" للناقد أحمد عبد الفتاح، فقد استلهم عياد التراث المصرى الفرعونى والقبطى والشعبى، مطيحا بالمنظور، وبالتجسيم، كما اهتم بالتعبير. وفى كتاب "الحياة الشعبية فى أعمال راغب عياد" تأليف د. إيمان مهران، ألقت الضوء على كون أعماله، تصلح لدراسة الحياة الاجتماعية فى مصر، وخصوصا حياة الفلاحين، واحتفالاتهم، وموالد الأولياء والقديسين، وعملهم فى الحقل، وذلك لفرط صدقها، وإلمامها بعناصر الموضوع. وإذا كنا نتحدث عن الآباء المؤسسين، فعلينا أن نشير لكلٍ من محمود سعيد، ومحمد ناجي، وكلاهما من الإسكندرية الكوزموبولوتانية، وكلاهما لم يتخرج فى مدرسة الفنون الجميلة، ولكن تلقى دروسا خاصة على أيدى فنانين أجانب. كما جمعهما طبقة أرستقراطية منفتحة على الثقافة الغربية. ومع ذلك أظهرا ميلا ودأبا للضرب بجذورهما فى التربة المصرية. "سعيد" الأعلى سعرا الآن بين جميع فنانى العالم العربى فى بورصات الفن العالمية، لم يصل إلى هذه المكانة، إلا عبر إمساكه بروح مصرية، لا هى واقعية، ولا ميتافيزيقية، لكنها تصور الواقع سابحا فى سديم روحى، وكأنه الحلم. أما محمد ناجى فقد اتجه إلى تصوير حياة الفلاحين، كما استلهم الفن الفرعونى. وهو الذى عبر فى إحدى رسائله إلى شقيقته عن أنه يرغب فى أن يكون الفنان القومى لبلاده. تعددت السبل التى سلكها الفنانون، نحو إبداع مصرى. وكان حسين بيكار أحد آباء تمصير اللوحة، قاده، وإيمانه العميق بالقيم الإنسانية، وجمالية الوجود إلى الإمساك بخيط من نسيج الروح المصرية. ومن حسن الحظ أنه كان أستاذا لأجيال متعاقبة، بث فيهم تلك الروح، خصوصا فى حقبة أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، حيث ذروة الحراك الثقافى والاجتماعى، الذى شهد عشرات الاتجاهات والجماعات الفنية. وكان البعض يدعو للتماهى الكامل مع الحركات العالمية الحديثة، مثل جماعة "الفن والحرية" التى تبنت السيريالية على الطريقة الفرنسية. فى كتاب "السيريالية فى مصر" للناقد سمير غريب، ظهرت جماعة "الفن المعاصر" كنوع من الاعتراض على الجماعة السابقة "الفن والحرية"، داعية إلى إبداع فن مصرى وفق المدارس الحديثة. وهى الجماعة التى أسسها الفنان حسين يوسف أمين، وتشكلت من تلاميذه بمدرستى الحلمية، وفاروق الأول الثانويتين، الذين سيصبحون علامات فارقة فى مسيرة الفن المصرى، وهم عبد الهادى الجزار، وحامد ندا، وسمير رافع، ورفاقهم. وعن "الجزار" تشير الباحثة إيناس الهندى فى كتابها "عبد الهادى الجزار.. قراءة فى وجدان شعب"، إلى المنابع التى استقاها الفنان، وهو يشيد تجربته، بين نشأته فى الأحياء الشعبية بالإسكندرية والقاهرة، ومجاورته لأضرحة الأولياء، وعوالم السحر والخرافة، وهو ما صوره فى واحدة من أهم مراحله الفنية، فى شكل أقرب للواقعية السحرية. ولا يمكن إغفال دور أستاذه حسين يوسف أمين فى ترسيخ الهوية الفنية المصرية عبر مناهج التربية الفنية، مكملا جهود الفنان "حبيب جورجى" صاحب الرؤية التى تؤمن بامتلاك الأطفال جينات إبداعية متراكمة عبر آلاف السنين، وأنهم مبدعون بالفطرة، إذا ما سُمح لهم أن يعبروا عما بداخلهم. ومع النصف الثانى من القرن العشرين، وثورة يوليو، أخذ هاجس الهوية بعدا قوميا رسميا، تبنته الدولة، ما شجع أجيالا من الفنانين على الدفع بأنفسهم ضمن تيار التمصير. ويمكن بشيء من التبسيط أن نشير إلى بعض الطرق التى سلكها الرسامون المصريون خلال قرن، للوصول إلى ذلك الهدف. فمنهم من استلهموا التراثين الفرعونى والقبطى مثل راغب عياد، ومن لجأوا إلى الفطرة والمخزون الجمعى مثل حامد ندا. والبعض استلهم الفن الشعبى كما فعل أدهم وانلى، وجماعة الفن المعاصر، ومصطفى الرزاز، وسعد زغلول، وعلى دسوقي، وصلاح عنانى كلٌ بطريقته. كما لجأ البعض إلى مخزون الأساطير المصرية والخرافة والسحر مثل الجزار وزكريا الزينى، وعصمت داوستاشى، وإيفيلين عشم الله، ومصطفى بط كلٌ بطريقته أيضا. وقام آخرون بتصوير الحياة المصرية، بحساسية جديدة، وأسلوب مبتكر مثل عفت ناجى، وسيف وانلى، وجاذبية سرى فى مراحلها الأولى، وحسن سليمان، وحامد عويس، وسيد سعد الدين، ورباب نمر، وفاتن النواوى كلٌ من زاويته. واستلهم البعض الفنون العربية والإسلامية كالحرف والزخارف مثل صلاح طاهر، وحامد عبد الله فى مرحلتيهما المتأخرتين، برؤية تجريدية عند الأول وحس تعبيرى عند الثانى، وكذلك استلهم خميس شحاتة الفنون والعمارة الإسلامية. كما قدم كلٌ من محمد عبلة وأحمد عبد الكريم تجربتين فى هذا الصدد تمثلتا فى معرض "طريق الحرير" للأول و"تحية إلى الواسطى" للثانى. واختار البعض أن يصور البيئات النائية فى الواحات والصحارى، مثل عز الدين نجيب، وسيد محمد سيد مع اختلاف التناول. وهناك من لمسوا الروح المصرية العميقة فى جوهرها الإنسانى، عابرين الطبقات الحضارية إلى اللب مثل حامد سعيد، وأحمد مرسى، وزينب السجينى، وممدوح عمار. وبالطبع جمع بعضهم بين أكثر من رافد، وتواشج مع أكثر من مدرسة. ولا يتسع المقام لذكر عشرات من الفنانين المهمين الذين ساهموا فى خلق لوحة مصرية مثل تحية حليم، وسعد الخادم، وعفت ناجى، وسعيد العدوى، ومصطفى الفقى، وعمر النجدى، وحامد عويس، ومصطفى عبد المعطى، وحلمى التونى، ومن الأجيال الأحدث أشرف رسلان الذى استلهم التراث الروحى القديم، وعمر عبد الظاهر الذى استلهم الحياة الريفية والنوبية، وغيرهما. فى كتابه المهم "الفنان المصرى وسؤال الهوية" رصد الفنان والناقد عزالدين نجيب مسيرة عشرات من الفنانين المصريين من زاوية علاقتهم بالهوية المصرية. وحذر من الارتماء التام فى أحضان التيارات الغربية، كما حدث فى التسعينيات، وجرى تكريسه من خلال صالون الشباب وفق رأيه. الكتاب يعتبر دراسة بالغة الأهمية، لمسيرة الفن المصرى، وهو يخطو نحو تشكيل هويته الخاصة. وسيلاحظ المتأمل لتلك المسيرة أن الهوية كانت عملية بناء دائم عينها على المستقبل، ولم تكن مجرد استرجاع للتراث. وقد جاء استلهام الطبقات التراثية والحضارية بالتوازى، وبالقدر نفسه مع استيعاب المدارس العالمية. وحتى من تبنوا التيارات الغربية، مثل أعضاء "الفن والحرية"، ما لبثوا أن أمسكوا بالروح المصرية، ومنها أعادوا الانفتاح على أبعاد إنسانية. وربما لم يحدث التهديد الحقيقى للهوية عبر الانفتاح على الغرب، بقدر ما جاء خلال حقبة السبعينيات مع تيارات معادية للفن والحضارة، كادت تقتلع الأخضر واليابس. كما نلاحظ أن التجديد والتلاقح مع الآخر، والتجريب إنما يطمح للمفارقة إلى أن يصير كلاسيكيا ذات يوم، وإلا تعرض للتلاشى. وسنجد أن كل من صارت الآن أعمالهم ضمن تراثنا الفنى الذى نعتز به، كانوا من المجددين، حاملى الجينات الحضارية. ولم يكن بينهم مقلد، أو ناقل للتراث. ومن الجميل أن التجربة، لم تتم عبر رافد واحد، ولا بتبنى طبقة حضارية واحدة، ولكن بالانفتاح الخلاّق على كافة التجارب والرؤى الإنسانية.