كتب إيثار حمدى تصوير: سامح مسلم بمجرد أن تطأ قدماك منطقة "الخيامية" فى الغورية بالقاهرة، حتى يفتح لك الشارع ذراعيه، كأنه يرحب بك فى بداية رحلة لا تريد لها أن تنتهى.. الدكاكين المتراصة على الجانبين تفيض بالجمال والألوان الزاهية، بينما سقف الشارع التاريخى ينظم مرور الشمس التى تلقى بظلالها على المارة، وتحرم الصنايعية من أشعتها الدافئة. لم يقبل فنانو الخيامية الحوار معهم بسهولة، كانوا يرفضون لسبب لا يفصحون عنه، فى الوقت الذى يجلسون فى انتظار الفرج، لكننا نجحنا فى النهاية أن نجرهم للحديث، ليكشفوا لنا سر الصنعة، ويحكوا عن همومهم، وكساد بضاعتهم. فى كلية الإعلام تخرج شريف محمد سعيد، إلا أنه قرر العمل فى مهنة الخيامية التى ورثها عن والده وأجداده الذين مارسوها منذ عام 1901، بتصنيع الخيم والصوان يدويا، لكن بعد ظهور الطباعة قل عليها الطلب لتندثر شيئا فشيئا. ويقول: الشغل اليدوى أعلى تكلفة وأكثر جهدا من الطباعة، وكانت أكثر الطلبات عليه تأتى من المملكة العربية السعودية والسودان وليبيا، وحتى كسوة الكعبة كنا نصنعها ونرسلها لمكة المكرمة، إضافة إلى أننا نقوم بتنفيذ الأقمشة والطبعات والتطريز المستخدم فى الصوان سواء أفراح أو مآتم. ويفرق شريف بين القطع المصنعة يدويا والمطبوعة، قائلا: إن كل ما هو يدوى أفضل، ولكن بعد ظهور الطباعة لم يعد الإقبال على الشغل اليدوى كما كان بالإضافة إلى أن أغلب الناس حاليا يبحثون عن الأقل تكلفة، والأسرع فى التنفيذ. ويضيف: فى البداية كنا نطرح العديد من الأشكال والرسومات المستوحاة من الآثار مثل أبواب المساجد مثلا أو الشبابيك، فيما تعرض هذه المشغولات وتباع بكثرة، فى الوقت الذى يميل فيه الأمريكان لمشغولات الطيور والبوم بالتحديد. ويستطرد: بعد ثورة يناير 2011 تأثرت مهنة الخيامية بشكل كبير، لأنها تعتمد بنسبة كبيرة على السياحة، فالأجانب أكثر عشقا وتقديرا لهذه الرسومات اليدوية من المصريين، والأقمشة عبارة عن خامات تيل توضع فى خلفية القطعة والأقمشة المستخدمة فى النقوشات هى بفتة قطن ملونة. وخلال السنوات الماضية كنا قادرين على السفر للخارج والمشاركة فى بعض المعارض الدولية عن طريق بعض السائحين الذين يزورون المنطقة، ولكن للأسف جاءت كورونا وقفلت كل المعارض وأصبح البيع شبه متوقف. وأثرت أزمة كورونا على العمال وخاصة كبار السن فمنهم كثيرون لا يقدرون على الخروج من منازلهم لعلمهم أنهم أكثر عرضة للإصابة بالعدوى، وبعضهم يأخذ معه قطعة أو قطعتين يعمل عليها فى المنزل، وهناك من ترك الصنعة تماما وبدأ يعمل فى مهن أخرى. يعشق شريف مهنته ليس فقط لأنه ورثها عن أجداده ولكنه يهوى هذا النوع من الفن، ويشير إلى أن حب هذه المهنة يتطلب نوعا من المهارة والصبر ليتمكن الشخص من المكوث 8 ساعات متواصلة وهو يمسك بالإبرة والفتلة ويبدأ بالخياطة. أكثر الأشكال إرهاقا فى العمل كما يقول هو اللوتس لأنه يحتاج إلى الكثير من الألوان، وتفاصيله كثيرة إضافة للطيور والزخارف الإسلامية. ويحكى شريف عن فنان كان يعمل معه يدعى سيد يحترف عمل أشكال الطيور، ويزور سوق السيدة عائشة كل يوم جمعة لمشاهدة ألوان الطيور على الطبيعة وتنسيق ألوانها لينقلها على القماش فتشعر وأنت تشاهدها بالخيامية وكأنها حقيقية تقف على فروع الشجر. يعتمد تقييم شغل الخيامية على سمك الغرزة، كلما كانت ضيقة كان الشغل أدق وأفضل وأقيم، ونستطيع معرفة كل صنايعى من الغرزة الخاصة به، وكان يعمل لدينا العديد من الفتيات من منازلهن، وفى الكثير من الأحيان يتفوقن على الرجال. أفضل صنايعى ومن شريف إلى مصطفى الليثى صاحب لقب "أفضل صنايعى"، حيث يقول: إن الحالة أصبحت صعبة منذ اندلاع ثورة يناير، بينما زاد الوضع سوءا بجائحة كورونا التى أثرت بالسلب على العالم كله. يعمل مصطفى فى هذه المهنة منذ 40 عاما، بدأها وهو فى العاشرة من عمره، ويقول إن مهنة الخيامية تعتمد على 3 أو 4 عائلات أساسيين، وأن آخر جيل تعلم الصنعة هو وأخوته، فى حين رفض أبناؤهم أن يكملوا المشوار ويتعلموا الصنعة واتجهوا للسوشيال ميديا وغيرها، أما جيلنا فقد نشأ على مبدأ خدمة العائلة ومساعدة الأعمام فى عملهم وكان لى 7 أعمام يعملون فى المهنة أساعدهم منذ الصغر. ويضيف: ظهرت أقمشة الطباعة فى بداية السبعينيات، وبدأت المصانع تنتج ما يقرب من مائة ترك فراشة فى اليوم الواحد وفى المقابل فإن الترك الواحد بالعمل اليدوى يستغرق ما يقرب من أسبوع، وهو ما فضله أصحاب محال تجهيز الفراشة فبالنسبة له أوفر وأسرع. بحزن عميق يحكى مصطفى عن تصاميمه التى تعرض فى الخارج وهى تحمل أسماء أشخاص آخرين، فهو يصمم القطعة ويشتريها منه شخص آخر ويسافر ليعرضها بالخارج على أنه من صممها ويضع عليها توقيعه ويبيعها بمبالغ خيالية، لافتا إلى أنهم يتنازلون عن حقوقهم الأدبية فى مقابل الحصول على قوت عيالهم، بسبب ظروفهم المادية الصعبة، ويقول: نحن مضطرون للتجويد حتى ينال المنتَج إعجاب الجميع. ويرى أن فن الخيامية ذاهب للمجهول، وأن أغلب المتواجدين حاليا كانوا فى الأساس تجارا أو أصحاب محلات كشرى أو فراخ.. إلخ ، وأجبرتهم الدولة على تحويل محلاتهم إلى خيامية وأصبجوا يعملون معنا ولكن الكوادر الحقيقية غير معروفة. يطالب مصطفى بتوفير أماكن أو مدارس يقوم فيها كوادر الخيامية بتعليم هذا الفن حتى لا يندثر معهم، ويقول: الخيامية هى المهنة الوحيدة على مستوى 190 دولة تتميز بها مصر، ففن الأرابيسك مثلا يتميز فيه السورى عن المصرى ولكن الخيامية لا ينافسنا فيها أحد، إنها خاصة بنا فقط، ولكن يجب أن تقوم الدولة برعايتها وتدار بشكل جيد، وتقوم هيئة تنشيط السياحة بالترويج للمكان، وهيئة المكاتب الثقافية المتواجدة فى السفارات المصرية بالخارج أيضا تقوم بدورها فى الترويج لهذا النوع من التراث الأصيل، فيجب أن يحدث إثراء للمهنة. وعن البدايات يقول: تعلمنا المهنة على يد فنانين، وعرفنا أنها صنعة صوفية وصنعة مشايخ، وحكوا لنا عن أشخاص تكبروا على الإبرة والكستبان بعد أن ورثوا بعض الأموال وبعد فترة قليلة تعرضوا لحوادث، خسروا فيها كل ما يملكون، فالإبرة والكستبان لهما سحر لا يعلمه إلا من يعشق هذه المهنة. على صوت فايزة أحمد وفى أحد المحلات الصغيرة شاهدنا أحمد كتكت جالسا بيده الإبرة والقماش وهو يتسلطن على أنغام فايزة أحمد ونجاة وعبدالحليم حافظ يشتغل فى قطعة من الخيامية، وقال إنه يعمل فى هذا المجال منذ عام 1767 أى ما يقرب من خمسين عاما، كان عمره وقتها 15 سنة، ويقول أنا من القليلين الذين لا يزالون يعملون بيدهم، فنحن نفتقد دخول الأجيال الجديدة فى المهنة فالكبار يموتون ولا يوجد إلا قلة بسيطة يميلون لتعلم الخيامية والعمل فيها. ويضيف: أكثر عملنا يكون مع الأجانب، لأنهم لن يجدوا غيرنا يقوم بتصنيع هذه المشغولات بيده، كنا فى البداية نشتغل فى ترك الأفراح والمآتم وبعد ذلك ظهرت الطباعة وبدأنا فى الاتجاه لشغل الخيامية فقط. يفضل أحمد عمل المفارش الكبيرة فهى تظهر موهبته وتركيزه لكثرة تفاصيلها، إنه يقوم بتنسيق الألوان مع بعضها دون النظر لأى رسومات أو لوحات فاعتماده بالكامل يكون على عينه وتركيزه فقط. ويرى أن سر الصنعة يكمن فى 3 أشياء: يده التى يشتغل بها وعينه التى يرى بها وعقله الذى يفكر به، ويتفنن فى تنسيق الألوان والرسومات بتكوين لوحة غاية فى الجمال. معنى التصوف محمود فتوح يعمل فى مهنة الخيامية منذ 40 عاما، منذ أن كان فى السادسة من عمره فقد ورثها عن عمه، تخرج من كلية الإعلام ولكنه لم يجد نفسه إلا فى شارع الخيامية وسط الأقمشة، لفت انتباهه تشكيل الألوان وتآلفها مع بعضها. يقول: تعلمت منها فى البداية معنى كلمة التصوف الفنى وعشق المهنة، والتحقت بكلية فنون جميلة دراسات حرة لأتعلم كيفية تنسيق الألوان مع بعضها البعض، كنا فى البداية نعتمد على ألوان قوس قزح حتى بداية عام 1978، وبعد ذلك انقلبت حياتنا رأسا على عقب بعد ظهور الطباعة. ويضيف: بعد أن كنا نشتغل فى تروك الشوادر والصوانات، حدث نوع من الخمول والكثير من الصنايعة تركوا المهنة واتجهوا لأعمال أخرى، لكن سرعان ما أفقنا من هذه الصدمة بعد أن أدركنا أننا نمتلك فنا من نوع خاص، وبعد أن كنا نصمم قطعا تناسب الشارع المصرى اتجهنا لتقديم قطع تناسب البيوت الأوروبية والأمريكية وغيرها. ومع بداية الثمانينيات حدث لمصر انفتاح سياحي، وتحولت 37 مهنة يدوية فى مصر إلى العالمية، وبدأنا نحتك بالثقافات المختلفة ونحاكى الديكورات الداخلية لمنازلهم من مفارش وستائر ومخدات وتابلوهات وغيرها، وحتى نهاية عام 2010 وبعد الثورتين ومن بعدهم أزمة كورونا أصبحت ال 37 مهنة فى عدد الأموات.. يرى أن الخيامية حاليا وغيرها من الصناعات اليدوية قادرة على وضع مصر فى مكان مختلف تماما مثلما فعلت الهند، وعلينا الابتعاد عن اتفاقيات الجات ليصبح لدينا منتجنا الذى ليس له مثيل حول العالم. سر الصنعة من وجهة نظره هو التصوف، والفن الإسلامى الذى يشتقون منه معظم تصميمات الخيامية، حيث أن الإسلام يحرم التصوير والتشخيص فاتجه الفنان الإسلامى إلى رسم خطوط تصوفية، واعتمد على شكل هندسى وهو الدائرة على أساس أنها مثال للوحدوية أى لا بداية ولا نهاية، فأصبحت كل تصميماتنا على شكل 360 درجة، أما احتكاك الإسلام فى فتوحاته فقد أحدث نوعا من الثراء ولذلك عظمة الفن الإسلامى جاء مع المماليك البحرية، الذين شجعوا على المزج بين الثقافات العربية والغربية والإسلامية.. وحول قصة شارع الخيامية قول إن الأدوار العلوية كانت عبارة عن استراحات صغيرة للتجار فى العصر العثمانى وكانت هذه المحلات التى نعمل بها حاليا عبارة عن إسطبلات للخيول والجمال، فقد كانت بوابات القاهرة قديما تفتح أبوابها من السادسة صباحا وحتى السادسة مساء فكان بعض التجار لا يستطيعون ضبط أوقاتهم على هذه المواعيد فكانوا يقيمون فى هذه الاستراحات حتى ينتهوا من الأعمال التى جاءوا من أجلها.. ونتيجة لذلك ظهرت بعض الصناعات مثل صناعة الخيم وصناعة الخرج الذى يضعون فيه بضائعهم، والصناعات التى تخدم هؤلاء التجار. فن مصرى أما تاريخ الخيامية فيقول إنه بدأ مع نبى الله إدريس )عليه السلام( فهو أول من أمسك الإبرة، وبدأ المصريون فى تصنيع الملابس، والمصريون القدماء بدأوا بزخرفة ملابسهم عن طريق الإبرة والقماش وكتبوا بعض الأسماء الفرعونية وأسماء الآلهة وبعض الشعارات الحماسية على الخيم وقت الحروب، فالمصرى طول عمره يستخدم أدواته بالطريقة الصحيحة.. ويرى أن الخيامية لغة ومدرسة وموسيقى ويقول: هناك لغة حوار بينى وبين قطعة القماش التى أقوم بتصميمها، وصوت المقص بالنسبة لى نبض، وهناك تآلف بينى وبين أدواتى التى أستخدمها، وعندما أنتهى من تصميم قطعة أشعر وكأنى أب ستتزوج ابنته سعيد لأنها ستذهب لبيتها وفى نفس الوقت حزين لأنها ستفارقه.