ياسمين عبدالحميد داخل أحد مواقف سيارات الأجرة، وبينما كانت عقارب الساعة تشُير إلى العاشرة صباحًا، موعد انخراط ملايين الأطفال فى دراستهم داخل الفصول، وقف الصبى الصغير، الذى لا يتجاوز عمره 11 عامًا، يُنادى على الركاب بكل ما أوتى من قوة لينتهى من "تحميل الميكروباص".. لفت انتباهى أن قدرات صوته الضعيف لا تسُعفه فى مجاراة زملائه بالموقف من "التباعين" كبار السن.. دفعنى الفضول لمعرفة كيف يقضى هذا الطفل التعيس يومه بين عوادم السيارات، ودخان سجائر السائقين، الذى يحمل فى كثير من الأحيان نفحات من المخدرات؟!.. وكيف يتعامل مع قسوة الشارع وبرودة الجو الشديدة صباحًا وهو لا يرتدى سوى "بيجامة" مهلهلة تكشف أكثر مما تستر من أجزاء جسده. "اسمى محمود.. وكان نفسى أطلع مذيع فى التليفزيون.. لكن مكملتش تعليمى عشان أبويا مات من 3 سنين.. وسابنى أنا وأمى و4 إخواتى.. منهم 2 أصغر منى و2 بنات أكبر منى، عايشين فى أوضة على السطوح من غير ولا مليم".. بهذه الكلمات أجابنى محمود، عن كل ما دار فى ذهنى من تساؤلات، فالصبى الصغير، يستيقظ مع نسائم فجر كل يوم لا ليتجه إلى مدرسته للتعليم، وإنما إلى الشارع بحثًا عن بضعة جنيهات يعود بها إلى أمُه لتُعينها على ظروف الحياة. عن ذكرياته مع المدرسة، قال محمود: "والله كُنت شاطر وكويس وبنجح، بس مكنش ينفع أكمل هجيب منين المصاريف، وأمى ست على قد حالها، وأنا المفروض بقيت راجل، بعد موت أبويا، أنا اشتغلت "سايس" واشتغلت فى مطاعم ومحلات كتيرة، المهم ارجع آخر اليوم بيومية تساعدنى أنا وأمى على المصاريف". محمود واحد من بين أكثر من مليون طفل حرمتهم الظروف من التعليم، دخلوا جميعًا فى دائرة المتسربين من التعليم، بفعل عوامل عديدة أهمها الفقر والجهل وكثرة الإنجاب وغيرها من الأمور.. سن الإلزام ووفقًا لمنظمة "يونيسيف" فإن التسرب من التعليم يُعرف بعدم تقدم الدارسين من الأطفال فى سن الإلزام إلى المدارس نهائيًا، أو تقدمهم ثم عدم انتظامهم فى الدراسة بعد ذلك، وهو ما يعنى عدم قدرة المدرسة على الاحتفاظ بالتلاميذ بعد التحاقهم بها، والتسرب من المدرسة الابتدائية يتمثل فى فشل التلميذ إتمام تلك المرحلة من النظام التعليمى، وعدم استمراره حتى نهايتها، وأظهرت دراسة أجراها المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية بالتعاون مع منظمة "يونيسيف" العالمية، أن سن بداية عمل الأطفال بمختلف المهن لكسب الرزق من سن 10 إلى 12 عامًا، نتيجة التسرب من التعليم، بلغت 50% من إجمالى عينة البحث. بينما يُعرف المجلس القومى للأمومة والطفولة؛ التسرب من التعليم بأنه انصراف أو انسحاب التلميذ المُسجل بأى مدرسة من مدارس التعليم الأساسى أو الابتدائى بجميع أشكالها الحكومية أو الخاصة أو الأزهرية قبل أن يستكمل تعليمه الأساسى. وبحسب بيانات وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى لعام "2018 -2019"، أعلن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، عن أرقام تكشف أبعاد المشكلة، حيث بلغت نسبة المقيدين فى رياض الأطفال 24% للذكور، و24.7% للإناث فى الفئة العمرية من 4 إلى 5 سنوات، بينما بلغت فى مرحلة التعليم الابتدائى من 6 إلى 11 عامًا 95.2% للذكور، و98.7% للإناث، أما فى مرحلة التعليم الإعدادى فى الفئة العمرية من 12 إلى 14 عامًا فقد بلغت 79.9% للذكور، و85.1% للإناث.. وأشارت بيانات المركزى للإحصاء، إلى أن نسبة التسرب من التعليم بلغت 0.4% من إجمالى المقيدين فى المرحلة الابتدائية بمعدل 0.5% للذكور، و0.3% للإناث، بينما بلغت نسبة التسرب فى المرحلة الإعدادية 3.1% من إجمالى المُقيدين بمُعدل 3.2% للذكور، و3% للإناث. وكشفت بعض الأرقام الصادرة عن الجهاز، أن نحو مليون و122 ألف طفل فى العام "2018 - 2019"، مُتسرب أو غير ملتحق بالتعليم، و321.8 ألف طفل تركوا المدارس من المرحلة الابتدائية، و451.6 ألف من الإعدادية، والمتسربون من الثانوية 394 ألف طالب وطالبة، وكانت النسبة الأكبرمن التسرب فى الجيزةوسوهاج. أبرز الأسباب ورصد الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أبرز الأسباب التى تؤدى إلى انتشار ظاهرة التسرب من التعليم، مُشيرًا إلى أن عدم رغبة الفرد نفسه فى التعلم جاءت فى مقدمة تلك الأسباب، حيث بلغت نسبة غير الملتحقين بالتعليم لهذا السبب 37.2%، وتلاها سبب عدم رغبة الأسرة فى التعليم، بنسبة 18.9%، وبسبب الظروف المادية بلغت نسبة غير الراغبين فى الالتحاق بالتعليم 17.8%، أما سبب تكرار الرسوب فسجل نسبة 9.2%، والتسرب من التعليم بسبب الزواج بلغت نسبته6.3%، ولصعوبة الوصول إلى المدرسة نسبة 5.2%، وبسبب العمل تسرب من التعليم نسبة 2.3%، ولوفاة أحد الوالدين سجلت نسبة 1.5%، وبسبب الإعاقة سجلت نسبة 0.8%، وبسبب انفصال الوالدين سجلت نسبة 0.6%. ولفت الجهاز إلى ظاهرة ارتفاع كثافة الفصول فى جميع مراحل التعليم الحكومي خصوصًا المرحلتين الابتدائية والإعدادية عنها فى التعليم الأزهرى، حيث واصل الارتفاع فى عام "2018 - 2019" عن "2017 - 2018" بمعدل 49 طالبًا بالابتدائى، و45 طالبًا بالإعدادية بالنسبة للتعليم الحكومى، بينما ظلت كثافة الفصول ثابتة فى المرحلتين الابتدائية والإعدادية فى التعليم الأزهرى فى العامين بمُعدل31 طالبًا بالابتدائى، و28 طالبًا بالإعدادية، وانخفضت كثافة الفصول فى التعليم ما قبل الابتدائى الأزهرى من 31 طالبً فى "2017 - 2018" إلى 29طالبًافى "2018 - 2019". توجيه رئاسى وأظهر تقرير آخر صادر عن الهيئة العامة للأبنية التعليمية بوزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى، أن هناك 2370 منطقة فى 17 محافظة محرومة من التعليم، وتُعتبر محافظة سوهاج الأكثر فى انتشار المناطق المحرومة من التعليم فى المرحلة الأساسية، وتُضم 351 منطقة بلا مدارس للتعليم الأساسى، ويليها قنا التى توجد بها 303 مناطق محرومة، ثم المنيا وبها 291 منطقة محرومة من مدارس التعليم الأساسى. الرئيس عبد الفتاح السيسى، وإيمانًا منه بأهمية التعليم فى بناء مستقبل الوطن، وضرورة تلقى جميع الأطفال نفس القدر من المعرفة، أصدر توجيهاته إلى نيفين القباج، وزيرة التضامن الاجتماعى، بتخصيص مليار جنيه لدعم تكافؤ الفرص التعليمية للطلاب غير القادرين، الذين تم رفضهم فى برامج الدعم النقدى، وذوى الإعاقة، وطلاب المدارس المجتمعية، وطلاب تكافل الذين التحقوا بالجامعات، والتدريب الفنى، ومحو الأمية، ووحدات التضامن الاجتماعى بالجامعات، ووفقًا لوزيرة التضامن فإن هذا التخصيص يتضمن دعم نحو مليون طالب مدرسى من الأسر التى تم رفضها من برنامج تكافل، ليصل إجمالى عدد الطلاب الذين يتم دعمهم إلى 4.4 مليون طالب، من بينهم 2.4 مليون طالب يتم دعمهم عبر برنامج تكافل، و2 مليون طالب من المرفوضين من برنامج تكافل، إضافة إلى تقديم أدوات مساعدة للطلاب ذوى الإعاقة لتمكينهم من الخروج للتعليم ودمجهم بالمجتمع، وأكدت القباج، أن الرئيس السيسى وجه أيضًا بالمساهمة فى تكاليف التعليم المجتمعى بالشراكة مع الجمعيات الأهلية، والتنسيق مع القطاع الخاص بشأن التدريب المهنى للطلاب المتسربين والذين تخطوا سن التعليم. برنامج مكافحة المجلس القومى للطفولة والأمومة، يُنفذ برنامج لمكافحة التسرب من التعليم، يستهدف الحد من تسرب الأطفال فى مرحلة التعليم الأساسى، سواء لأسباب مُتعلقة بالمدرسة أو المنزل أو أى أسباب أخرى، هذا ما أكدته الدكتورة سحر السنباطى، الأمين العام للمجلس، لافتة إلى أن البرنامج يستهدف تحسين بيئة المدرسة، وجعلها جاذبة للتلاميذ، وذلك من خلال رفع وبناء قدرات المعلمين والإخصائيين النفسيين والاجتماعيين، ومديرى المدارس، والقائمين على العملية التعليمية، وفرق مُعالجة التسرب التعليمى، وإعداد دليل إرشادى للمتعاملين مع الطفل المعرض للتسرُب، والارتقاء بوعى أسر الأطفال بالمناطق الأكثر احتياجًا، وتغيير النظرة السلبية لتعليم الفتيات بالريف، والتوعية بالمشكلات الناجمة عن التفكك الأسرى، وأمية الوالدين، والزواج المبكر للفتيات، ومخاطر العمل على الأطفال، والاهتمام بالجانب التحفيزى للطفل لدوام الانتظام داخل إطار العملية التعليمية، وتكوين شراكات مع وزارتى التربية والتعليم، والتضامن الاجتماعي) وإعداد كوادر من مشرفين ومدرسين ومدرسات والإخصائيين النفسيين والاجتماعيين للأسر لدعم الأسر والأطفال والحفاظ عليهم داخل الإطار المدرسى. ولفتت الدكتورة سحر إلى أنه تم الانتهاء من المسودة النهائية للدليل الإرشادى للمتعاملين مع الطفل المعرض للتسرب من مدير المدرسة والمعلم والإخصائى الاجتماعى والإخصائى النفسى، كما تم إنشاء لجان للحد من التسرب فى30 مدرسة ابتدائية بالفيوم، وأسيوط، وسوهاج، كما تم تعميم فكرة إنشاء لجان للحد من التسرب تحت مسمى "فرق معالجة التسرب التعليمى" على مستوى المديريات والإدارات التعليمية، والإعلان عن الخطة القومية لمعالجة التسرب بين المجلس ووزارتى التعليم والتضامن، كما تم بناء قدرات720مُدرس وإخصائى اجتماعى ونفسى ومدير مدرسة عبر 18 ورشة عمل تدريبية بعدة محافظات، وتم استهداف 900 من أولياء أمور التلاميذ المعرضين للتسرب ببعض المحافظات عبر 18 ندوة توعوية استهدفت كل منها 50 من أولياء أمور التلاميذ. الخبير التربوى، الدكتور كمال مغيث، يرى أن مشكلة التسرب من التعليم لها أسباب عديدة، منها الاجتماعية ومنها الاقتصادية، كما أعلن الجهاز المركزى للإحصاء، غير أن السبب الأهم من وجهة نظره، هو أن المدرسة نفسها غير جاذبة للطفل فالمعلمون لا يرحبون بالطلاب بالشكل الذى يجعلهم أكثر قدرة على الاندماج فى العملية التعليمية، كما أن أغلب الفصول ذات كثافات طلابية كبيرة، ولفت إلى أن الطريق الأسرع لعلاج المشكلة يكمُن فى إعداد خطط تنمية حقيقية بمختلف أقاليم مصر، ودعم الاستثمار لخلق فرص عمل للشباب والقضاء على البطالة، حتى يشعر الطلاب بجدوى التعليم، وأنهم سيجدون فرص عمل فى المستقبل، مُشددًا على ضرورة أن تكون المدرسة جاذبة للطلاب وخصوصًا الأطفال من خلال ممارسة الأنشطة الرياضية والفنية والمسابقات.. وغيرها، بجانب تحقيق الاستفادة العلمية.