بدء التسجيل للتقدم لاختبارات القدرات بكليات جامعة المنيا    عيار 21 الآن وأسعار الذهب اليوم في عطلة الصاغة الأحد 13 يوليو 2025    بعد أزمة الإنترنت.. WE تكشف آلية تعويض المستخدمين    "مياه الفيوم" تبدأ تطبيق القياسات البيئية لتحسين بيئة العمل وجودة التشغيل بالمحطات    مصابون فى قصف على خيمة نازحين بمواصى خان يونس    رئيس وزراء العراق: اتفاق تركيا والعمال الكردستاني مفيد للمنطقة    إصابة شاب برصاص الاحتلال في الرام شمال القدس المحتلة    وكيل اللاعب: رغم بيان بيتروجت إلا أن المفاوضات مستمرة لانتقال حمدان للزمالك    نوان مقترح للخبر: ضياء السيد: الزمالك لم يقدم عرضًا رسميًا لضم حامد حمدان.. وبناء الفريق يسير ببطء مقلق    إصابة 5 أشخاص إثر حادث انقلاب سيارة فى كرداسة    المنيا تطلق مدرسة تكنولوجية لربط التعليم بسوق العمل    مصرع شخص تحت عجلات القطار بمركز المراغة بسوهاج    بعد ولادة سيدة مرتين على يده.. مسعف قنا: كأن الزمن عاد في صدفة لا تصدق    من أرض الواقع.. «ستوديو إكسترا» يرصد آليات إصلاح وترميم سنترال رمسيس    مغلق من 13 عامًا.. عمرو سمير عاطف: غياب قصر الثقافة حرم أجيالًا من الفن والمسرح    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن أعضاء لجنة تحكيم مسابقة التأليف    7 أسباب شائعة وغير متوقعة لرائحة التعرق الكريهة    ساويرس والسعد وثالثهما علاء مبارك!    سعر الفراخ البيضاء وكرتونة البيض بالاسواق اليوم الأحد 13 يوليو 2025    رسالة جديدة من مودريتش بعد رحيله عن ريال مدريد    تفاصيل تعاقد الأهلي مع محمد شكري    محمد سمير يعلن اعتزاله كرة القدم    الصفقة المنتظرة.. ماذا قدم محمد شكري قبل عودته إلى الأهلي؟    «التلفزيوني والإذاعي معًا».. خالد الغندور يعلن سبب توقف ظهور برنامجه    نجم الزمالك السابق يؤكد: بيتم تصدير نظرية المؤامرة.. والفرق مع الأهلي ربع قرن    رئيس مياه الإسكندرية: تطوير مستمر لخدمة العملاء واستجابة فورية لشكاوى المواطنين    تحصين 19 ألف رأس ماشية ضد الحمى القلاعية في الغربية    شراكة بين «التضامن» وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مصر    أول قصيدة الدم .. التواصل يتفاعل مع هاشتاج #مجزرة_الحرس بنشر أسماء الشهداء    «زي النهارده».. وفاة كمال الدين رفعت أحد الضباط الأحرار 13 يوليو 1977    ارتفاع الأمواج بعدد من الشواطئ.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الأحد 13 يوليو 2025    حريق سنترال رمسيس.. نيران كشفت الهشاشة الرقمية وتجاهل التحذيرات    عمائم زائفة    بين مكاسب إسرائيل والحسابات الخاطئة للعرب    في انتظار مكالمة مهمة.. حظ برج العقرب اليوم 13 يوليو    د. مصطفى سلامة يكتب: الموقف العربي المطلوب للمستقبل المنظور    يمنع امتصاص الكالسيوم.. خبيرة تغذية تحذر من الشاي باللبن    ماء الكمون والليمون.. مشروبات فعالة في التخلص من الغازات والانتفاخ    يومان متبقيان| زيزو ينتظر العودة لتدريبات الأهلي «صورة»    بالأعلام وصيحات الفرحة.. الأطباء البيطريون يحتفلون بثورة 30 يونيو في «دار الحكمة»    عمرو سعيد عاطف: موهبتي في الكتابة بدأت من الطفولة.. وأول دروسي كانت مع "ميكي" و"سمير"    اعتقال أكثر من 70 شخصا خلال احتجاجات في لندن رفضا لحظر جماعة «تحرك من أجل فلسطين»    40 طعناً أمام القضاء الإداري ضد مرشحي انتخابات مجلس الشيوخ 2025| خاص    بتهمة تجارة المخدرات.. المشدد 6 سنوات لسائق توك توك في الوراق    «الصحة» تدعم مستشفى كفر الدوار العام بجهاز قسطرة قلبية ب 23 مليون جنيه    كأول فنانة هندية.. ديبيكا بادوكون تتسلم نجمة ممشى هوليود    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. رعب فى كاليفورنيا بعد تسجيل 40 هزة أرضية متتالية.. مظاهرات حاشدة فى تل أبيب للمطالبة بوقف حرب غزة.. رسوم أمريكية ضخمة تهدد التجارة مع المكسيك والاتحاد الأوروبى    تظاهرة في العاصمة السويدية احتجاجًا على تواصل جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة    طاقم مصرى يصل الليل بالنهار.. ماكينات حفر الخط الرابع للمترو لا تتوقف    الاتصالات: تفعيل خطط بديلة بعد حريق سنترال رمسيس لإعادة الخدمة تدريجيا    وزير الصحة يوجه بتعزيز التواجد الميداني لقيادات الوزارة في المنشآت الطبية    هل الوضوء داخل الحمام صحيح؟ أمين الفتوى يجيب (فيديو)    رئيس جامعة الأزهر: آية الدعاء في عرفة تقسم الناس إلى فريقين.. وأقوال المفسرين تكشف دقة التوجيه القرآني    ننشر مؤشرات تنسيق الدبلومات الفنية 2025    سحب على 10 تذاكر.. تامر عبدالمنعم يفاجيء جمهور الإسكندرية    ما هو أقل ما تدرك به المرأة الصلاة حال انقطاع الحيض عنها؟.. الإفتاء تجيب    بائع مصري يدفع غرامة 50 دولارًا يوميا بسبب تشغيل القرآن في تايمز سكوير نيويورك.. ومشاري راشد يعلق (فيديو)    باحث بمرصد الأزهر: التنظيمات المتطرفة تستخدم الخوف كوسيلة للسيطرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ننشر نص كلمة شيخ الأزهر في مؤتمر «الماتريدي»
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 03 - 03 - 2020

قال فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، إن المدقق في حال الأمة الإسلامية اليوم لا يساوره أدنى شك في أنها تقف في مفترق طريقين لا ثالث لهما؛ إما التطور في إطار تأكيد الذات والحفاظ عليها، واتخاذها مرجعًا أول لما تأخذ وما تدع، وإما التيه والانتحار في حال إلغاء الذات أو الهروب منها أو تجاهلها.
وأضاف شيخ الأزهر، خلال كلمته الرئيسية للمؤتمر الدولي «الإمام أبو منصور الماتريدي والتعاليم الماتريدية: التاريخ والحاضر» بمدينة سمرقند في أوزبكستان، أنه لا يكون متشائما لو قال: «إن عالمنا العربي والإسلامي لا يزال يراوح مكانه بين هذين النقيضين: لا يحسم أمره، ولا يعرف أين يولي وجهه، رغم أنه تحرر من الاستعمار منذ أكثر من نصف قرن مضى، وتلكم فترة كافية للنقاهة واستعادة العافية، والقدرة على اتخاذ القرار وضبط الاتجاه».
وجاء نص كلمته كالتالي:
«بسم الله الرحمن الرحيم
- حضرات السادة العلماء!
- السيدات والسادة!
- المشاركون الأعزاء!
السَّلام عَليكُم جميعًا وَرَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه .. وبعد
فيُسعدني أن أبدأَ كلمتي هذه بتقديمِ خالصِ الشُّكْرِ الجزيلِ لدولةِ أوزباكستان: رئيسًا وحكومةً وشعبًا، وأخصُّ بالشُّكر فخامة الرئيس مير ضياييف، رئيس جمهورية أوزباكستان، على دعوتي للمشاركة في هذا المؤتمر الكبيرِ، وعلى كَرَمِ الضيافةِ وحفاوةِ الاستقبال.
وإنَّه لَمؤتمرٌ بالغُ الأهميَّةِ في موضوعِه، وفي سياقِه الضَّروريِّ الصَّحيحِ: زمانًا ومكانًا وغايةً.. وهو أَمارةٌ على فِطنةِ القائمينَ عليهِ وانتباهِهم لضَرُورةِ اكتشافِ الجذورِ، والتنقيبِ في التراثِ العريقِ عن الأُصُولِ الثابتةِ والقواعدِ الراسخةِ، واستصحابِها للتدرُّع بها في مُعتَرَكِ النهضاتِ وصِراعِ الحضارات..
إنَّ هذا المؤتمر هو -بامتيازٍ- مؤتمرُ اكتشافِ الذَّاتِ وملامحِ الهُويَّة وقسماتِها، وإزاحةِ الغُبارِ عن الرَّصِيدِ الحضاريِّ، والموروثِ الفِكريِّ والرُّوحيِّ، من عُلومِ العقلِ والنقلِ والذوقِ، بعدَما أَوْشَكَ أن يَنطَفِئَ أوارُه، وتنطمسَ معالمه في فتراتِ ظلامٍ حالكٍ مرَّت ببلادِكم كما مرَّت ببلادِ المسلِمين في كُلِّ قارَّات الدُّنيا.
والذي يُدقِّقُ النظَرَ في حال الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ اليومَ - لا يُساوِرُه أدنى شكٍّ في أنَّها تقفُ في مُفتَرقِ طريقَيْن لا ثالثَ لهما: إمَّا التطوُّرُ في إطارِ تأكيدِ الذاتِ والحفاظِ عليها، واتخاذِها مَرجِعًا أوَّلَ لما تَأخُذُ وما تَدَعُ، وإمَّا التِّيهُ والانتحارُ في حالِ إلغاءِ الذاتِ أو الهروبِ منها أو تجاهُلِها.. ولَعَلِّي لا أكونُ مُتَشائمًا لو قلتُ: إنَّ عالَمنا العربيَّ والإسلاميَّ لا يزالُ يُراوِحُ مَكانَه بين هذين النقيضَيْن: لا يحسمُ أمرَه، ولا يعرفُ أين يُولِّي وَجْهَه، رُغم أنَّه تَحرَّرَ من الاستعمارِ منذُ أكثَرَ من نصفِ قرنٍ مَضَى، وتِلكُم فترةٌ كافيةٌ للنقاهةِ واستعادَةِ العافيةِ، والقُدرةِ على اتخاذِ القرارِ وضبطِ الاتجاهِ.
وقد زاد الطِّينَ بلةً طُغيانُ العولمةِ ودعوتُها لصياغةِ العالمِ صياغةً كونيَّةً واحدةً، وتنميطُه في نمطٍ حضاريٍّ واحدٍ «يُمَكِّنُ الأقوياءَ من فرضِ الديكتاتوريَّات اللاإنسانيَّة - فيما يقولُ الفيلسوفُ الفرنسيُّ روجيه جارودي - والتي تَسمَحُ بافتراسِ المُستَضعَفين بذريعةِ التبادُلِ التجاريِّ وحريَّةِ السُّوق».
ولسنا نُبالغ إن قُلنا: إنَّ العولمةَ ليست إلا نسخةً مُتوحِّشةً، وعهدًا جديدًا من عُهودِ الاستعمارِ «يَشطُرُ العالمَ شِطرَيْنِ: عالَمِ المُنتجِين والمسيطِرين عبرَ الشركات والبنوك والشبكات، وعالَمِ المُستهلِكين للمَأكُولاتِ والمُعلَّبات والمشروبات والصُّوَرِ والمعلوماتِ التي تُفرَضُ عليهم» ( ).. ولم يَنْسَ المُستعمِرون -كالعادةِ- أن يُقدِّمُوا بين يدي «العولمة» نظريَّاتٍ استعماريةً ألبَسُوها ثَوْبَ الفلسفةِ والبحثِ العلميِّ، مثل نظريَّةِ: «صِراع الحضارات»، ونظريَّة: «نهاية التاريخِ»، تَعمَلُ على تزييفِ وَعْيِ الشعوبِ وشَلِّ إرادتِها وتحذيرِها من استعادةِ شخصيَّتِها واكتشافِ ذاتِها وهُويَّتِها، وهذه النظريَّاتُ ليست جديدةً ولا مُستَحدَثة، بل هي خمرٌ قديمٌ يُعَادُ بيعُه في جِرارٍ جديدة، فيما يقولُ المَثَلُ المعروفُ.. فمِثلُ هذه النظريَّات ليست –في الحقيقة- إلَّا استِنساخًا للنظريَّةِ العُنصريَّةِ التي سَعَتْ بين يدي الاستعمارِ الأوروبيِّ في القُرُونِ الثلاثةِ الماضيةِ، وأعني بها نظريَّةَ «عِبْءِ الرجلِ الأبيضِ» أو «أمانةِ الرجلِ الأبيضِ»، وتَبِعَتِه أمامَ الله لتعليمِ الذين لم يَبلُغوا مَبْلَغَه في العلمِ والارتقاء، من غيرِ أصحابِ البشرةِ البيضاء.. وفيما عُرِفَ -وقتَها- بنَظريَّة «العُنصريَّة الآريَّة»، وهي نظريَّةٌ ما لَبِثَ البحثُ العِلميُّ أنْ أحالَها إلى مجرَّدِ زعمٍ عُنصريٍّ، وأكذوبةٍ كُبرى على العِلم وعلى التاريخِ. والشيءُ نفسُه يُقالُ على فلسفاتٍ استعماريَّةٍ أُخرى عاصَرْنَاها، ووَعَدَتْنا بالفردوسِ المفقودِ إن نحن أدَرْنا ظُهُورَنا لله، وكفَرْنا به وبرِسالاتِه، ونفَضْنا أيديَنا أو غسَلْنَاها -من كُلِّ مواريثِنا التي أثمَرَتْها الأديانُ- منذُ ثلاثةِ آلافِ عامٍ تقريبًا، واستَبْدَلْنا بها فلسفاتِ الإلحادِ والديالكتيكَ الطبيعيَّ والتاريخيَّ، وخُرافةَ عالمِ الغَيْبِ وفَوْضَى الأخلاقِ، وطَيْشَ الأفكارِ وحُريَّةَ التحلُّلِ من القِيَمِ، وتدميرَ الحدودِ بين الخيرِ والشرِّ، والحَسَنِ والقبيحِ.. وقد جُسِّدَ لنا كُلُّ ذلك في مسرحيَّاتٍ ورواياتٍ وأفلامٍ ومُقرَّراتٍ جامعيَّةٍ في الفلسفةِ والسياسةِ والاقتصادِ.. ونَحمَدُ الله أن امتَدَّ بنا العمرُ لِنَرَى بأُمِّ أعيُنِنا كيف انهارَ المعبدُ على رُهبانِه، دُونَ مُقدَّماتٍ أو أسبابٍ أو عِلَلٍ تُؤدِّي إلى نتائجِها، وتَجِيئ على مِقدارِها.
السَّادة الحضور!
لا يَسبِقَنَّ لأذهانِ حضراتِكم أنَّ هذه المقدِّمةَ التي رُبَّما طالت قليلًا - غريبةٌ على موضوعِ المؤتمرِ، وهو: إمامُ الهدى أبو منصورٍ الماتريديُّ - رضي الله عنه - لأنَّها –في واقع الأمر– تَرِدُ مَوْرِدَ البيانِ والكشفِ عن أهميَّةِ هذا المؤتمرِ، وأنَّه مؤتمرٌ لا تبعثه أريحيَّةُ التكريمِ لأوائلِ الرُّوَّادِ من العُلَماءِ وأئِمَّةِ الفِكرِ، بقَدْرِ ما تبعثُه ضروراتُ الشعوبِ من الأممِ المقهورةِ أو المغلوبةِ على أمرِها، وحَقُّها في عيشٍ آمِنٍ مشتركٍ، وسلامٍ يَعُمُّ الشرقَ كما يَعُمُّ الغرب، كَيْلَا تَتفاقَمَ الأزمةُ ويَرتَدَّ العالَمُ بأسْرِه إلى عُصورِ ما قَبْلَ التاريخِ. بل الأَحْرَى والأَخْلَقُ بهذا المؤتمرِ أن نَنظُرَ إليه بحُسبانِه ضَوْءًا يَسطَعُ في نهايةِ نَفَقٍ شبهِ مُظلِم، أو مَرْكبًا آمِنًا في بحرٍ مُتَلاطِمٍ الأمواجِ، وذلك من مَنظُورَيْنِ بالغَيِ الدقَّة والأهميَّة:
المنظور الأول: هو تحديدُ موقفِ الأمةِ من طُوفانِ الحداثةِ وما بعدَ الحداثة، وتَسلُّطُ رُؤاها وأنظارِها، وبكُلِّ وسائلِ التواصلِ الحديثةِ، على عُقُولِ الصغارِ والكبارِ، بل على طائفةٍ ممَّن يَملِكون التأثيرَ على عُقُولِ الشبابِ، سواءٌ بالكلمةِ المكتوبةِ أو «المتلفَزةِ» على شاشاتِ الفضاءِ، أو عَبْرَ وسائلِ التواصُلِ الاجتماعيِّ.. والأخطَرُ: أنَّ بعضًا مِمَّن يَتزيَّوْنَ بزِيِّنا ويتحدَّثُون بلُغتنا، اختلطت في أذهانِهم أوراقُ «الحداثةِ» في نُسختِها العربيَّة، بأوراقِ دعوةِ التجديدِ أو دعوةِ إصلاحِ الفكرِ الدينيِّ، ونَتَجَ من هذا الخلطِ -المتعمَّدِ أو غير المتعمَّدِ- استباحةُ الحديثِ عن الإسلامِ من غُرَباءَ على عُلومِه النقليَّةِ والعقليَّة، بل استباحةُ التطاولِ -أحيانًا- على أئمَّةِ المسلمينَ وأعلامِهم الأفذاذ.. وليس لهذا الاضطرابِ الذي أَوْشَكَ أن يكونَ «تِيهًا يَتربَّصُ بالأُمَّةِ كُلِّها» إلا مخرجٌ واحدٌ هو «إحياءُ التراثِ»، ودراستُه وتدريسُه في المعاهدِ والجامعاتِ المختصَّةِ، وانتقاءُ ما يُساعِدُنا على نهضةٍ حديثةٍ تجمعُ بينَ قِيَمِ التراثِ والتطوُّرِ الفكريِّ والتقنيِّ.. وهذا أمرٌ يحتاجُ إلى أن يُعقَدَ له أكثرُ من مؤتمرٍ يَضُمُّ جميعَ علماءِ المسلمين للتباحُثِ حولَ كيفيَّةِ الإحياءِ، وتحديدِ معاييرِ «الفَرْزِ» بين ما يُستَدعَى من الأُطُرِ التشريعيَّةِ والقواعدِ الفقهيَّةِ التي تَسمَحُ بتغيُّرِ الصورِ الجزئيَّة وتبدُّلها، وبين ما يَبقَى خاصًّا بزَمَنِه الذي قِيلَ فيه، ولا يُفيدنا استصحابُه في زمَنِنا هذا.. وهنا يكونُ بَعْثُ التراثِ وعقدُ المؤتمراتِ المتخصِّصةِ في مجالِه أمرًا يجبُ تشجيعُه والثناءُ عليه، وشُكرًا مرَّة أخرى لدولةِ أوزباكستان على هذا السَّبْقِ الذي يحقُّ لها أنْ تَفخرَ به، وتعتز.
أمَّا المنظور الثاني: الذي تتبيَّن فيه «قيمةُ هذا المؤتمر» فيَنبُعُ من أنَّه يأتي تعبيرًا عن مذهبِ «أهل السُّنَّة والجماعة» وهو مذهبُ السوادِ الأعظمِ من المسلمين، ويَعني هذا المفهومُ في المقام الأوَّل: الأشاعرةَ والماتريديَّةَ وأهلَ الحديثِ من الأحنافِ والمالكيةِ والشافعيَّةِ والحنابلةِ، وأئمَّةَ علومِ الذَّوْقِ والسُّلوكِ، وأهلَ اللغةِ والبيان، ومن المؤلمِ أن نُشِيرَ -من جديدٍ – إلى ما ابتُلِيت به الأُمَّةُ في الآونةِ الأخيرةِ من اضطرابِ مفهومِ «أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ» في أذهانِ نابتةٍ من أبنائها جعَلُوا منه شارَةً بل عَلَمًا على التشدُّدِ والتطرُّفِ، والغُلُوِّ والتكفيرِ، واستباحةِ الدِّماء، وحَكَمُوا على مَن لا يَعتَقِدُ عقائدَهم بالخروجِ من دائرةِ أهل السُّنَّة والجماعةِ.. ونحن في الأزهرِ نعملُ ليلَ نهارَ على تصحيحِ هذا المفهومِ، وعودتِه إلى دلالتِه الحقيقيَّةِ التي أجمَعَ عليها المسلمون على مدى أكثر من ألفِ عام.
ونحن إذ نَبذُلُ الجُهدَ في التعريفِ بمذهبِ الإمامِ الماتريديِّ الحنفي في بلاد ما وراءَ النهرِ وما جاوَرَها، ومذهبِ مُعاصِرِه الإمامِ الأشعريِّ الشافعيِّ في العِراقِ والشام ومصرَ والمغرب، فإنَّنا نفعلُ ذلك وفاءً للأزهرِ الشريف الذي التحقتُ به عام 1956م من القرن الماضي، ودرستُ في مرحلتَيْه: الابتدائيَّةِ والثانويَّةِ شرحَ الخريدةِ، وشرحَ الجوهرة، وهما كتابان مدرسيَّان في تعليم مذهب أهل الحقِّ.. وفي كلية أصول الدِّين التي التحقتُ بها عام 1965م، نسجنا على المنوالِ ذاتِه في مُقرَّرات علمِ الكلامِ، وسَمِعنا أوَّلَ ما سمعنا في هذه الكليَّة العريقة عبارةَ الإمامِ النسفيِّ التي يَفتتحُ بها العقيدةَ المنسوبةَ إليه. وهي: «قال أهلُ الحقِّ: حقائقُ الأشياءِ ثابتةٌ، والعِلمُ بها مُتحقِّقٌ، خِلافًا للسفسطائيَّة»، وحَفِظنا ما قالَه الشُّرَّاح في بيانِ المراد من «أهلِ الحقِّ»، وأنَّهم الأشاعرةُ والماتريديَّةُ.
وقد كُتِبَ الخلودُ لمذهبِ هذَيْنِ الإمامَيْنِ بسبب أنَّه لم يكن مذهبًا جديدًا اختَرَعه الماتريديُّ أو الأشعريُّ، يميل إلى العقل على حساب النَّص، أو ينحاز لظاهر النص على حساب العقل، وإنما هو مذهب يقرِّر ما عليه أصحاب رسول الله ﷺ، يتمسَّك به ويناضل عنه ويقيم الحجج والبراهين عليه فيما يقول: تاج الدِّين السبكي في طبقات الشافعية.
وأختم بتساؤل قد يبدو سطحيًّا في ظاهره، وإن كان محوريًّا في الواقع ونفس الأمر، وهو: هل الأمة الإسلامية اليوم بحاجة إلى مذهب الإمامين الجليلين: الماتريدي والأشعري ومذهب أهل الحديث؟ والجواب المباشر هو: نعم وألف نعم، بل أذهب إلى أبعد من ذلك لأقول: إنَّه لا يوقِف حمامات الدِّماء التي أُريقَت على مذابح التكفير إلَّا مذهب أهل السنةِ والجماعة. فنحن نعلم يقينًا أنَّ الجماعات المسلحَّة التي تنتسب للإسلام لا ترتكب جرائمَ القتلِ وإراقة الدماء إلا انطلاقا من عقيدة فاسدة تقول: إن مرتكب الذنوب والكبائر كافر ودمه حلال، وإن صلى وصام وقال: إنه مسلم، فكلُّ مُرتكبٍ لكبيرةٍ هو في نظَرِهم كافرٌ، ودمه وماله وعِرضه حلال.. فالتكفير بالكبائر هو بريد استحلال الدِّماء، وهو مذهبٌ دمويٌّ يتستَّر بالدِّين، وهنا نلفت أنظار -غير العلماء والمتخصِّصين- إلى أنَّ المذهب الوحيد، وأكرِّر: الوحيد، الذي لا يكفِّر أحدًا من أهل القِبلة، ولا يُخرج أحدًا من المسلمين من دائرة الإسلام، حتى وإن ارتكب جميعَ الكبائر ومات عليها - إنَّما هو مذهب أهل السنة والجماعة، يقول الأشعريُّ وهو يلفظُ آخر أنفاسه في بغداد: «اشهدوا عليَّ أني لا أُكفِّر أحدًا من أهلِ هذه القِبْلَة، لأنَّ الكل يُشيرون إلى معبودٍ واحد، وإنَّما هذا كله اختلاف عبارات»( ).. والمذهب نفسه نجده عند الإمام الماتريدي، وبصورة موسَّعة تعقب فيها آراء الخوارج والمعتزلة وسائر المكفِّرين بالكبيرة، وفنَّدها عبر ست وخمسين صفحة في الباب الرابع من كتابه الرائع، كتاب التوحيد( )، وهذا هو ما قرَّره رسول هذه الأمة -ﷺ- في بيان صريح واضح وضوح الشمس في رابعة النهار «مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ» ( ).
وإني لأتساءل: أَلَا يُمثِّلُ مذهبُ الإمام الماتريدي، الذي نلتقي اليومَ لإحياء مدرستِه في سمرقند مسقط رأسه، وفي جوار مثواه الأخير - أَلَا يمثل هذا المذهب طوقَ نجاة لشبابنا الذي انخرط مع المُكفِّرةَ والقَتَلَةِ؟ ويستوجب من الأمة كلها أن تروِّج هذا المذهب الذي يُعبِّر في أمانةٍ وصدق عن روح الإسلام وانحيازه للإنسان، ولحرمة دمه وماله وعِرضه. وألَّا تدَّخر الأمةُ وُسعًا في تدريسه للناشئة ولطلاب العلم، وأن تفسح له ولو مكانًا ضيِّقًا فيما يبثُّه إعلامُها من لقاءات وحوارات.
وأختمُ كلمتي بدعوة الباحثين إلى بذل المزيد من الجهد للكشف عن تراث هذا الإمام العبقري، المتعددِ المواهب والمعارف والعلوم.. وإني لأعتزُّ بأن أقول: إنَّ علماء الأزهر الشريف قدَّموا بعضًا مما يستحقه شيخُنا الماتريدي رحمه الله حيث كُتب عنه في أروقة الأزهر قرابةَ خمسين رسالة جامعية عنه وعن مدرسته الماتريدية، وفي الطريق المزيد إن شاء الله عن هذا الإمام وعن مدرسته في العقيدة والأصول والتفسير والفقه وغيرها».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.