عندما تطل علينا نسمات أكتوبر المجيد في كل عام نتذكر هذا المشهد الجبار، آلاف الجنود من أبناء الأمة المصرية فوق زوارقهم المطاطية يعبرون قناة السويس هذا المانع المائى الذى ضربت ورويت عنه الأساطير فى استحالة عبوره.. لكنهم تحدوا المستحيل وعبروه. نراهم يصعدون حاملين أسلحتهم قاهرين بخطوات ثابتة كل ما شيده العدو من تحصينات على خط بارليف الذى تصوره العدو معجزة فحولته فكرة من العقل المصرى إلى تراب يذوب تحت أقدام الرجال. تتوالى المشاهد من ذاكرة أكتوبر للجنود العائدين إلى مدنهم رافعين رايات النصر بعد ست سنوات من النار والدم، كان معدن الرجال العابرين للمستحيل أشد صلابة من النار وقدموا الدم فى سعادة ورضا لأجل ماهو أغلى من الدم.. حرية الأرض. تتوالى سنوات الاحتفال والتقدير لهذا النصر الفريد ونظن أننا نحتفل بنصر وحدث عسكرى مر عليه 46 عاما لكن أكتوبر أكثر عمقا وتأثيرا فى هذه الأمة الصامدة فأكتوبر ليس ماضياً مجيداً نستعيده بالاحتفال لكن أكتوبر فى حقيقته هو صانع الحاضر الذى نعيشه وهو بوصلة المستقبل الذى نرجوه. إحدى ثمار أكتوبر المجيد النصر العسكري يوم أن عبر الرجال المستحيل.. في لحظة العبور تلك كان هناك عبور أكثر عمقا يتحقق عندما عبر العقل المصري واجتاز قرونا من الظلام إلى الحداثة والنور. عبر الرجال وقهروا العدو بسلاح التخطيط وقدموا للأمة المصرية عقلا مستنيرا لا يعرف الخرافة قائماً على العلم مستوعبين في سنوات قلائل منجز العصر بكل تحدياته. لقد استعاد العقل المصري بهذا العبور هويته وقدرته على صناعة الحضارة هذه الصنعة التى يجيدها المصريون بإتقان شديد. لم تكن الجسور التى شيدها الرجال فوق المانع المائي الشرس فى ساعات قليلة تعبر فوقها معداتهم العسكرية بل كانت هذه الجسور تصلهم بماضي أجدادهم العريق.. هذا الماضى الذى شيده هؤلاء الأجداد بنظريات الهندسة ومنطق الرياضيات الذى أعجز العالم وجعله قابعا فى دهشته أمامه حتى الآن. جاء أحفاد بناة معجزة الأهرام بنصرهم العسكرى ليزيدوا العالم دهشة فوق دهشته ويؤكدوا بالعلم والتخطيط أنهم أحفاد من صمم وبنى هذه الصروح الإعجازية فوق أرضنا الطيبة. رغم الانتصار المعجز الذي تحقق وعبر بالأمة من الظلام إلى النور وأعاد لها كرامتها قبل 46 عاما.. إلا أن ما صنعه أكتوبر كان أكثر تأثيرا في مستقبلها عندما سلحها بعقل أكتوبر هذا العقل القائم على العلم والقادر بكل قوة على إدارة مستقبلها. تصور البعض أن صمت المدافع يعنى انتهاء الحرب.. لكن في اللحظة التي صمتت فيها المدافع بدأت حرب أكثر عنفا وخبثا ضد هذه الأمة لم تكن هذه الحرب ضد المنجز العسكري الذي تحقق وتجرع العدو من ورائه المرارة وقضى على غطرسته وأجبره على السلام.. شن العدو ومن وراءه وعملاؤهم حربهم على الانتصار الدائم على عقل أكتوبر الناقد الواعي القائم على العلم والحداثة. أدرك العدو وعملاؤه أن التاريخ سجل قوة الانتصار وأن هؤلاء الرجال صانعي الانتصار وكل من سيأتي بعدهم قادرون بما امتلكوه من خبرات قتالية وتخطيطية على تحقيق ألف انتصار مثل أكتوبر وأن الأرض لها من يحميها وهذا الوطن أصبح له درع وسيف وأن السلام قائم على العزة والقوة.. هذه حقائق استوعبها العدو صاغرا ذليلا مهزوما. التف العدو وعملاؤه في خبث مستهدفين في حربهم الصامتة هذا العقل الذي صنعه أكتوبر المجيد وكانت أولى ثماره السلام، هذا السلام الذي رضخ أمامه العدو متيقنا أن المواجهة المباشرة مع أبناء المؤسسة العسكرية المصرية صانعة النصر تعنى فناءه. حسمت قوة النيران والدم الغالي المبذول من الرجال حقيقة الانتصار.. وأطاحت فى قوة كآبة الماضي وأعطت الحاضر سلام العزة وسلحت المستقبل بعقل أكتوبر.. ومن نقطة المستقبل تلك أدرك العدو أن لا مستقبل له مادام هذا العقل الذي صنعه أكتوبر قادرا على المواجهة. يبقى العدو وإن اختلفت تفاصيله فالحرب الجديدة لا يلزمها منه الظهور الواضح فقد تعلم من الدرس القاسي.. وأيضا فإن هدف هذه الحرب ليس محدودا بجغرافية الأرض بل هدفها أكثر خطورة وهو تغييب عقل أكتوبر الذي يستطيع السيطرة على الجغرافيا والحفاظ على الأرض وتغيير التاريخ وفتح آفاق المستقبل بالعلم والتخطيط. اختبأ العدو خلف الستار وترك الساحة لعملائه ينطلقون فيها لينفذوا ما يريد.. علم العدو عملاءه فن التنكر.. أعطاهم لسانا يتحدث باسم الدين والدين منهم براء.. وضعوا على وجوههم الشريرة قناع التقوى الذي يخفى وراءه شراسة الفجور.. أقنعوا البعض أن أيديهم ممدودة بالخير ولكنها كانت تقطر سما وتتسلل في خبث لتخنق أنفاس الوطن. أعطى العدو للعملاء مهمة واحدة.. تغييب عقل أكتوبر.. انطلق العملاء ينفذون المهمة بنشاط وخسة محاولين حصار هذا العقل الجبار.. أشاعوا فى الوطن أجواء الخرافة ليقضوا على ثوابت العلم.. نشروا الوهم والزيف لينهوا مفهوم الحقيقة والمنطق.. ألقوا سموم جهلهم فى نهر الوعى ليسمموا قدرتنا على الإدراك. اندفعوا كأسراب الجراد يطاردون مقومات الحضارة من ثقافة وفنون وآداب باسم الحرام وسيف التحريم.. تسللوا إلى البيوت الآمنة ليحاولوا بالخديعة نزع المرأة المصرية قلب المجتمع ويحولوها إلى عورة لكى يعزلوها عن المشاركة فى بناء هذا المجتمع وتبقى خاضعة لأغراضهم المريضة. ظنوا أن بالخديعة وأباطيل الحرام يستطيعون حجب عظيمات الأمة من الصورة وأن بهذا الحجب يقوضون الرافد الأهم الذي يمد العقل المصري بمخزون الحكمة والوعي ومنه تطور عقل أكتوبر. يتمتع عملاء العدو بعمى البصر والبصيرة وأيضا لأنهم لا ينتمون لهذا الوطن فلم يروا النقوش على جدران المعابد ولم يستوعبوا حركة تاريخ هذا المجتمع الراقى إنسانيا، فالمرأة المصرية لا تحجب لأنها شريك أساسي فى صناعة هذه الحضارة الراسخة فى هذا الوادى منذ آلاف السنين. دارت رحى الحرب الخبيثة طوال أربعة عقود وفى كل يوم يشعر العدو بالثقة فى نجاح مخططه ويثنى على نشاط عملائه فى تنفيذ أوامره ويرى أن الغرض يتحقق على يد عملائه فى تغييب عقل أكتوبر وإحلال الخرافة والشعوذة والأباطيل فى رأس هذه الأمة. رقص العدو فرحا معتقدا أنه حقق غرضه بالكامل في تغييب عقل أكتوبر الذي أذله وسحق غروره عندما عاد له عملاؤه قبل سبع سنوات يلعقون حذائه حاملين فى أيديهم وهم السلطة لينبحوا أمام سيدهم فى إخلاص منتظرين مكافأتهم على تنفيذ مهمتهم الشريرة. لم يصدق العدو نفسه.. فالعدو كما عملاؤه غبي ولا ينتمي إلى هذه الأرض التي أنجبت الرجال صانعي عقل أكتوبر بحسابات العمر المديد لهذه الأمة.. كان تسلل العملاء إلى السلطة مجرد كسر من الثواني والشمس العفية التي تشرق على هذه الأرض من آلاف السنين أذابت في اللازمن وهم السلطة وبخرته وجرف عنفوان النيل أمامه أباطيل العملاء. أحرقت شمس يونيو ويوليو قبل ست سنوات عينى العدو وأفقدته وأفقدت عملاؤه توازنهم فى ساعات قليلة.. وسط ترنحه وتخبطه حاول العدو وعملاؤه استيعاب مايحدث وعلامات الاستفهام تحطم رأسه. وصلته الإجابة من الذي ظن أنه غيبه.. كان عقل أكتوبر القائم على العلم والتخطيط يلقنه الدرس القاسي من جديد ورجال القوات المسلحة الذين يحملون مقدرات عقل أكتوبر واستوعبوا حداثة وعلوم العصر في ضربة العبور الأولى يسخرون من غباء العدو وعملائه للمرة الثانية. يأتى أكتوبر من كل عام ولكنه ليس احتفالا بذكرى.. فالذكرى لمن مضى.. أما أكتوبر المجيد فهو حى وحاضر بيننا برجال المؤسسة التي صنعت وأعطت هذه الأمة عقل أكتوبر القائم على العلم والذى يتجدد فى كل يوم ولا يتوقف عن هذا التجدد ليواجه بحداثته ونوره الظلام الذى يحاول العدو وفلول العملاء عقب اندحارهم بثه بيننا. عندما ننظر الآن إلى ما يحاك حولنا من حرب تشكيك شرسة نرى أن العدو وعملاؤه يحاولون استعادة قدرتهم على الحشد مستخدمين أسلوبا جديدا قائماً على ترويج الأكاذيب عبر وسائط التكنولوجيا الحديثة محاولين هز ثقتنا في أنفسنا. تأتى هذه الشراسة فى الحرب وطوفان الحقد والغل لأن أكثر ما زلزل العدو وعملاءه خلال الفترة الماضية وأصابهم بالحسرة هو استعادتنا لعقل أكتوبر كسلاح رئيسى يدير مقدرات الأمة وانطلاقه بمنطق العلم وأساليب التخطيط المدروس لبناء الدولة المصرية الحديثة وانتشالها من ظلام الفقر والجهل والمرض. نعم يطلق العدو وعملاؤه فى كل يوم على منجزنا قذائف الأكاذيب والشائعات وضباب الخداع ليخرجنا عن طريق الحداثة والبناء والتقدم لكن كل محاولات العدو وعملائه ستفشل كما فشلت فى المعركة الأولى والثانية وسنحقق النصر لأننا نمتلك سلاحاً صنعناه بأيدينا.. صنعنا عقل أكتوبر القائم على العلم القادر على ردع العدو وبناء المستقبل.