بسبب الحروب تعرض الاقتصاد المصري لاستنزاف مستمر، حرب 48 وبعدها بثماني سنوات حرب 56، وبعدها بعشر حرب 67، وبعدها بست حرب 73، وبين 56 و67 حرب اليمن، وكانت نفقاتها مليون جنيه في اليوم الواحد. ملحوظة: كان الجنيه يساوى 2.3 دولارفى ذلك الوقت. بعد 67 كان الشعار المرفوع هو «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وظل المصريون يشدون الحزام، ويحرمون أنفسهم من كل شيء، لتوفير متطلبات المعركة. لم تكن هناك سلع ولا بضائع في الأسواق، «ولا مع الناس فلوس».. وكان أجر خريج الجامعة 17.5 جنيه، واعتمد الناس على نظام اسمه «الجمعية»، وسعيد الحظ من يقبضها في الأول، والميسور يقبل أن يكون الأخير. كان مستحيلا أن تستمر حالة اللاسلم واللاحرب أكثر من ست سنوات، في بلد لا ينام ولا يأكل ولا يشرب، ويوفر قوت يومه من أجل الحرب، واستعادة الكرامة والكبرياء. برزت عظمة الرئيس السادات، في تهيئة البلاد للحرب، بسياسة «الصدمات الكهربائية»، كل يوم مفاجأة من طرد الخبراء الروس، حتى الإفراج عن الطلاب المحبوسين وإعطاء الجنود والضباط إجازة، ثم فاجأ إسرائيل والعالم كله بالعبور العظيم، ولا تصدقوا أن أحدا كان يعلم، إلا كبار القادة الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة وواجهت مصر حربا أشد قسوة «الإفقار والتجويع»، وفرض حالة اللاسلم واللاحرب من جديد، ومحاولات بعض الدول الشقيقة والزعماء العرب الأشاوس خنق البلاد والتضييق على لقمة العيش. وكانت الصدمة الكبرى التي زلزلت كيان السادات، مظاهرات 18 و19 يناير 77، فالقائد المنتصر لا يستطيع تلبية متطلبات شعبه، وعند أول مبادرة لتحريك أسعار السلع وبداية إصلاحات اقتصادية، كادت القاهرة أن تحترق، وكان مستحيلا أن يمد هذا الوطن يديه، لمن يعايرونه بفقره. واختار السادات بلده وشعبه وأرضه، ومد يديه بسلام الشرفاء، صاحبه الانفتاح الاقتصادي، الذي أطلق عليه البعض «استهلاكي»، ولكنه كان ضروريا لتحريك البحيرة الراكدة والأسواق المتعطشة. العرب دفعوا لمصر، ولكن لا يقاس بالتضحيات، ولا بالزيادات الرهيبة في أسعار البترول، بسبب الحروب التي خاضتها من أجل قضيتهم الكبرى فلسطين، وضخت في عروق الدول البترولية مليارات ساخنة، تحققت بها الطفرة الاقتصادية الهائلة في تلك الدول. لم يكن أمام مصر إلا «ما حك جلدك غير ظفرك»، ولا يمكن أن ترهن مصير وطن وشعبه على «مزاجية» حكام عرب، يختلفون أكثر مما يتفقون، وإذا اتفقوا لا يدوم شهر العسل أياما. لنقفز إلى 2011 وحدث الأسوأ، ولم يكن في وسع أي دولة في العالم أن تعيش، بينما جزء من شعبها يحرق ويقتل ويتظاهر ويحتج، وتتحكم في مصيره جماعة إرهابية، وتحيطه المؤامرات من كل صنف ولون. ولكن لأنها مصر.. صمدت وتحدت المستحيل، ولا تجد الآن سلعة ولا منتجا ناقصا في الأسواق، إلا ظروف الغلاء التي تؤلم بعض الفئات، وتبذل الدولة جهودها لعلاج الآثار السلبية للإصلاحات، التي تأخرت منذ حرب 67.