"فتنة التأويل: المتنبي من النص إلى الخطاب".. ذلك هو الكتاب الأخير للناقد المصري د. عبد الرحمن عبد السلام محمود، الأستاذ بكلية الألسن جامعة عين شمس، والفائز بجائزة عبد العزيز سعود البابطين العالمية في نقد الشعر دورة 2017م.. وهو الكتاب الذي كانت "بوابة أخبار اليوم" أول من نبهت إلى أهميته وكتبت عنه. وللمؤلف العديد من الكتابات أكثرها في مجال نقد الشعر العربي؛ منها: فلسفة الموت والميلاد – دراسة في شعر السياب، الحداثة التموزية: دراسة موضوعية بنيوية في شعر أدونيس والسياب وخليل حاوي، السرد الشعري وشعرية ما بعد الحداثة- دراسة في (مهمل) علاء عبد الهادي، البحث في الجوهر- قراءة موضوعية في القصيدة القومية في شعر مانع سعيد العتيبة، السردية والمقالية– طه حسن أنموذجاً.. "بوابة أخبار اليوم" أجرت مع المؤلف هذا الحديث الثقافي: * يعتقد البعض أن المتنبي هو الشاعر الأوفر حظاً في العربية لتعدد الدراسات عنه في كل العصور.. ألا تعتقد أن النقاد أغفلوا شعراء آخرين كانوا حقيقين بالدراسة؟ - لا شك أن أبا الطيب المتنبي هو شاعر العربية الأكبر؛ من حيث إمكانه الجمالي على تلخيص ما قبله من ميراثنا الأدبي عامةً والشعري خاصةً، والتأسيس لما بعده من مسير الشعر العربي في تعاريجه وحناياه وصولاً إلى هذه اللحظة المعقدة بإشكالياتها وثرائها. ولعله لا يعتري أي متابع صادق لحركتي الشعر والنقد العربيين، أدنى ريب في المكانة السامقة التي حازها أبو الطيب عن جدارة واستحقاق كبيرين؛ فاستأثر بجل الممارسات النقدية الجادة التي أُنجزت عن الشعر العربي من دون انقطاعٍ تقريباً مع سيرورة التاريخ النقدي العربي في آفاقه المترامية رأسياً وأفقياً. غير أن النصفة التي تمليها أمانة العلم، تؤكد باليقين عينه أن عبقريات شعرية متألقة ومتوهجةً في تعاريج الشعر العربي كانت جديرةً بمزيد من البحث والتقصي في مكنون تجاربها التي تُفعم بالثراء والخصوبة الجماليتين والمعرفيتين من أمثال: أبي فراس الحمداني، ابن الرومي، أبي تمام، البحتري، مسلم بن الوليد، بشار بن برد...وغيرهم الكثير. غير أن الألق الذي أنجزه المتنبي وخطط له بعناية فائقةٍ هو ما ضمن له الديمومة، وحقق الجاذبية الباذخة في فتنتها وفي الغواية به حتى ملأ الدنيا وشغل الناس على حد قول ابن رشيق الشهير. * هل كنت تتوقع أن يحصل الكتاب على الجائزة؟ - أصدقك القول وأصدق القراء الكرام، أنني كتبتُ هذا الكتاب مُبرَّأً من كل غايةٍ ذرائعية أو نفعية، وإنما كانت الهمة صادقةً في تقديم أنموذج عميق في فلسفته وإجراءاته منهجيا للتعامل مع النص الشعري تأويلياً بعيداً عن الفبركات والفهلوة النقدية والنقل والمسخ عن التجارب النقدية الغربية في فجاجة وإسراف. وقد تبين لي بعد عدة مناقشات عُقدت حول الكتاب أنه مائز في تجربته، وأنه يمثل إضافة حقيقية في حركة النقد العربي الأصيلة. من هذه الحافة ومن تشجيع المخلصين من النقاد الأصدقاء، قررت أن أتقدم بالكتاب للجائزة آملاً في الله تعالى التوفيق، وقد كان والحمد لله. * في الوقت الذي تطغى فيه الأعمال السردية على الساحة الإبداعية، يحصل كتاب في نقد الشعر على جائزة مهمة! ما قيمة ذلك؟ - لعله صحيح إلى عتبات عليا، القول بالزخم السردي إبداعاً ونقداً في الساحة الأدبية عربياً، لكن الأمر في جائزة البابطين يتأسس على معطى مختلف من حافتين: الأولى: إن الجائزة مختصة في الشعر وحده إبداعاً ونقداً من دون غيره من الأجناس الأدبية الأخرى؛ تماشياً مع رؤية مؤسسة البابطين ورسالتها السامية في الارتقاء بالشعر العربي والوصول به إلى مصاف العالمية جمالياً ومعرفياً، والوصول به كذلك إلى الذائقة الجمعية العربية في عمومها وانتشارها في المجموع العربي من محيطه إلى خليجه. الثانية: شأن يتعلق بالإضافة الحقيقية والأصيلة التي يقدمها الكتاب إلى المسير النقدي العربي؛ في تأطير منهجية نقدية ذات امتياز فلسفي وإجرائي في التعامل مع النص الشعري برغم كل ما كُتب عن المتنبي، والتأويل، والنص والخطاب. وهو حشد من الحياوات النقدية الجبارة التي خاضت في كل أمرٍ تقريباً متوهمةً أنها أتت على كل شيء غير تاركةٍ شاردة أو واردة من تلكم الشؤون كاملة. في هذه اللحظة، وفي ذلك الأفق النقدي، استطاع كتاب:" فتنة التأويل- المتنبي من النص إلى الخطاب" أن يقدم ممارسةً نقديةً لها نكهتها الخاصة وتفردها المائز؛ وهو ما أهَّل الكتاب للفوز بالجائزة. * يؤكد قراء الكتاب أن لغته مزجت بين الأصالة والمعاصرة .. ما مدى تحقق ذلك في رأيك؟ - ثمة قناعة كبيرة لديَّ بأهمية اللغة في الإبداع النقدي إزاء الإبداع الشعري أو الأدبي بصفة عامة. من هذه الحافة تحديداً لا أوافق أصحاب "النظرية الحجرية" أي تلك المقولة المهيمنة التي تدعو إلى رصد مفردات اللغة النقدية وكأنها حجارة مرصوصة بعضها بجوار بعض!!! هذه الجفوة اللغوية التي تشي بالعلمية والموضوعية اللتين قد تكونان غير صحيحتين أو غير صائبتين، أنا لا أقرهما من حيث هوية الممارسة اللغوية النقدية وإن وافقتهما مبدئياً. من هنا أرى أن اللغة النقدية في حد ذاتها مقدرة ومهارة، وهي إبداع موازٍ يعانق إبداع النص الذي يتم الاشتغال عليه نقدياً؛ بحيث يشكل النقد إضافةً إمتاعيةً تعمق من الإمتاع الشعري ذاته وتجعل التجربة الأدبية إبداعاً ونقداً ملتحمةً ومتضافرةً عبر تساندها اللغوي في المستويين معاً. من حافة ثانية، فإن النص هو ما يملي مدخله ويتطلب لغته، وبخاصة إذا كان نصاً تراثياً يُعالج نقدياً برؤية حديثة. هنا تلتئم الأصالة والمعاصرة، أو التراث والحداثة على نحو مقصود قصداً توخى العمد والإصرار كما هو كائن في ثنايا كتابنا المشار إليه سلفاً. * ما أهم الأعمال التي تسعى إلى تحقيقها الآن؟ - أخطط الآن لإنجاز عمل نقدي عميق يتعلق بماهية العقل السلطوي العربي وبهويته؛ في كيفية فهمه للأشياء والمواقف، وتصوره لها، والحكم عليها في ضوء مقولة الحقيقة والتباسها بالمصلحة الشخصية أو المذهبية أو الطائفية؛ في ضوء جدلية النص والمعنى؛ راجياً من الله تعالى التوفيق والإخلاص. * ألا ترى أن النقد الآن يحمل روحاً غير عربية تتلبس في جسد عربي؟ - هذا سؤال مهم وجوهري يلزمني شكرك عليه؛ نظراً لمحوريته في نقد المسير النقدي العربي في اللحظة الراهنة. إن مما يؤسف له أن كثيراً من الممارسات النقدية العربية الحداثية وقعت في غواية الآخر الغربي وفتنة النقل عنه والمسخ سراً وعلانيةً من دون إتاحة الفرصة لأصالة الذات العربية الناقدة لتمارس وهجها وتؤطر هويتها المائزة في الحركة النقدية الأدبية عالمياً. لقد اكتفى الكثيرون بجاذبية المباهاة بالأوربة أو الغربنة والوقوع في غوايتهما والنقل عنهما غير آبهين بالخصوصية النصية العربية ولا بالذائقة الجمعية التي تأسست على ميراث عميق من المعرفة العربية في أبعادها الماضوية والتاريخية. وإزاء هذه المفارقة الفجة، تعمقت أزمة النقد العربي في استرفاد منتج نبت في غير أرضه، ثم جعل يتكئ عليه في كسل وجمود غير مكترث بمسؤولية الإضافة والخلق وتعبيد السبل لهوية نقدية عربية ذات أصالة وامتياز حقيقيين. إن أسوأ ما في هذا الأمر، هو الكشف العميق عن اهتزاز الثقة النقدية العربية في ذاتها، وأنها قدمت نفسها للآخر على "بياض" ليقودها حيث شاء من دون مساجلة أو تحدٍ وندية وخصوصية. على أن الذي ألقينا به سالفاً لا يمنع القول بحقيقة المنجزات النقدية العربية الأصيلة التي لا تخطئها عين منصف أريب في هذا الشأن. ولقد أشرت في كتابي فتنة التأويل إلى هذا المشكل دون تهويل أو تقليل لعلنا نفتح الآفاق ونعبد السبل إلى الجرأة النقدية العربية في امتياز هويتها وفرادة تجريبها.