صراعات التاريخ ليست مشكلات نفسية، وقد واجهت الأمة «حروب الفرنجة» المعروفة غربيا باسم «الحروب الصليبية»، وجرى احتلال فلسطين وسواها من مناطق بالشام، وأقيمت ممالك الصلبان، واستسلم لها من استسلم، وعقدت معاهدات صلح ذهبت مع الريح، ودخلت مصر بالطبيعة فى حروب ضارية ضد هذه الظاهرة الاستعمارية الغازية، كان أظهرها حروب صلاح الدين الأيوبى التى انطلقت من القاهرة لتحرير القدس، ولم تكن آخرها حملة لويس التاسع التى هزمت فى «فارسكور»، وظلت دار «ابن لقمان» فى المنصورة شاهدا باقيا على نصر الأمة المبين، وظل الدرس نفسه قائما على توالى القرون، وإلى أن حلت حروب الصهيونية وإسرائيل محل الحروب الصليبية القديمة. وللرئيس السيسى أن يقول ما يحب، وعلى طريقة النداء الذى أطلقه فى أسيوط، والذى لم يكن له من أثر ولا شبه أثر فى موازين القوى الحاكمة للصراع اليوم داخل فلسطينالمحتلة، فقد رحب رئيس وزراء العدو الإسرائيلى بنيامين نتنياهو بلغة السيسى الودية، ودون أن يتغير شيء من سلوكه العملى، بل اندفع إلى موقف أكثر تشددا وتعنتا تجاه الفلسطينيين، بل وضد مصر نفسها، وأقدم على التحالف الحكومى مع أفيجدور ليبرمان زعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، وعينه وزيرا للحرب، مع علمه بالطبع بحقيقة ليبرمان، وكون الأخير راغبا فى إفناء الفلسطينيين فى القدس والضفة الغربية، وحرق غزة بالكامل، بل و»قصف السد العالى لإغراق مصر» بحسب تصريحات شهيرة للإرهابى ليبرمان، وهكذا صب نتنياهو الزيت على النار فى الحرب الجارية ضد الفلسطينيين، وصب دشا باردا على رأس ما تسمى مبادرات السلام، والتى رغب الرئيس السيسى فى تجديدها، وذكر بالمرحومة «مبادرة السلام العربية» التى شبعت موتا، وبالمبادرة الفرنسية الموءودة قبل أن تولد مراسمها فى أوائل يونيو المقبل، والتى لا تعدو كونها مبادرة علاقات عامة بائسة، ومحفل نقاش مجانى لعدد من وزراء الخارجية فى العاصمة الفرنسية باريس، وطلبا بعقد قمة لاحقة، تأمل فرنسا أن يشارك بها نتنياهو تعطفا، بينما الجواب ظاهر من عنوانه، ونتنياهو أعلن بصراحة عن رفضه لدور فرنسى فى أى تسوية إسرائيلية فلسطينية مقترحة، ولا مانع عنده من تفاوض يجرى لمجرد التفاوض، وعلى طريقة ما جرى فلسطينيا عبر ثلاثة عقود مضت، ولمجرد كسب وقت إضافى، تترسخ فيه قواعد استيطان الضفة الغربية والتهويد الشامل للقدس، فضلا عن كسب «الجولان» التى أعلن ضمها نهائيا لإسرائيل وللأبد. القصة إذن أكبر من نداءات تطلق من خلف ميكروفونات، وأكبر من معاهدات الصلح التى عقدت مع مصر والأردن، ففلسطين هى جوهر الصراع المتصل لسبعة عقود إلى الآن، وسوف يتصل إلى عقود أخرى مقبلة، وإلى أن تستقر النجوم فى مداراتها الأصلية، ويعود الحق كاملا لأصحابه الحقيقيين، فليست القصة فى عباس ولا فى «فتح» و»حماس»، وكلها عناوين موقوتة على مرحلة تمضى، لن تنتهى قريبا إلى إقامة دويلة فلسطينية بعاصمة فى القدس، تكون منزوعة السلاح كما يخطط المبادرون ضمانا لأمن إسرائيل، وهى الصيغة الهزيلة التى تتمنع إسرائيل حتى عن قبول النقاش فيها، مادامت تعتقد أن موازين القوة العسكرية لصالحها، وأن بوسعها أن تملى ما تريد على الفلسطينيين، وأن تواصل سيرة قهر الشعب الفلسطينى، وهى معركة كبرى لن تنتهى الآن، ولا فى الغد القريب، فحتى الدويلة الفلسطينية المقترحة، وبافتراض أنها أقيمت، ولقيت قبولا ما من إسرائيل فى مرحلة معينة، بافتراض أن ذلك ممكن، فإنه لن ينتهى بالصراع إلى شاطئ ختام، فلن يتنازل الشعب الفلسطينى أبدا عن حقه فى العودة إلى أرضه المحتلة، فى نكبة 1948، ثم أن عدد الفلسطينيين على أرضهم الآن أكبر من عدد اليهود فى فلسطينالمحتلة، وسوف تصبح لهم الأغلبية العددية الساحقة فى عقود قليلة مقبلة، وهو ما يعنى اتصال الصراع بطرق السلاح والسياسة القديمة والمستجدة، وإلى أن تكتب النهاية المستحقة لكيان العدوانية والاغتصاب الإسرائيلى. ماذا يعنى ذلك كله؟، يعنى أن الكلام «الحنجورى» عن السلام الموهوم مجرد «طق حنك» و»مضغة لبان»، ولا ينطوى على أى فائدة محققة ولا محتملة لا للعرب ولا للفلسطينيين، ولا لمصر بالذات، فقد خاضت مصر حروبا دفاعية ضد كيان الاغتصاب الإسرائيلى، ثم توقفت الحروب النظامية قبل أكثر من أربعين سنة، وعقد السادات ما يسمى معاهدة السلام، والتى قد تكون سمحت بعودة إسمية لسيناء إلى مصر، لكن العودة الفعلية لسيناء لم تتحقق سوى باختراق قيود المعاهدة، وإعادة نشر الجيش المصرى فى كل سيناء حتى حدودنا التاريخية مع فلسطينالمحتلة، وقد كانت سيناء بمقتضى المعاهدة منزوعة السلاح فى غالب أرضها، وكانت مصر محرومة من تواجد جيشها فى المنطقتين «ب» و»ج» بالذات، وهو ما تغير كليا الآن، وكان هدفا وطنيا تحقق، وبات بديهيا أن قواتنا لن تترك مواقعها المتقدمة المسيطرة الحاكمة فى كل سيناء بعد الآن، ولن تعود أبدا إلى الخطوط الخلفية التى كانت مفروضة بمقتضى المعاهدة، وهو ما يعنى أن مصر تكسب بتفكيك قيود المعاهدة، وليس بثبات شروطها على ما كانت عليه، أضف إلى ذلك سعى مصر إلى إنشاء حلف عسكرى وقوة عربية مشتركة، وهو ما لا تسمح به شروط المعاهدة الملزمة لمصر بأولوية الاتفاق مع إسرائيل على أى تعاقد إقليمى أو دولى آخر، أى أن الحلف العربى تفكيك آخر لقيود المعاهدة المشئومة، وهذه كلها تطورات إيجابية تضاف لرصيد الرئيس السيسى، لا نريد له أن يخصم منها بإطلاق مبادرات لا جدوى منها، اللهم إلا أن تستفيد بها إسرائيل، وتطلب كما حدث زيارة نتنياهو إلى القاهرة ولقاء الرئيس السيسى، وتلويث هواء مصر وشرفها باستئناف التطبيع السياسى والاقتصادى واتفاقات الغاز مجددا، وهو ما يرفضه الشعب المصرى وقواه الوطنية الحية بالجملة.