تعيش إسبانيا هذه الأيام مأزقا حقيقيا بعد فشل رئيس الحكومة المنتهية ولايته ماريانو راخوي في تشكيل تحالف لتكوين حكومة ائتلافية ، بعد نتائج الانتخابات التشريعية الأسبوع الماضي التي أفرزت مشهدا سياسيا غير مسبوق ، ووضعت حدا للثنائية الحزبية التي هيمنت على الحياة السياسية الإسبانية طوال الثلاثة عقود الماضية. وفشل راخوي في الحفاظ على الأغلبية المطلقة للحزب الشعبي في مجلس النواب ، بعد حصوله على 123 مقعدا فقط من أصل 350 مقعدا خلال الانتخابات التي أجريت في 20 ديسمبر الجاري ، بينما جاء الحزب الاشتراكي العمالي في المركز الثاني بحصوله على 90 مقعدا ، وحل ثالثا حزب بوديموس الذي يمثل اليسار المتشدد ، بحصوله على 69 مقعدا ، بينما حصل حزب سيودادانوس الليبرالي على المركز الرابع بفوزه ب 40 مقعدا. ولم ينجح راخوي في الاتفاق مع الأحزاب الأخرى على تشكيل حكومة ائتلافية حيث رفضت جميعها التعاون مع الحزب الشعبي المحافظ في الوقت الذي لم يعد بإمكان أي حزب منفردا تشكيل حكومة. وفي ضوء هذا المشهد المعقد ، يفترض أن يشهد الشهر المقبل تصويتا على إمكانية بقاء راخوي على رأس الحكومة ، وهو يحتاج إلى دعم أكثر من نصف النواب ليبقى في منصبه ، وفي حال عدم حصوله على هذا العدد يجري تصويتا ثانيا بعد 48 ساعة ، وفي هذه الحالة يجب أن يكون عدد النواب المؤيدين له أكبر من عدد المعارضين ، أما في حالة عدم الاتفاق على تشكيل الحكومة واختيار رئيس لها خلال شهرين سيقوم الملك فيليب السادس بالدعوة إلى انتخابات جديدة. ويتفق المراقبون على أن تاريخ 20 ديسمبر يمكن اعتباره تاريخا فارقا في مسار الحياة السياسية الإسبانية ، فقبل هذا التاريخ كان المواطنون الإسبان يركزون اختياراتهم الانتخابية بين معسكرين فقط ، المعسكر اليميني المحافظ والمعسكر الاشتراكي ، فمثلا في الفترة من 1978 حتى 1982 كان السباق ينحصر بين حزب اتحاد الوسط الديمقراطي ، الذي يمثل يمين الوسط ، وبين الحزب الاشتراكي العمالي. أما في الفترة من 1982 حتى 2011 فقد انحصر السباق الانتخابي بين الحزب الشعبي ، الذي حل محل اتحاد الوسط الديمقراطي في معسكر اليمين ، والحزب الاشتراكي أيضا ، وفي جميع الأحوال كانت نتائج الانتخابات إما تثمر عن فوز حزب الأغلبية وإعادة انتخابه أو أن يتم التصويت ضده تصويتا عقابيا ليحل محله الحزب المعارض. أما انتخابات 20 ديسمبر فقد قرر الإسبان من خلالها تغيير قواعد اللعبة ، حيث تم عقاب الحزب الشعبي الحاكم بخسارته 63 مقعدا في مجلس النواب ، في الوقت الذي لم يسمح فيه للحزب الاشتراكي أن يحل محل منافسه اليميني ويفوز برئاسة البرلمان. والسبب في ذلك يرجع إلى تغيير الخريطة السياسية الإسبانية لأول مرة منذ ثلاثة عقود ، فقد نجحت أحزاب جديدة في تخطي عتبة البرلمان وبرزت بقوة لتنافس الأحزاب التقليدية وتهدد مكانتها ، وهو ما اعتبر نقطة تحول في تاريخ الحياة السياسية الإسبانية لتنهي القطبية الثنائية التي هيمنت على البلاد منذ سبعينات القرن الماضي. ويرجع المراقبون هذا التغيير في تصويت الناخبين إلى الأوضاع المتردية التي تشهدها البلاد تحت حكم أي من الحزبين الرئيسيين ، فقد عاني المواطنون كثيرا من تداعيات الأزمة الاقتصادية وسياسة التقشف التي تبنتها حكومة ثاباتيرو الاشتراكية ، واتبعها أيضا راخوي المحافظ والذي يعتبر رئيس الحكومة الأقل شعبية في التاريخ الحديث للبلاد. وعلى مدار السنوات القليلة الماضية لم تنجح أي حكومة في إنهاء أزمة معدلات البطالة المتزايدة والتي تعد ثاني أعلى معدل بطالة في الاتحاد الأوروبي بعد اليونان ، وتبلغ نسبتها 22.8% وذلك على الرغم من خروج أعداد كبيرة من المهاجرين من أميركا اللاتينية وهجرة ملايين الشباب الإسبان ذوي الكفاءة العالية. تفاقم الأزمات وتعقد المشهد السياسي على النحو السابق يضعان إسبانيا في مأزق حقيقي وغير مسبوق ، وفي ضوء ذلك يرى المراقبون أن التحدي الحقيقي يكمن في قدرة النخب الإسبانية على إدارة مفاوضات صعبة ومعقدة بعدما اعتادوا على سيناريو القطبية الثنائية والأغلبية المريحة لأكثر من ثلاثين عاما ، وفي ظل الاختلافات الحادة بين الأحزاب الأربعة الكبرى حول العديد من القضايا ، من ضمنها قضايا استفتاء كاتالونيا ، وإصلاح الجهاز القضائي ، وتعديل النظام الانتخابي ، فإنه من المستبعد الاتفاق على تشكيل حكومة منسجمة سواء بقيادة اليمين الشعبي أو الحزب الاشتراكي العمالي. وبناء على ماسبق فإن السيناريوهات التي يطرحها المراقبون لحل أزمة تشكيل الحكومة الإسبانية تتمحور حول سيناريوهين. الأول هو تشكيل حكومة انقاد وطني بين الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي ، لقطع الطريق أمام إمكانية تشكيل حكومة ائتلافية ضعيفة غير قادرة على مواصلة الإصلاحات الاقتصادية وتهديد كاتالونيا بالانفصال ، وهذا السيناريو يفضله الحزب الشعبي وبعض قيادات الحزب الاشتراكي. أما السيناريو الثاني فهو يتمثل في الدعوة إلى انتخابات جديدة ، وهو السيناريو الذي لا يحبذه الحزب الاشتراكي والأحزاب الصاعدة خوفا من تراجع الناخب الإسباني وعزوفه عن المشاركة مما يصب في مصلحة اليمين الشعبي.