وزارة الاستثمار تعلن حظر استيراد السكر المكرر للاتجار لمدة 3 أشهر    تباين الأسهم العالمية بعد تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي على إنهاء إغلاق الحكومة الأمريكية    بيسكوف: نطوّر علاقاتنا مع سوريا بغض النظر عن تقاربها مع واشنطن    محمد صلاح ينضم لمعسكر منتخب مصر في الإمارات    مصرع فتاة إثر سقوطها من الطابق ال13 بمنطقة الفلكي في الإسكندرية    كشف ملابسات استغلال شخص لنجله من ذوى الهمم في استجداء المارة بالإسماعيلية    رئيس مياه القناة يتفقد انتظام سير العمل بالمحطات وشبكات صرف الأمطار    «العمل» تستجيب لاستغاثة فتاة من ذوي همم وتوفر لها وظيفة    روبيو: تعليق العقوبات المفروضة على سوريا بموجب قانون قيصر    وزير الخارجية: نأمل التوصل لصياغات توافقية دون المساس بالثوابت الفلسطينية    «رحل الجسد وبقي الأثر».. 21 عامًا على رحيل ياسر عرفات (بروفايل)    مُسن يبلغ ال 90 عاماً يُدلي بصوته في ثاني أيام انتخابات النواب 2025    موقف أحمد عبد الرؤوف من الاستمرار مع الزمالك    ستاد القاهرة يستضيف ودية منتخب مصر الثاني أمام الجزائر    «أنا مش العقلية دي».. ياسر إبراهيم يرفض الاعتراض على قرار حسام حسن    المرأة تقود دفة المشهد الانتخابي بدائرتي الخارجة والداخلة    «الزراعة»: تحليل أكثر من 18 ألف عينة غذائية خلال أكتوبر الماضي    حالة الطقس في الكويت اليوم الثلاثاء    إصابة 16 في حادث إنقلاب ميكروباص بطريق أسيوط الغربي بالفيوم    قرار قضائي ضد نجل عبد المنعم أبو الفتوح في اتهامه ب«نشر أخبار كاذبة» (تفاصيل)    إغلاق مستشفى بمدينة نصر لمخالفة اشتراطات الترخيص    إغماء شيماء سعيد زوجة إسماعيل الليثي في جنازته ب إمبامبة    جائزة أفضل فيلم روائي طويل لفيلم ملكة القطن بمهرجان سالونيك السينمائي    القومي لثقافة الطفل يعلن عن البوستر الرسمي لملتقى الأراجوز والعرائس التقليدية السابع    «العشم واخدهم».. 5 أبراج تتعلق بسرعة وتصاب بخيبة أمل بسهولة    رحلات تعليمية وسياحية لطلاب المدارس بالشرقية    عطور الماضي تلتقي بالفنون المعاصرة في ختام مهرجان قصر المنيل    «الصحة» تكشف النتائج الاستراتيجية للنسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للسكان    غزة على رأس طاولة قمة الاتحاد الأوروبى وسيلاك.. دعوات لسلام شامل فى القطاع وتأكيد ضرورة تسهيل المساعدات الإنسانية.. إدانة جماعية للتصعيد العسكرى الإسرائيلى فى الضفة الغربية.. والأرجنتين تثير الانقسام    محافظ قنا وفريق البنك الدولي يتفقدون الحرف اليدوية وتكتل الفركة بمدينة نقادة    طن عز الآن.. سعر الحديد اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 أرض المصنع والسوق    انتخابات مجلس النواب 2025.. توافد السيدات والفتيات على لجان الاقتراع بالمنيا    هيئة محامي دارفور تتهم الدعم السريع بارتكاب مذابح في مدينة الفاشر    أوباميكانو يثير الجدل حول مستقبله مع البايرن    مراسل إكسترا نيوز ينقل كواليس عملية التصويت فى مرسى مطروح.. فيديو    «الشرقية» تتصدر.. إقبال كبير من محافظات الوجه البحري على زيارة المتحف المصري الكبير    الأوراق المطلوبة للتصويت فى انتخابات مجلس النواب 2025    بنسبة استجابة 100%.. الصحة تعلن استقبال 5064 مكالمة خلال أكتوبر عبر الخط الساخن    تحرير 110 مخالفات للمحال غير الملتزمة بقرار الغلق لترشيد الكهرباء    تأكيد مقتل 18 شخصا في الفلبين جراء الإعصار فونج - وونج    تحديد ملعب مباراة الجيش الملكي والأهلي في دوري أبطال أفريقيا    بعد تعديلات الكاف.. تعرف على مواعيد مباريات المصري في الكونفدرالية    حسام البدري يفوز بجائزة افضل مدرب في ليبيا بعد نجاحاته الكبيرة مع أهلي طرابلس    وزير الصحة يبحث مع نظيره الهندي تبادل الخبرات في صناعة الأدوية وتوسيع الاستثمارات الطبية المصرية - الهندية    بسبب أحد المرشحين.. إيقاف لجنة فرعية في أبو النمرس لدقائق لتنظيم الناخبين    معلومات الوزراء: تحقيق هدف صافى الانبعاثات الصفرية يتطلب استثمارًا سنويًا 3.5 تريليون دولار    "طلاب ومعلمون وقادة" في مسيرة "تعليم الإسكندرية" لحث المواطنين على المشاركة في انتخابات النواب 2025    الصحة: الخط الساخن 105 يستقبل 5064 مكالمة خلال أكتوبر 2025 بنسبة استجابة 100%    بينهم أجانب.. مصرع وإصابة 38 شخصا في حادث تصادم بطريق رأس غارب    هدوء نسبي في الساعات الأولى من اليوم الثاني لانتخابات مجلس النواب 2025    مجلس الشيوخ الأمريكي يقر تشريعًا لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد (تفاصيل)    انتخابات مجلس النواب.. تصويت كبار السن «الأبرز» فى غرب الدلتا    في ثاني أيام انتخابات مجلس نواب 2025.. تعرف على أسعار الذهب اليوم الثلاثاء    هل يظل مؤخر الصداق حقًا للمرأة بعد سنوات طويلة؟.. أمينة الفتوى تجيب    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    انطلاق اختبارات مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن بكفر الشيخ    ما حكم المشاركة في الانتخابات؟.. أمين الفتوى يجيب    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
رسائل تبللها الدموع .. !

»‬كانت الدمعة في عينيك ترعبني يا بني.. كنت أحسبها دمعة من السماء! »
عندما يقترب يوم 7 مارس موعد ذكري رحيل أبي الكاتب والمفكر محمد زكي عبد القادر أحس بالحنين إلي الماضي البعيد.. ويذهب بي الخاطر إلي أيام طفولتي.. فأعود إلي أوراقي القديمة وأبحث بينها عن ذكرياتي العزيزة.. حتي أعثر علي الرسائل التي كنت أتلقاها من أبي وأنا ما أزال في السنة الأولي بمدرسة الزقازيق الثانوية.
فقد شاء القدر أن يفرق بيننا فترة من الزمن.. كان ذلك بعد أن فقدت أمي, وأنا لا أزال طفلاً لم أتجاوز الخامسة من عمري.. كان هو يعيش وحيداً في العاصمة الكبيرة.. وأنا أعيش مع جدي في قريتنا الصغيرة.. وكان جدي يعطيني فيضًا من حنانه وحبه, عوضني كثيراً عن فقدان أمي.. وأنساني ما كان يختلج في صدري الصغير من أحزان.. وكنت أحياناً أنساها وأنا غارق في اللهو, واللعب مع أقراني.. ولكنني عندما آوي إلي فراشي في المساء, وانفرد بنفسي, أشعر بالوحدة.. وبحاجتي الشديدة إلي صدر دافئ حنون أسند إليه رأسي.. وأحس أن هناك شيئاً عزيزاً أفتقده فتصعد الدموع إلي عيني.. وأظل مسهَّداً في فراشي أبكي.. حتي يغافلني النوم.
المبادئ.. والقيم
وبعد أن صرت صبياً, ووعيت الكثير من أمور الحياة.. عرفت لماذا تركني أبي في رعاية جدي.. ولم يدعني أعيش معه في القاهرة.. فقد كان – وقت ذاك – شاباً حديث التخرج في الجامعة, يصنع مستقبله, الذي هو مستقبلي.. ولو كنت بقيت في حضانته لأقلقت راحته, وجلبت له المتاعب والأحزان, وذكرته في كل لحظة بتلك المأساة التي داهمته وهو مازال يطرق أبواب الحياة.
كان والدي إنساناً عاطفياً.. رغم أنه كان يبدو – أمام الناس- غير ذلك.. وكثيراً ما كنت أراه وأنا طفل صغير, جالساً إلي فراشي والدموع في عينيه.. وعندما أساله: لماذا تبكي يا أبي.. يسرع إلي تجفيف دموعه.. ويطلق ضحكة مصطنعة, وهو يقول: أنا لا أبكي يا بني, ألا تراني أضحك!
وكنت – خلال تلك الفترة التي قضيتها في الريف – أتلقي من أبي بين الحين والآخر تلك الرسائل التي يعبر فيها عن عواطفه نحوي.. ويودعها الكثير من النصائح التي كانت تضيء لي الطريق.. وتفتح أمامي أبواب الأمل والحياة.. وتمنحني الشجاعة والصلابة.. وتغرس في نفسي المبادئ والمثل.
كانت رسائله تؤنس وحدتي.. وتملأ عليّ حياتي وغربتي.. وتعوضني – ولو قليلاً – عن بعده عني.. واحتياجي لقربه.. فهي قطعة منه.. وجزء من مشاعره.. وخلجات نفسه ونبع من عطفه وحنانه..
ورغم أن عقلي الصغير كان يتعثر أحياناً في استيعاب بعض ما تحمله هذه الرسائل من معان, إلا أن كل كلمة فيها كانت تثير في نفسي الشجون.. وفي عيني الدموع.. وكنت أحس – وأنا أتابع قراءتها – بكلماتها وعباراتها وهي تحرك في كياني كل ذرة.. وتهز في نفسي كل شعرة!!
وقد رأيت ألا أحجب تلك الرسائل.. بل أسعي إلي نشرها فلعل شبابنا يجدون بين سطورها من العبرة والموعظة ما يفيدهم في حياتهم, وينير لهم طريق المستقبل, ويملاً نفوسهم بالخير والحب.
خواطر .. وخلجات
ابني العزيز
هذه الرسائل التي أبعث بها إليك بين الحين والحين لست أرجو فيها أن أضايقك أو أرسم لك دائرة لا تتعداها, أو أضع لك خطة لابد أن تسير عليها.. فقد تكون الخطة التي يوحي بها إليك عقلك خيراً مما أرسم لك.. ولكن خذها كأنها خواطر أو خلجات نفس تحبك أعمق الحب.. قد تفيدك إذا تأملتها ولكنني لا أفرض ما فيها من رأي أو توجيه.. فلست أحب أن تكون صدي لي ولا أن تكون ظلاً.. لا أحب أن تخرج صورة مني.. ولكني أحب أن تكون لك شخصيتك ويكون لك تفكيرك.. حتي إذا كبرت يا بني وبلغت مبلغ الشباب وأعدت تلاوتها قد تنكر منها أشياء.. وقد تقر أشياء.. فإذا بلغت مبلغ الرجولة وقرأتها مرة أخري قد تنكرها جميعاً وقد تقرها جميعاً.. ولكنك لن تخطئ فيها فيض الحرارة التي أوحت بها.
وقد كتبت عنك قبل الآن ولكنك كنت طفلاً لا تقرأ.. وأنت اليوم تستطيع أن تقرأ فأنا أوجه إليك ما أكتب.. وقد كنت إذ أنظر إلي وجهك وأنت طفل.. أسائل نفسي تري أي قدر سيكون لك؟ وكثيراً ما أشفقت عليك ورثيت لك, إنك ستطرق أبواب حياة ليس كل ما فيها يسر, وإنك ستضطر راضياً أو مكرها أن تعدل عن كثير من المثل التي أحببت أن تنطبع في خاطرك.
ولن تعرف يا بني, إلا إذا كبرت.. فيض السعادة الذي يغمرني وأنا أكتب إليك.. قد يكون خيالك الآن منصرفاً إلي أشياء كثيرة.. قد تكون تفكر في دروسك الثقيلة أحياناً.. الرقيقة أحياناً.. في أترابك وأحلامك.. في دنيا مناك وآمالك وقد يكون خيالي لا يدور بخاطرك إلا قليلاً.. ولست ألومك علي هذا.. فلست أرجو أن تتعلق بي تعلقاً شديداً.. فأنا شمس غاربة في أفقك يا بني.. سيأتي يوم – قريباً أو بعيداً – لا يبقي منها إلا الشفق.
الظروف المحزنة..
وقد ساءلت نفسي قبل أن أبدأ بكتابة هذه الرسائل إليك.. أفعل أم لا؟ فقد تضلك أحياناً وقد تحزنك أحياناً ولست أحب لك أن تضل أو تحزن.. ولكنني آثرت أن أفعل فإن تضل أولي الخطوات للنجاح.. وإن تحزن أولي التجارب للتطهر والسمو.. أحب أن تغفر لي يا بني ما قد تثيره بعض هذه الكلمات في عينيك من دموع.. فعلك تعرف القليل عن الظروف المحزنة التي جازت فيها أمك إلي ربك الكريم.. بل لعلك لا تعرف منها شيئاً فقد كنت طفلاً في الثالثة حينما مرضت.. وكنت في نضارة طفولتك تلعب وتلهو غير مدرك ما تعانيه ولا ما أعانيه.. وقد حمدت الله أيامها أنك لا تدرك وأحمده الآن ألف مرة, فقد اجتزنا المحنة وأنت تجري مع دبابتك أو قطارك وتسألني أن أري ما تفعل وأن أضحك وألهو معك.. وقد كنت أضحك وقلبي يبكي.. لا من أجلها فقد لاقت ربًا رحيمًا.. ولكن من أجلك أنت حينما تكبر وتلقي أترابك يأوون إلي صدور حنونة ولا تجد أنت مثل هذا الصدر الحنون.
كنت أبًا.. وأمًا!!
وقد بذلت جهد استطاعتي أن أكون لك أبًا وأمًا, وأن أملأ الفراغ الذي خلفته تلك التي عاشت لك في حياتها زهرة عطرة فيها رقة الزهور وجمالها.. ولم أحدثك عنها قط يا بني.. آثرت ألا أكسر قلبك.. ولكنني أصبحت أحس بواجبي في أن أحدثك عنها كي تحبها وتتذكرها أبدًا.. ولم أكن أستطيع إلا أن أفعل ذلك.. فإن لها في عنقي وعنقك دينًا لا بد أن نفيا به.. ولعلك لا تعرف يا بني أنها لفظت أنفاسها الأخيرة بعيدة عنك وعني.. ولعلك لا تعرف أن اسمك ورسمك كانا آخر ما دار في خيالها, أغمضت عينيها لست أعرف كيف, ولكني أتصورها – وقد كانت تعبدك – تسأل ربك وربي أن يرعاك ويحرسك.
وقد كنت طفلاً وكانت أمًا.. وكنت أنا لا أزال في مقتبل الشباب.. من يدري ماذا كان يساورها من خواطر.. لعلها حسبت أني سأجري كما يجري الشباب وأدعك لطفولتك, وأدع نفسي لنزواتي.. ولكنني لم أفعل يا بني.. ظللت أنت مثار الدموع حينما أحب الدموع, وملجأ العزاء حينما أحس بالحاجة إلي العزاء.
قصتي طويلة
إن قصتي معك طويلة يا بني.. فكم ليلة بت مسهدًا أبكي وأنت غارق في أحلام نومك وطفولتك, أسائل ربي ماذا أنت وماذا ستكون؟ وكيف أستطيع أن أفضي إليك حينما تكبر.. بقصة أمك التي ذهبت إلي ربها وتركتك في كفالته.. وقد رعاك ربي كما رعاني.. أفاض علي من نعمته لأنني أحببتك ووفيت لأمك وذكراها.. لم أدعك قط تحزن.. لم أدعك تشعر أنك فقدت أعز مخلوق عليك.. كانت الدمعة في عينيك ترعبني يا بني.. كنت أحسبها لا تجئ من مخلوق.. ولكن من ملاك.. كنت أحسبها كأنها دمعة من السماء وقد زادتني ظروفك حباً للناس وإشفاقاً عليهم.. لم أحبك أنت فقط ولكني أحببت كل طفل.. أحببت كل رجل.. أحبتك كل أم.. ورثيت للناس جميعاً.. اتسع قلبي يا بني.. فكنت آسو لحزن الحزاني.. وآلام المتألمين.
وكم أرجو يا بني أن يتسع قلبك أنت أيضاً فتحب كل الناس.. إياك أن تحقد علي أحد منهم.. إن البشر ضعاف مساكين.. لا تدع الحاقد يحقد عليك.. ولا المذنب يسيء إليك.. ولا اللص يسرق مالك.. ولا الخاطئ يغرقك في الخطايا.. بل ارث لهم يا بني.. حاول أن ترفع عنك ذنوبهم ما استطعت.. كن في حياتك بلسمًا ونورًا.. رحمة وسلاماً.. اجعل المكان الذي توجد فيه يرفرف عليه الحب والنعمة والرضا.. فأنت لا تعرف ماذا يخبئ القدر.. لا يستخفنك الغرور ولا المال ولا الجاه ولا الصحة.. إنها كلها عارية لك اليوم وغداً قد لا تكون, إن الله يعطي والله يمنع.. لا تحسب أنك تملي علي القدر, بل القدر هو الذي يملي علينا.
الكره .. ضعف
حذار أن تكره إنسانًا حتي ولو كان يكرهك.. إن الكره ضعف.. وملايين من الناس يكرهون غيرهم ويحقدون عليهم, ولكن قلائل جداً هم الذين يحبون كل الناس حتي الذين يكرهونهم.. كن أنت من هؤلاء القلائل.. ارتفع فوق نزواتك وشهواتك ونوازع الشر فيك.. حاول أن تنمي الخير في نفسك.. وعف عن الإساءة.
لقد فقدت عطف أمك منذ طفولتك فنثر هذا علي وجهك نوعاً من السكون والحزن الكظيم.. وإني لأعرفه يا بني وإن حاولت إخفاءه.. ولكنك تستطيع أن تحول هذا الحزن إلي مسرة عظمي إذا عرفت كيف تحب الناس جميعاً.
أحسست بقسوة الحياة
وابني العزيز
إنني أشعر أن من حقك الآن – بعد أن كبرت ولم تعد طفلاً – أن تعرف ظروف المرض الذي أصاب أمك وفتك بها وما عانته من آلام حتي أسلمت الروح.
لقد شاء الله أن تصاب أمك بداء ذات الصدر, لم نكن نعرف مقدمات هذا المرض اللعين إلي أن كشفه أحد الأطباء.. وأشارإلي أن تقيم في حلوان حيث الجو جاف, وفعلت ما أشار به فأصبح لي بيت في حلوان تقيم فيه أنت مع أمك ووالدتها وأخيك الصغير الذي لم يتجاوز من العمر عدة شهور.. واحتفظت أنا ببيتي في القاهرة أقيم فيه وحدي حتي أفرغ لعملي.. كنت أزوركم في حلوان من وقت إلي آخر وأري المرض اللعين يستل ماء الشباب من وجه أمك المتورد وأنت وأخوك مازلتما في عمر الزهور.. فأعود دامع العين كسير القلب والفؤاد, ما أحسست بقسوة الحياة كما أحسست بها حينئذ وأنا بعد طري العود!!
لم أقل لأحد لا لأصحابي ولا لأهلي ولا لأبي, كتمت أساي في قلبي.. شربت حزني وحدي وتحملت المسئولية كاملة علي عاتقي.. كانت مرحلة قاسية مؤلمة.. كان عمرك يا بني سنتين.. وإذا ذهبت إلي حلوان وأردت أن أعود تعلقت بي باكيًا.. فأحاورك وأداورك وأهرب منك.. وأدعك تظن أنني لست منصرفاً.. وأمك مسجاة تضمر وتذوب.. لا العلاج ناجعاً.. ولا الرحمة ولا العطف ولا السماء الحانية.
كنت أترك حلوان ونجوم السماء تلمع وحر الصيف شديد ونسائم تهب من هنا وهناك.. وصفارة القطار تلعلع في الجو.. والناس غادون ورائحون يضحكون ويمرحون.. واندمج فيهم بعقل شارد وقلب كسير ونفس تلتزم بقوتها ولا ترضي أن تضعف علنًا.. كان كل الضعف في داخلي.. كل الآسي.. كل الألم.. كل الحزن, اكتسي وجهي صرامة واكتست أخلاقي جموداً وتندت عيناي بالدمع السخين المكتوم.. كنت أضحك متي وصلت إلي القاهرة ولفتني دوامة العمل والأصدقاء.. ولم يكن أحد يستطيع أن يعرف أن هذا الضاحك النشط الذي لا يكف عن العمل يخفي في صدره أسي عائلة تموت موتاً بطيئاً, لقد بذلت كل ما أستطيع من أجل أمك واستنفدت جميع الوسائل الممكنة, أحسن الأطباء وأحسن أماكن الإقامة وأعظم عناية.. ماذا أستطيع بعد هذا يا ربي..
لا شيء إلا أن أرجو رحمتك.
دقات قطار حلوان
وكثيراً ما تساءلت يا بني: ماذا تركت هذه المرحلة من الحياة في نفسي.. ماذا علمتني.. كيف كونتني.. كيف دخلت في وجداني وقلبي وكياني؟.. لست أعرف علي التحديد, ولكن لا بد أنها تركت طابعها في.. لا بد أنها تسللت في كل قطرة من دمي وجعلتني ما أنا.. ما أحسب شيئاً في الوجود يمر بإنسان دون أن يترك طابعه في عقله.. في ذكرياته.. في وجدانه.. في كل شيء فيه.
كانت دقات قطار حلوان يا بني تطن في أذني طول الليل.. وأنا في عملي وأنا في فراشي.. وابتسامتك البريئة.. ودموعك المتساقطة وأنت تجري هنا وهناك تحاول أن تمنعني من الخروج.. والموت الذي أعرف أنه يرفرف علي هذا البيت في حلوان.. كل هذا كان يزعج أحلامي ويدمر نفسي تدميراً.. ومع ذلك كان قلبي يا بني راضياً حقاً.. لم أتململ.. ولم أسخط.. ولم أنكر فضل الله, ولم أجحد عونه... كل ما في الأمر أنني حزين في نفسي.. دامع القلب بيني وبين ربي.
كيف تنكشف هذه المأساة.. إلي أي طريق ستقودني.. لم أكن أعرف.. ولم أكن أفكر أو أنجم.. كان حسبي ينقضي اليوم دون شر. ويجيء الليل فأرتمي في فراشي شاكراً الله أنني لا أزال أعيش.
رأيت.. الموت!
كانت رحلاتي – يا بني – إلي حلوان, لا تنقطع, كنت موزع القلب والوجدان.. الهم جاثم لا يريد أن يتزحزح.. والمرض جاثم لا يريد أن يخف أو يبرأ.. وساءت حالة أمك.. وأشار الأطباء بنقلها إلي المصحة, وبينما أنا أستعد لإغلاق البيت في حلوان, وتوزيع العائلة الصغيرة توزيعاً جديداً أليماً, أراد الله أن يسترد وديعته في أخيك الصغير.. فاختاره إلي جواره وعمره سنة واحدة, ورأيت لأول مرة الموت وجهاً لوجه,, رأيت أخاك باسماً وهو ميت.. مستغرق في النوم.. وهو نوم الأبد.. تصورته ملاكاً أو كالملاك.. نعمة هبطت من السماء, وها هي عائدة إليها.. لم أستطع أن أبكي.. لم أستطع أن أتكلم.. كان ما في قلبي من الأسي أقوي من الدمع.. وأقوي من الكلام. كانت صلاتي صامتة خالصة لربي..
إن الذكريات – يا بني – لا تذهب أبداً.. إنها تحفر لها في القلب والوجدان بئراً عميقة عمق السنين والأيام.. هذا الوجه الرقيق.. هذا الهناء العذب.. هذه الدنيا التي ابتسمت ذات يوم, ما لها تمطرني بالدموع والأحزان؟؟
ركبت مع الجثمان الصغير السيارة, ومعنا الحانوتي, يحوقل ويصلي علي النبي, ويبدو أكثر حزناً من كل من كان معنا.. وكنت أنا صامتاً.. ساكناً.. لا أستطيع حتي أن أتكلم.. كنت أنا وأخوك في مناجاة صغيرة.. عظيمة.. هادئة.. عميقة.. أحسست أنه يسمعني, هو الذي لا يسمع.. أحسست أنه يحدثني هو الذي لا يعرف الكلام.. أحسست أنه يفهمني هو الذي لم يفهم من الدنيا شيئاً.. تركها قبل أن تومض عينيه وقلبه.. تري ماذا كان سيكون اليوم لو عاش؟؟
وعدنا من غيره.. أمك مسجاة في سريرها.. حزنها في قلبها.. وداؤها في صدرها.. تنتظر أن تنتقل إلي المصحة وحدها.. وتنتقل أنت مع جدتك حيث تقيم, وتعيش بعيداً عنها.. وأنا الآخر أعيش وحدي.. بعيداً عنكما..
عشت مروعاً خائفاً
ومرت بي مرحلة أخري أقسي وأشد ألماً.. كانت أسرتي كلها تقيم في حلوان, وأقيم أنا في القاهرة, وكنت أزورها من وقت إلي آخر.. أما الآن فقد نقص منها عضو أصبح يقيم في الصحراء.. هناك.. هناك وحده.. يقيم علي ألا يعود أبداً.. وأمك تقيم وحدها في المصحة فأراوغك وأداورك.. وأحاول أن أصرفك عما يلح فيك من سؤال.. أغمرك بالهدايا علك تنسي.. وكيف يستطيع طفل أن ينسي أمه.. فإذا ذهبت إليها, سألتني عنك, والدموع في عينيها.. ورحمة الله العلي القدير تمسح أساها..
لم يكن أحد يعرف هذا أيضاً.. تحملته وحدي.. لا أصدقائي ولا أهلي, ما شكوت وما أذنت لحزني أن يخرج من صدري, كانت نجواي مع ربي وحده.. ولم يخذلني أبداً, ملأ حياتي دمعاً.. ولكنه ملأها رحمة وأمنا.. كان يمنحني القوة حتي لأشعر مع ضعفي أنني قادر أن أزحزح الجبال طولاً وعرضاً..
عشت مروعاً خائفاً, أن تموت أمك تحت ثقل دائها اللعين.. أن تكون أنت قد مستك الجراثيم, أن أكون أنا نفسي.. كنت موزعاً. داعياً قانتاً في صلاة دائمة..
والدك
»‬كانت الدمعة في عينيك ترعبني يا بني.. كنت أحسبها دمعة من السماء! »
عندما يقترب يوم 7 مارس موعد ذكري رحيل أبي الكاتب والمفكر محمد زكي عبد القادر أحس بالحنين إلي الماضي البعيد.. ويذهب بي الخاطر إلي أيام طفولتي.. فأعود إلي أوراقي القديمة وأبحث بينها عن ذكرياتي العزيزة.. حتي أعثر علي الرسائل التي كنت أتلقاها من أبي وأنا ما أزال في السنة الأولي بمدرسة الزقازيق الثانوية.
فقد شاء القدر أن يفرق بيننا فترة من الزمن.. كان ذلك بعد أن فقدت أمي, وأنا لا أزال طفلاً لم أتجاوز الخامسة من عمري.. كان هو يعيش وحيداً في العاصمة الكبيرة.. وأنا أعيش مع جدي في قريتنا الصغيرة.. وكان جدي يعطيني فيضًا من حنانه وحبه, عوضني كثيراً عن فقدان أمي.. وأنساني ما كان يختلج في صدري الصغير من أحزان.. وكنت أحياناً أنساها وأنا غارق في اللهو, واللعب مع أقراني.. ولكنني عندما آوي إلي فراشي في المساء, وانفرد بنفسي, أشعر بالوحدة.. وبحاجتي الشديدة إلي صدر دافئ حنون أسند إليه رأسي.. وأحس أن هناك شيئاً عزيزاً أفتقده فتصعد الدموع إلي عيني.. وأظل مسهَّداً في فراشي أبكي.. حتي يغافلني النوم.
المبادئ.. والقيم
وبعد أن صرت صبياً, ووعيت الكثير من أمور الحياة.. عرفت لماذا تركني أبي في رعاية جدي.. ولم يدعني أعيش معه في القاهرة.. فقد كان – وقت ذاك – شاباً حديث التخرج في الجامعة, يصنع مستقبله, الذي هو مستقبلي.. ولو كنت بقيت في حضانته لأقلقت راحته, وجلبت له المتاعب والأحزان, وذكرته في كل لحظة بتلك المأساة التي داهمته وهو مازال يطرق أبواب الحياة.
كان والدي إنساناً عاطفياً.. رغم أنه كان يبدو – أمام الناس- غير ذلك.. وكثيراً ما كنت أراه وأنا طفل صغير, جالساً إلي فراشي والدموع في عينيه.. وعندما أساله: لماذا تبكي يا أبي.. يسرع إلي تجفيف دموعه.. ويطلق ضحكة مصطنعة, وهو يقول: أنا لا أبكي يا بني, ألا تراني أضحك!
وكنت – خلال تلك الفترة التي قضيتها في الريف – أتلقي من أبي بين الحين والآخر تلك الرسائل التي يعبر فيها عن عواطفه نحوي.. ويودعها الكثير من النصائح التي كانت تضيء لي الطريق.. وتفتح أمامي أبواب الأمل والحياة.. وتمنحني الشجاعة والصلابة.. وتغرس في نفسي المبادئ والمثل.
كانت رسائله تؤنس وحدتي.. وتملأ عليّ حياتي وغربتي.. وتعوضني – ولو قليلاً – عن بعده عني.. واحتياجي لقربه.. فهي قطعة منه.. وجزء من مشاعره.. وخلجات نفسه ونبع من عطفه وحنانه..
ورغم أن عقلي الصغير كان يتعثر أحياناً في استيعاب بعض ما تحمله هذه الرسائل من معان, إلا أن كل كلمة فيها كانت تثير في نفسي الشجون.. وفي عيني الدموع.. وكنت أحس – وأنا أتابع قراءتها – بكلماتها وعباراتها وهي تحرك في كياني كل ذرة.. وتهز في نفسي كل شعرة!!
وقد رأيت ألا أحجب تلك الرسائل.. بل أسعي إلي نشرها فلعل شبابنا يجدون بين سطورها من العبرة والموعظة ما يفيدهم في حياتهم, وينير لهم طريق المستقبل, ويملاً نفوسهم بالخير والحب.
خواطر .. وخلجات
ابني العزيز
هذه الرسائل التي أبعث بها إليك بين الحين والحين لست أرجو فيها أن أضايقك أو أرسم لك دائرة لا تتعداها, أو أضع لك خطة لابد أن تسير عليها.. فقد تكون الخطة التي يوحي بها إليك عقلك خيراً مما أرسم لك.. ولكن خذها كأنها خواطر أو خلجات نفس تحبك أعمق الحب.. قد تفيدك إذا تأملتها ولكنني لا أفرض ما فيها من رأي أو توجيه.. فلست أحب أن تكون صدي لي ولا أن تكون ظلاً.. لا أحب أن تخرج صورة مني.. ولكني أحب أن تكون لك شخصيتك ويكون لك تفكيرك.. حتي إذا كبرت يا بني وبلغت مبلغ الشباب وأعدت تلاوتها قد تنكر منها أشياء.. وقد تقر أشياء.. فإذا بلغت مبلغ الرجولة وقرأتها مرة أخري قد تنكرها جميعاً وقد تقرها جميعاً.. ولكنك لن تخطئ فيها فيض الحرارة التي أوحت بها.
وقد كتبت عنك قبل الآن ولكنك كنت طفلاً لا تقرأ.. وأنت اليوم تستطيع أن تقرأ فأنا أوجه إليك ما أكتب.. وقد كنت إذ أنظر إلي وجهك وأنت طفل.. أسائل نفسي تري أي قدر سيكون لك؟ وكثيراً ما أشفقت عليك ورثيت لك, إنك ستطرق أبواب حياة ليس كل ما فيها يسر, وإنك ستضطر راضياً أو مكرها أن تعدل عن كثير من المثل التي أحببت أن تنطبع في خاطرك.
ولن تعرف يا بني, إلا إذا كبرت.. فيض السعادة الذي يغمرني وأنا أكتب إليك.. قد يكون خيالك الآن منصرفاً إلي أشياء كثيرة.. قد تكون تفكر في دروسك الثقيلة أحياناً.. الرقيقة أحياناً.. في أترابك وأحلامك.. في دنيا مناك وآمالك وقد يكون خيالي لا يدور بخاطرك إلا قليلاً.. ولست ألومك علي هذا.. فلست أرجو أن تتعلق بي تعلقاً شديداً.. فأنا شمس غاربة في أفقك يا بني.. سيأتي يوم – قريباً أو بعيداً – لا يبقي منها إلا الشفق.
الظروف المحزنة..
وقد ساءلت نفسي قبل أن أبدأ بكتابة هذه الرسائل إليك.. أفعل أم لا؟ فقد تضلك أحياناً وقد تحزنك أحياناً ولست أحب لك أن تضل أو تحزن.. ولكنني آثرت أن أفعل فإن تضل أولي الخطوات للنجاح.. وإن تحزن أولي التجارب للتطهر والسمو.. أحب أن تغفر لي يا بني ما قد تثيره بعض هذه الكلمات في عينيك من دموع.. فعلك تعرف القليل عن الظروف المحزنة التي جازت فيها أمك إلي ربك الكريم.. بل لعلك لا تعرف منها شيئاً فقد كنت طفلاً في الثالثة حينما مرضت.. وكنت في نضارة طفولتك تلعب وتلهو غير مدرك ما تعانيه ولا ما أعانيه.. وقد حمدت الله أيامها أنك لا تدرك وأحمده الآن ألف مرة, فقد اجتزنا المحنة وأنت تجري مع دبابتك أو قطارك وتسألني أن أري ما تفعل وأن أضحك وألهو معك.. وقد كنت أضحك وقلبي يبكي.. لا من أجلها فقد لاقت ربًا رحيمًا.. ولكن من أجلك أنت حينما تكبر وتلقي أترابك يأوون إلي صدور حنونة ولا تجد أنت مثل هذا الصدر الحنون.
كنت أبًا.. وأمًا!!
وقد بذلت جهد استطاعتي أن أكون لك أبًا وأمًا, وأن أملأ الفراغ الذي خلفته تلك التي عاشت لك في حياتها زهرة عطرة فيها رقة الزهور وجمالها.. ولم أحدثك عنها قط يا بني.. آثرت ألا أكسر قلبك.. ولكنني أصبحت أحس بواجبي في أن أحدثك عنها كي تحبها وتتذكرها أبدًا.. ولم أكن أستطيع إلا أن أفعل ذلك.. فإن لها في عنقي وعنقك دينًا لا بد أن نفيا به.. ولعلك لا تعرف يا بني أنها لفظت أنفاسها الأخيرة بعيدة عنك وعني.. ولعلك لا تعرف أن اسمك ورسمك كانا آخر ما دار في خيالها, أغمضت عينيها لست أعرف كيف, ولكني أتصورها – وقد كانت تعبدك – تسأل ربك وربي أن يرعاك ويحرسك.
وقد كنت طفلاً وكانت أمًا.. وكنت أنا لا أزال في مقتبل الشباب.. من يدري ماذا كان يساورها من خواطر.. لعلها حسبت أني سأجري كما يجري الشباب وأدعك لطفولتك, وأدع نفسي لنزواتي.. ولكنني لم أفعل يا بني.. ظللت أنت مثار الدموع حينما أحب الدموع, وملجأ العزاء حينما أحس بالحاجة إلي العزاء.
قصتي طويلة
إن قصتي معك طويلة يا بني.. فكم ليلة بت مسهدًا أبكي وأنت غارق في أحلام نومك وطفولتك, أسائل ربي ماذا أنت وماذا ستكون؟ وكيف أستطيع أن أفضي إليك حينما تكبر.. بقصة أمك التي ذهبت إلي ربها وتركتك في كفالته.. وقد رعاك ربي كما رعاني.. أفاض علي من نعمته لأنني أحببتك ووفيت لأمك وذكراها.. لم أدعك قط تحزن.. لم أدعك تشعر أنك فقدت أعز مخلوق عليك.. كانت الدمعة في عينيك ترعبني يا بني.. كنت أحسبها لا تجئ من مخلوق.. ولكن من ملاك.. كنت أحسبها كأنها دمعة من السماء وقد زادتني ظروفك حباً للناس وإشفاقاً عليهم.. لم أحبك أنت فقط ولكني أحببت كل طفل.. أحببت كل رجل.. أحبتك كل أم.. ورثيت للناس جميعاً.. اتسع قلبي يا بني.. فكنت آسو لحزن الحزاني.. وآلام المتألمين.
وكم أرجو يا بني أن يتسع قلبك أنت أيضاً فتحب كل الناس.. إياك أن تحقد علي أحد منهم.. إن البشر ضعاف مساكين.. لا تدع الحاقد يحقد عليك.. ولا المذنب يسيء إليك.. ولا اللص يسرق مالك.. ولا الخاطئ يغرقك في الخطايا.. بل ارث لهم يا بني.. حاول أن ترفع عنك ذنوبهم ما استطعت.. كن في حياتك بلسمًا ونورًا.. رحمة وسلاماً.. اجعل المكان الذي توجد فيه يرفرف عليه الحب والنعمة والرضا.. فأنت لا تعرف ماذا يخبئ القدر.. لا يستخفنك الغرور ولا المال ولا الجاه ولا الصحة.. إنها كلها عارية لك اليوم وغداً قد لا تكون, إن الله يعطي والله يمنع.. لا تحسب أنك تملي علي القدر, بل القدر هو الذي يملي علينا.
الكره .. ضعف
حذار أن تكره إنسانًا حتي ولو كان يكرهك.. إن الكره ضعف.. وملايين من الناس يكرهون غيرهم ويحقدون عليهم, ولكن قلائل جداً هم الذين يحبون كل الناس حتي الذين يكرهونهم.. كن أنت من هؤلاء القلائل.. ارتفع فوق نزواتك وشهواتك ونوازع الشر فيك.. حاول أن تنمي الخير في نفسك.. وعف عن الإساءة.
لقد فقدت عطف أمك منذ طفولتك فنثر هذا علي وجهك نوعاً من السكون والحزن الكظيم.. وإني لأعرفه يا بني وإن حاولت إخفاءه.. ولكنك تستطيع أن تحول هذا الحزن إلي مسرة عظمي إذا عرفت كيف تحب الناس جميعاً.
أحسست بقسوة الحياة
وابني العزيز
إنني أشعر أن من حقك الآن – بعد أن كبرت ولم تعد طفلاً – أن تعرف ظروف المرض الذي أصاب أمك وفتك بها وما عانته من آلام حتي أسلمت الروح.
لقد شاء الله أن تصاب أمك بداء ذات الصدر, لم نكن نعرف مقدمات هذا المرض اللعين إلي أن كشفه أحد الأطباء.. وأشارإلي أن تقيم في حلوان حيث الجو جاف, وفعلت ما أشار به فأصبح لي بيت في حلوان تقيم فيه أنت مع أمك ووالدتها وأخيك الصغير الذي لم يتجاوز من العمر عدة شهور.. واحتفظت أنا ببيتي في القاهرة أقيم فيه وحدي حتي أفرغ لعملي.. كنت أزوركم في حلوان من وقت إلي آخر وأري المرض اللعين يستل ماء الشباب من وجه أمك المتورد وأنت وأخوك مازلتما في عمر الزهور.. فأعود دامع العين كسير القلب والفؤاد, ما أحسست بقسوة الحياة كما أحسست بها حينئذ وأنا بعد طري العود!!
لم أقل لأحد لا لأصحابي ولا لأهلي ولا لأبي, كتمت أساي في قلبي.. شربت حزني وحدي وتحملت المسئولية كاملة علي عاتقي.. كانت مرحلة قاسية مؤلمة.. كان عمرك يا بني سنتين.. وإذا ذهبت إلي حلوان وأردت أن أعود تعلقت بي باكيًا.. فأحاورك وأداورك وأهرب منك.. وأدعك تظن أنني لست منصرفاً.. وأمك مسجاة تضمر وتذوب.. لا العلاج ناجعاً.. ولا الرحمة ولا العطف ولا السماء الحانية.
كنت أترك حلوان ونجوم السماء تلمع وحر الصيف شديد ونسائم تهب من هنا وهناك.. وصفارة القطار تلعلع في الجو.. والناس غادون ورائحون يضحكون ويمرحون.. واندمج فيهم بعقل شارد وقلب كسير ونفس تلتزم بقوتها ولا ترضي أن تضعف علنًا.. كان كل الضعف في داخلي.. كل الآسي.. كل الألم.. كل الحزن, اكتسي وجهي صرامة واكتست أخلاقي جموداً وتندت عيناي بالدمع السخين المكتوم.. كنت أضحك متي وصلت إلي القاهرة ولفتني دوامة العمل والأصدقاء.. ولم يكن أحد يستطيع أن يعرف أن هذا الضاحك النشط الذي لا يكف عن العمل يخفي في صدره أسي عائلة تموت موتاً بطيئاً, لقد بذلت كل ما أستطيع من أجل أمك واستنفدت جميع الوسائل الممكنة, أحسن الأطباء وأحسن أماكن الإقامة وأعظم عناية.. ماذا أستطيع بعد هذا يا ربي..
لا شيء إلا أن أرجو رحمتك.
دقات قطار حلوان
وكثيراً ما تساءلت يا بني: ماذا تركت هذه المرحلة من الحياة في نفسي.. ماذا علمتني.. كيف كونتني.. كيف دخلت في وجداني وقلبي وكياني؟.. لست أعرف علي التحديد, ولكن لا بد أنها تركت طابعها في.. لا بد أنها تسللت في كل قطرة من دمي وجعلتني ما أنا.. ما أحسب شيئاً في الوجود يمر بإنسان دون أن يترك طابعه في عقله.. في ذكرياته.. في وجدانه.. في كل شيء فيه.
كانت دقات قطار حلوان يا بني تطن في أذني طول الليل.. وأنا في عملي وأنا في فراشي.. وابتسامتك البريئة.. ودموعك المتساقطة وأنت تجري هنا وهناك تحاول أن تمنعني من الخروج.. والموت الذي أعرف أنه يرفرف علي هذا البيت في حلوان.. كل هذا كان يزعج أحلامي ويدمر نفسي تدميراً.. ومع ذلك كان قلبي يا بني راضياً حقاً.. لم أتململ.. ولم أسخط.. ولم أنكر فضل الله, ولم أجحد عونه... كل ما في الأمر أنني حزين في نفسي.. دامع القلب بيني وبين ربي.
كيف تنكشف هذه المأساة.. إلي أي طريق ستقودني.. لم أكن أعرف.. ولم أكن أفكر أو أنجم.. كان حسبي ينقضي اليوم دون شر. ويجيء الليل فأرتمي في فراشي شاكراً الله أنني لا أزال أعيش.
رأيت.. الموت!
كانت رحلاتي – يا بني – إلي حلوان, لا تنقطع, كنت موزع القلب والوجدان.. الهم جاثم لا يريد أن يتزحزح.. والمرض جاثم لا يريد أن يخف أو يبرأ.. وساءت حالة أمك.. وأشار الأطباء بنقلها إلي المصحة, وبينما أنا أستعد لإغلاق البيت في حلوان, وتوزيع العائلة الصغيرة توزيعاً جديداً أليماً, أراد الله أن يسترد وديعته في أخيك الصغير.. فاختاره إلي جواره وعمره سنة واحدة, ورأيت لأول مرة الموت وجهاً لوجه,, رأيت أخاك باسماً وهو ميت.. مستغرق في النوم.. وهو نوم الأبد.. تصورته ملاكاً أو كالملاك.. نعمة هبطت من السماء, وها هي عائدة إليها.. لم أستطع أن أبكي.. لم أستطع أن أتكلم.. كان ما في قلبي من الأسي أقوي من الدمع.. وأقوي من الكلام. كانت صلاتي صامتة خالصة لربي..
إن الذكريات – يا بني – لا تذهب أبداً.. إنها تحفر لها في القلب والوجدان بئراً عميقة عمق السنين والأيام.. هذا الوجه الرقيق.. هذا الهناء العذب.. هذه الدنيا التي ابتسمت ذات يوم, ما لها تمطرني بالدموع والأحزان؟؟
ركبت مع الجثمان الصغير السيارة, ومعنا الحانوتي, يحوقل ويصلي علي النبي, ويبدو أكثر حزناً من كل من كان معنا.. وكنت أنا صامتاً.. ساكناً.. لا أستطيع حتي أن أتكلم.. كنت أنا وأخوك في مناجاة صغيرة.. عظيمة.. هادئة.. عميقة.. أحسست أنه يسمعني, هو الذي لا يسمع.. أحسست أنه يحدثني هو الذي لا يعرف الكلام.. أحسست أنه يفهمني هو الذي لم يفهم من الدنيا شيئاً.. تركها قبل أن تومض عينيه وقلبه.. تري ماذا كان سيكون اليوم لو عاش؟؟
وعدنا من غيره.. أمك مسجاة في سريرها.. حزنها في قلبها.. وداؤها في صدرها.. تنتظر أن تنتقل إلي المصحة وحدها.. وتنتقل أنت مع جدتك حيث تقيم, وتعيش بعيداً عنها.. وأنا الآخر أعيش وحدي.. بعيداً عنكما..
عشت مروعاً خائفاً
ومرت بي مرحلة أخري أقسي وأشد ألماً.. كانت أسرتي كلها تقيم في حلوان, وأقيم أنا في القاهرة, وكنت أزورها من وقت إلي آخر.. أما الآن فقد نقص منها عضو أصبح يقيم في الصحراء.. هناك.. هناك وحده.. يقيم علي ألا يعود أبداً.. وأمك تقيم وحدها في المصحة فأراوغك وأداورك.. وأحاول أن أصرفك عما يلح فيك من سؤال.. أغمرك بالهدايا علك تنسي.. وكيف يستطيع طفل أن ينسي أمه.. فإذا ذهبت إليها, سألتني عنك, والدموع في عينيها.. ورحمة الله العلي القدير تمسح أساها..
لم يكن أحد يعرف هذا أيضاً.. تحملته وحدي.. لا أصدقائي ولا أهلي, ما شكوت وما أذنت لحزني أن يخرج من صدري, كانت نجواي مع ربي وحده.. ولم يخذلني أبداً, ملأ حياتي دمعاً.. ولكنه ملأها رحمة وأمنا.. كان يمنحني القوة حتي لأشعر مع ضعفي أنني قادر أن أزحزح الجبال طولاً وعرضاً..
عشت مروعاً خائفاً, أن تموت أمك تحت ثقل دائها اللعين.. أن تكون أنت قد مستك الجراثيم, أن أكون أنا نفسي.. كنت موزعاً. داعياً قانتاً في صلاة دائمة..
والدك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.