في تلك المنصة الفسيحة التي ضاقت بمقاعدها واتسعت لتجمع حشدا كبيرا من رجالات الحكم والجيش والشرطة والإعلام، يتقدمه الرئيس عبد الفتاح السيسي، لمحت في الصف الأول من الجالسين نخبة من القادة العظام أبطال حرب أكتوبر، بالقرب منهم كان يجلس عبد الحكيم وهدى ومنى أنجال الزعيم عبد الناصر الذي أعاد بناء الجيش بعد عدوان يونيو 1967، وجمال أنور السادات نجل الرئيس الراحل صاحب قرار العبور والقائد الأعلى للجيش المظفر. انصرف ذهني فورا إلى المقارنة بين هذا الاحتفال الذي جري يوم الأربعاء الماضي في ساحة العروض العسكرية بالكلية الحربية في الذكري الحادية والأربعين لحرب أكتوبر، وبين تلك المهزلة التي شهدها ستاد القاهرة منذ عامين في الذكري التاسعة والثلاثين للحرب. تذكرت كيف شاهدت على شاشة التليفزيون، الرئيس الأسبق محمد مرسي يطوف بسيارة مكشوفة مضمار الإستاد، وهو يحيي أهله وعشيرته الذين احتلوا المدرجات، وكأنه برنارد مونتجمري ماريشال العلمين، أو جيورجي جوكوف قائد الجيوش الزاحفة من ستالينجراد إلى برلين، أو دوايت أيزنهاور محرر أوروبا الغربية! تذكرت كيف صعد مرسي إلى منصة الاحتفال ليجلس في الصورة وإلى يمينه ويساره قتلة الرئيس السادات، وجمع من الإرهابيين والمتخابرين، بينما لم يدع إلى الاحتفال القادة الذين خططوا وعبروا وقاتلوا وانتصروا! سعدت أيما سعادة، وأنا أتصافح وأتعانق، في ختام الاحتفال بالكلية الحربية، مع الفريق عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني الميداني أثناء حرب الاستنزاف، ثم في الأيام الأخيرة لحرب أكتوبر، ومع الفريق عبد رب النبي حافظ رئيس الأركان الأسبق وقائد الفرقة 16 المشاة أثناء الحرب، والفريق إبراهيم عبد الغفور العرابي رئيس الأركان الأسبق وقائد الفرقة 21 المدرعة أثناء الحرب، واللواء نبيل شكري قائد الصاعقة أثناء حرب أكتوبر وبطل عملية "لارناكا". أعرف هؤلاء القادة العظام أطال الله في أعمارهم، وبعضهم أتقابل معه بانتظام. تركتهم، والحنين يستبد بي إلى ذكريات يوم السادس من أكتوبر وما بعده، التي عشتها طفلا يتوق إلى العودة لمدينته الإسماعيلية، ويغمرني الفخر بأنني قابلت وحاورت واقتربت منذ أن عملت صحفيا متخصصا في الشئون العسكرية قبل أكثر من ربع قرن مضت، من قادة عظام جعلوا النصر ممكنا، ومن ضباط أبطال قهروا العدو وحطموا كبرياءه علي رمال سيناء، ومن جنود بواسل قاموا بأعمال خارقة في ميدان القتال واستحقوا عنها «نجمة سيناء» أرفع أوسمة المعركة. غادرت المكان، وفي ذهني تتداعى وجوه نحتت من طين هذا البلد، وملامح تنطق بالإقدام والجسارة، ونبرات أصوات صريحة في هديرها وحاسمة في هدوئها، وقصص بطولات تتضاءل أمامها الأساطير، وعبارات هي خلاصة تجربة البارود والدماء، وعصير حكمة من قابل ملاك الموت في غير الموعد وفارقه إلى أجل آخر ومكان غير معلوم! أذكر لقاءاتي في بداية مشواري الصحفي مع المشير الراحل محمد عبد الغني الجمسي رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة أثناء الحرب، ثم رئيس الأركان في أيامها الصعبة الحاسمة، ثم لقائي الأخير معه منذ 18 عاما حينما كنت أدرس بأكاديمية ناصر العسكرية العليا، ولم يكن للنشر. في ذلك اللقاء سألت المشير الذي كانت تصفه إسرائيل ب «الجنرال النحيف المخيف»: هل مازلت تشعر بالمرارة تجاه الرئيس الراحل السادات الذي أعلن أنك ستكون وزير حربية مدى الحياة، ثم أعفاك من منصبك قبل يوم واحد من الذكرى الخامسة للحرب؟ بهدوء رد الجمسي: نعم أشعر بمرارة شخصية، لكنها لا يمكن أن تؤثر على تقديري لشجاعة هذا الرجل. بنفس الاستقامة كان رد المشير الراحل على سؤال لي عن المشير سعد الحسيني الشاذلي، عندما قال: "اختلفت معه في الطريقة المثلى للتعامل مع الثغرة، لكنني أشهد أنه لم يفقد أعصابه- كما رُوِّج عنه أثناء تلك العملية-، بل كان قائدا عظيما رابط الجأش ثابت الأعصاب". أذكر قائدا عظيما هو المشير الراحل محمد علي فهمي مؤسس قوات الدفاع الجوي وقائدها أثناء حرب أكتوبر. أمضيت معه ساعات طوالا في منزله بمصر الجديدة في أكثر من لقاء، كان لا يمل من سرد بطولات رجاله في بناء حائط الصواريخ وأسبوع تساقط طائرات الفانتوم في الأيام الأخيرة لحرب الاستنزاف. وروي لي أنه يوم 5 أكتوبر كان يسير بالسيارة مع أحد زملائه من القادة الكبار في ميدان التحرير، يتأملان وجوه المارة قبل يوم واحد من ساعة الصفر، ويدعوان الله أن يكلل الجهود المضنية التي بذلت في الإعداد والتخطيط للحرب بالتوفيق والنصر. وفي اليوم التالي.. أطلق من غرفة عمليات الدفاع الجوي الكلمة الكودية: «جبار»، إيذانا بانطلاق الصواريخ تدمر طائرات العدو على جبهة القنال، وبعدها بساعات تلقى أسعد إشارة، وكانت من الجنرال بيني بيليد قائد سلاح الجو الإسرائيلي لطياريه، وكانت تقول: "ابتعدوا عن الشاطئ الشرقي لقناة السويس مسافة لا تقل عن 15 كيلو مترا لتتجنبوا الصواريخ المصرية". أذكر ثعلب الجيش المصري الفريق سعد مأمون قائد الجيش الثاني الميداني الذي روى لي باعتزاز وقائع يوم الاثنين الحزين الذي عاشته إسرائيل في الثامن من أكتوبر، وكيف خطط مع العميد حسن أبو سعدة «الفريق فيما بعد» قائد الفرقة الثانية المشاة، لصد وتدمير الهجوم المضاد الإسرائيلي المتوقع في ذلك اليوم، وأعدا منطقة قتل للتشكيلات الإسرائيلية زوداها بكل احتياطي الجيش من المقذوفات الموجهة المضادة للدبابات، وبالفعل نجح أبو سعدة ورجاله في تدمير اللواء 190 مدرع الإسرائيلي، وتمكن النقيب البطل يسري عمارة الذي سعدت بالتعرف عليه من أسر العقيد عساف ياجوري قائد اللواء. وأعتز كثيرا بأن الفريق سعد مأمون أهداني أوراق «الخطة شامل» لتدمير الثغرة، التي كتبها بخط يده، وكان يستعد لتنفيذها، لولا التوصل إلى اتفاق فك الاشتباك الأول. أذكر اللواء فؤاد نصار- شفاه الله- مدير المخابرات الحربية أثناء معارك أكتوبر، الذي كشف لي منذ عشرين عاما مضت خفايا عن الحرب كانت تعتبر في حكم الأسرار في ذلك الحين، منها أن إسرائيل كانت تمتلك 13 قنبلة ذرية وان السادات حينما علم، لم يتراجع عن اتخاذ قرار الحرب، ومنها أن الولاياتالمتحدة شاركت في العمليات بجانب إسرائيل عن طريق السماح بإرسال 250 طيارا أمريكيا من اليهود للقتال مع «جيش الدفاع الإسرائيلي»، وأن المقاتلات الأمريكية أسقطت طائرة مصرية فوق السلوم عندما اعترضت طائرات الجسر الجوي الأمريكي التي كانت في طريقها لإسرائيل وهي تحمل احدث الدبابات وصواريخ «تو» المضادة للدبابات و «شرايك» المضادة للرادارات. أذكر اللواء الراحل محمد الفاتح كريم قائد اللواء الثاني الميكانيكي، الذي روي لي بصراحته المعهودة قصة أصعب المعارك في جبل «المر» التي خاضها في النهاية مع 50 مقاتلا فقط حتى نجح في تحرير الجبل، الذي سمي فيما بعد ب"جبل الفاتح". أيضا الفريق أحمد صلاح عبد الحليم- أمد الله في عمره- قائد اللواء 135 مشاة الذي حاصر حصن «أورليك» شمال شرق القناة، ونجح في الاستيلاء عليه، ولا أنسى دموع الفريق صلاح التي لمعت في عينيه، وهو يقول لي: إن هتاف «الله أكبر» الذي ردده رجال اللواء ودوي في سماء المنطقة هو الذي أصاب جنود العدو بالرعب، ودفعهم للفرار من الحصن مستسلمين وهم يرفعون الرايات البيضاء. أذكر اللواء طيار حسن محمد حسن الذي أسقط طائرتين «فانتوم» و «ميراج» في طلعة واحدة، وكان أصغر الضباط الطيارين الذين حصلوا على وسام نجمة سيناء. أذكر اللواء باقي زكي الذي كنت أول من نشر قصته عن ابتكار مدفع المياه لشق الثغرات في الساتر الترابي لخط بارليف وهي الفكرة التي استوحاها من طفله. كذلك اللواء صلاح الدين نحلة الذي كلف بإعداد دراسة عن أنسب الأيام لخوض الحرب، وتوصل إلى أن السادس من أكتوبر هو الأكثر مناسبة، لأسباب تتعلق بحركة المد والجزر في القناة، وبسطوع القمر في الليل، فضلا عن انه يوافق يوم كيبور في إسرائيل، وكتب اللواء صلاح هذه الدراسة في كراسة ابنته الصغيرة، وسلمها للجمسي. أذكر اللواء حسن الجريدلي سكرتير عام وزارة الحربية أثناء الحرب، ثم رئيس هيئة العمليات في الأيام الأخيرة للمعارك، بعد تعيين الجمسي رئيسا لأركان الحرب. ولقد روي لي اللواء الجريدلي رحمه الله - دقائق وتفاصيل من داخل غرفة العمليات الرئيسية التي لم يغادرها حتى انتهاء القتال، وأجواء البهجة التي عمت المكان فور وصول أول أشارة برفع العلم المصري على الشاطئ الشرقي للقناة، وقال لي إن المشير أحمد إسماعيل طلب منه إبلاغ السادات باستشهاد شقيقه الرائد طيار عاطف، وكان رد فعل السادات مفاجئا حين قال: "وايه يعني؟!.. ما كلهم ولادنا". وأسعد كثيرا كلما التقيت بالمجند المقاتل محمد المصري صاحب الرقم القياسي في اصطياد دبابات العدو والبالغ 32 دبابة، وحامل وسام "نجمة سيناء". ولا استطيع أن امنع نفسي في كل مرة، من النظر إلى أنامله الدقيقة، التي كان يوجه بها صواريخ الميلوتيكا عبر الأسلاك إلى دبابات العدو، وكأنه يداعب أوتار آلة "القانون". ومن بين كل قادة أكتوبر العظام، ومقاتليها الأبطال، يحتل اللواء عادل يسري الذي فارقنا منذ شهور، منزلة خاصة في وجداني. هذا البطل، كان أحد قادة معركة «رأس العش» أولى معاركنا البطولية بعد أسابيع من هزيمة يونيو، وكان قائد معركة الاستيلاء على جزيرة «البلاح» في القطاع الشمالي بقناة السويس أثناء حرب الاستنزاف، وكان سيد شهداء القوات المسلحة الفريق عبد المنعم رياض يسميه ب«المقدم الفاقد»، لما عرف عنه من بطولة فائقة وشجاعة بلا حدود. عندما اندلع القتال يوم السادس من أكتوبر، كان العقيد عادل يسري يقود اللواء 112 المشاة، ونجح في تدمير قوات العدو، والوصول باللواء إلى أعمق نقطة تصل إليها التشكيلات المصرية في قلب سيناء. وفي يوم التاسع من أكتوبر، وبينما كان العقيد عادل يسري في الخطوط الأمامية يقود رجاله، فاجأته دانة أطلقتها دبابة معادية، بترت ساقه وأطاحت بها. تمالك البطل عادل يسري نفسه رغم الإصابة الشديدة، وأمسك بحفنات من الرمال يكتم بها الدماء التي تفيض من جسده، ثم حمل ساقه المبتورة وهتف في رجاله: «تحيا مصر»، ودفن الساق بنفسه في الرمال، وقال لرجاله الذين تجمعوا من حوله: "من يحبني يواصل القتال". ورفض البطل أن يتم إخلاؤه فور إصابته، وظل يقاتل لمدة 8 ساعات كاملة رغم جرحه البليغ. وحينما التقاه المشير أحمد إسماعيل علي لتكريمه بعد الحرب وتسليمه «وسام نجمة سيناء» قال له: "لقد هزمتنا إسرائيل في 67 بقيادة جنرال بعين واحدة «يقصد ديان»، وهزمناها في 73 ومعنا جنرال برجل واحدة". وقد سجل اللواء عادل يسري قصته كمقاتل في الجيش المصري في مؤلف رائع بعنوان: "رحلة الساق المعلقة: من رأس العش إلى رأس الكوبري". وسطر العقيد عادل قصته بأسلوب مبهر، وكتب مقدمة الكتاب الكاتب الكبير الراحل علي أمين. وأظن هذا الكتاب يستحق أن يكون عملا دراميا عن حرب الاستنزاف ومعارك أكتوبر، وأحسب أن أفلام ودراما حرب أكتوبر ستكون أحد الموضوعات التي ستناقش في جلسات مؤتمر «صناعة الإبداع» الذي تنظمه دار «أخبار اليوم» في عيدها السبعين الذي يوافق شهر نوفمبر المقبل. أعود من خواطري، يملؤني الاعتزاز بأنني عرفت هؤلاء الأبطال الذين تفوح سيرتهم بعطر الرجولة والجسارة والتضحية والوطنية الخالصة. وأستعيد عبارة الجنرال الأمريكي دوجلاس ماكارثر محرر شرق آسيا: "الجنرالات لا يموتون وإنما يتوارون".. وأجدني أقول: "جنرالات مصر لا يموتون وإن واراهم الثري". في تلك المنصة الفسيحة التي ضاقت بمقاعدها واتسعت لتجمع حشدا كبيرا من رجالات الحكم والجيش والشرطة والإعلام، يتقدمه الرئيس عبد الفتاح السيسي، لمحت في الصف الأول من الجالسين نخبة من القادة العظام أبطال حرب أكتوبر، بالقرب منهم كان يجلس عبد الحكيم وهدى ومنى أنجال الزعيم عبد الناصر الذي أعاد بناء الجيش بعد عدوان يونيو 1967، وجمال أنور السادات نجل الرئيس الراحل صاحب قرار العبور والقائد الأعلى للجيش المظفر. انصرف ذهني فورا إلى المقارنة بين هذا الاحتفال الذي جري يوم الأربعاء الماضي في ساحة العروض العسكرية بالكلية الحربية في الذكري الحادية والأربعين لحرب أكتوبر، وبين تلك المهزلة التي شهدها ستاد القاهرة منذ عامين في الذكري التاسعة والثلاثين للحرب. تذكرت كيف شاهدت على شاشة التليفزيون، الرئيس الأسبق محمد مرسي يطوف بسيارة مكشوفة مضمار الإستاد، وهو يحيي أهله وعشيرته الذين احتلوا المدرجات، وكأنه برنارد مونتجمري ماريشال العلمين، أو جيورجي جوكوف قائد الجيوش الزاحفة من ستالينجراد إلى برلين، أو دوايت أيزنهاور محرر أوروبا الغربية! تذكرت كيف صعد مرسي إلى منصة الاحتفال ليجلس في الصورة وإلى يمينه ويساره قتلة الرئيس السادات، وجمع من الإرهابيين والمتخابرين، بينما لم يدع إلى الاحتفال القادة الذين خططوا وعبروا وقاتلوا وانتصروا! سعدت أيما سعادة، وأنا أتصافح وأتعانق، في ختام الاحتفال بالكلية الحربية، مع الفريق عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني الميداني أثناء حرب الاستنزاف، ثم في الأيام الأخيرة لحرب أكتوبر، ومع الفريق عبد رب النبي حافظ رئيس الأركان الأسبق وقائد الفرقة 16 المشاة أثناء الحرب، والفريق إبراهيم عبد الغفور العرابي رئيس الأركان الأسبق وقائد الفرقة 21 المدرعة أثناء الحرب، واللواء نبيل شكري قائد الصاعقة أثناء حرب أكتوبر وبطل عملية "لارناكا". أعرف هؤلاء القادة العظام أطال الله في أعمارهم، وبعضهم أتقابل معه بانتظام. تركتهم، والحنين يستبد بي إلى ذكريات يوم السادس من أكتوبر وما بعده، التي عشتها طفلا يتوق إلى العودة لمدينته الإسماعيلية، ويغمرني الفخر بأنني قابلت وحاورت واقتربت منذ أن عملت صحفيا متخصصا في الشئون العسكرية قبل أكثر من ربع قرن مضت، من قادة عظام جعلوا النصر ممكنا، ومن ضباط أبطال قهروا العدو وحطموا كبرياءه علي رمال سيناء، ومن جنود بواسل قاموا بأعمال خارقة في ميدان القتال واستحقوا عنها «نجمة سيناء» أرفع أوسمة المعركة. غادرت المكان، وفي ذهني تتداعى وجوه نحتت من طين هذا البلد، وملامح تنطق بالإقدام والجسارة، ونبرات أصوات صريحة في هديرها وحاسمة في هدوئها، وقصص بطولات تتضاءل أمامها الأساطير، وعبارات هي خلاصة تجربة البارود والدماء، وعصير حكمة من قابل ملاك الموت في غير الموعد وفارقه إلى أجل آخر ومكان غير معلوم! أذكر لقاءاتي في بداية مشواري الصحفي مع المشير الراحل محمد عبد الغني الجمسي رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة أثناء الحرب، ثم رئيس الأركان في أيامها الصعبة الحاسمة، ثم لقائي الأخير معه منذ 18 عاما حينما كنت أدرس بأكاديمية ناصر العسكرية العليا، ولم يكن للنشر. في ذلك اللقاء سألت المشير الذي كانت تصفه إسرائيل ب «الجنرال النحيف المخيف»: هل مازلت تشعر بالمرارة تجاه الرئيس الراحل السادات الذي أعلن أنك ستكون وزير حربية مدى الحياة، ثم أعفاك من منصبك قبل يوم واحد من الذكرى الخامسة للحرب؟ بهدوء رد الجمسي: نعم أشعر بمرارة شخصية، لكنها لا يمكن أن تؤثر على تقديري لشجاعة هذا الرجل. بنفس الاستقامة كان رد المشير الراحل على سؤال لي عن المشير سعد الحسيني الشاذلي، عندما قال: "اختلفت معه في الطريقة المثلى للتعامل مع الثغرة، لكنني أشهد أنه لم يفقد أعصابه- كما رُوِّج عنه أثناء تلك العملية-، بل كان قائدا عظيما رابط الجأش ثابت الأعصاب". أذكر قائدا عظيما هو المشير الراحل محمد علي فهمي مؤسس قوات الدفاع الجوي وقائدها أثناء حرب أكتوبر. أمضيت معه ساعات طوالا في منزله بمصر الجديدة في أكثر من لقاء، كان لا يمل من سرد بطولات رجاله في بناء حائط الصواريخ وأسبوع تساقط طائرات الفانتوم في الأيام الأخيرة لحرب الاستنزاف. وروي لي أنه يوم 5 أكتوبر كان يسير بالسيارة مع أحد زملائه من القادة الكبار في ميدان التحرير، يتأملان وجوه المارة قبل يوم واحد من ساعة الصفر، ويدعوان الله أن يكلل الجهود المضنية التي بذلت في الإعداد والتخطيط للحرب بالتوفيق والنصر. وفي اليوم التالي.. أطلق من غرفة عمليات الدفاع الجوي الكلمة الكودية: «جبار»، إيذانا بانطلاق الصواريخ تدمر طائرات العدو على جبهة القنال، وبعدها بساعات تلقى أسعد إشارة، وكانت من الجنرال بيني بيليد قائد سلاح الجو الإسرائيلي لطياريه، وكانت تقول: "ابتعدوا عن الشاطئ الشرقي لقناة السويس مسافة لا تقل عن 15 كيلو مترا لتتجنبوا الصواريخ المصرية". أذكر ثعلب الجيش المصري الفريق سعد مأمون قائد الجيش الثاني الميداني الذي روى لي باعتزاز وقائع يوم الاثنين الحزين الذي عاشته إسرائيل في الثامن من أكتوبر، وكيف خطط مع العميد حسن أبو سعدة «الفريق فيما بعد» قائد الفرقة الثانية المشاة، لصد وتدمير الهجوم المضاد الإسرائيلي المتوقع في ذلك اليوم، وأعدا منطقة قتل للتشكيلات الإسرائيلية زوداها بكل احتياطي الجيش من المقذوفات الموجهة المضادة للدبابات، وبالفعل نجح أبو سعدة ورجاله في تدمير اللواء 190 مدرع الإسرائيلي، وتمكن النقيب البطل يسري عمارة الذي سعدت بالتعرف عليه من أسر العقيد عساف ياجوري قائد اللواء. وأعتز كثيرا بأن الفريق سعد مأمون أهداني أوراق «الخطة شامل» لتدمير الثغرة، التي كتبها بخط يده، وكان يستعد لتنفيذها، لولا التوصل إلى اتفاق فك الاشتباك الأول. أذكر اللواء فؤاد نصار- شفاه الله- مدير المخابرات الحربية أثناء معارك أكتوبر، الذي كشف لي منذ عشرين عاما مضت خفايا عن الحرب كانت تعتبر في حكم الأسرار في ذلك الحين، منها أن إسرائيل كانت تمتلك 13 قنبلة ذرية وان السادات حينما علم، لم يتراجع عن اتخاذ قرار الحرب، ومنها أن الولاياتالمتحدة شاركت في العمليات بجانب إسرائيل عن طريق السماح بإرسال 250 طيارا أمريكيا من اليهود للقتال مع «جيش الدفاع الإسرائيلي»، وأن المقاتلات الأمريكية أسقطت طائرة مصرية فوق السلوم عندما اعترضت طائرات الجسر الجوي الأمريكي التي كانت في طريقها لإسرائيل وهي تحمل احدث الدبابات وصواريخ «تو» المضادة للدبابات و «شرايك» المضادة للرادارات. أذكر اللواء الراحل محمد الفاتح كريم قائد اللواء الثاني الميكانيكي، الذي روي لي بصراحته المعهودة قصة أصعب المعارك في جبل «المر» التي خاضها في النهاية مع 50 مقاتلا فقط حتى نجح في تحرير الجبل، الذي سمي فيما بعد ب"جبل الفاتح". أيضا الفريق أحمد صلاح عبد الحليم- أمد الله في عمره- قائد اللواء 135 مشاة الذي حاصر حصن «أورليك» شمال شرق القناة، ونجح في الاستيلاء عليه، ولا أنسى دموع الفريق صلاح التي لمعت في عينيه، وهو يقول لي: إن هتاف «الله أكبر» الذي ردده رجال اللواء ودوي في سماء المنطقة هو الذي أصاب جنود العدو بالرعب، ودفعهم للفرار من الحصن مستسلمين وهم يرفعون الرايات البيضاء. أذكر اللواء طيار حسن محمد حسن الذي أسقط طائرتين «فانتوم» و «ميراج» في طلعة واحدة، وكان أصغر الضباط الطيارين الذين حصلوا على وسام نجمة سيناء. أذكر اللواء باقي زكي الذي كنت أول من نشر قصته عن ابتكار مدفع المياه لشق الثغرات في الساتر الترابي لخط بارليف وهي الفكرة التي استوحاها من طفله. كذلك اللواء صلاح الدين نحلة الذي كلف بإعداد دراسة عن أنسب الأيام لخوض الحرب، وتوصل إلى أن السادس من أكتوبر هو الأكثر مناسبة، لأسباب تتعلق بحركة المد والجزر في القناة، وبسطوع القمر في الليل، فضلا عن انه يوافق يوم كيبور في إسرائيل، وكتب اللواء صلاح هذه الدراسة في كراسة ابنته الصغيرة، وسلمها للجمسي. أذكر اللواء حسن الجريدلي سكرتير عام وزارة الحربية أثناء الحرب، ثم رئيس هيئة العمليات في الأيام الأخيرة للمعارك، بعد تعيين الجمسي رئيسا لأركان الحرب. ولقد روي لي اللواء الجريدلي رحمه الله - دقائق وتفاصيل من داخل غرفة العمليات الرئيسية التي لم يغادرها حتى انتهاء القتال، وأجواء البهجة التي عمت المكان فور وصول أول أشارة برفع العلم المصري على الشاطئ الشرقي للقناة، وقال لي إن المشير أحمد إسماعيل طلب منه إبلاغ السادات باستشهاد شقيقه الرائد طيار عاطف، وكان رد فعل السادات مفاجئا حين قال: "وايه يعني؟!.. ما كلهم ولادنا". وأسعد كثيرا كلما التقيت بالمجند المقاتل محمد المصري صاحب الرقم القياسي في اصطياد دبابات العدو والبالغ 32 دبابة، وحامل وسام "نجمة سيناء". ولا استطيع أن امنع نفسي في كل مرة، من النظر إلى أنامله الدقيقة، التي كان يوجه بها صواريخ الميلوتيكا عبر الأسلاك إلى دبابات العدو، وكأنه يداعب أوتار آلة "القانون". ومن بين كل قادة أكتوبر العظام، ومقاتليها الأبطال، يحتل اللواء عادل يسري الذي فارقنا منذ شهور، منزلة خاصة في وجداني. هذا البطل، كان أحد قادة معركة «رأس العش» أولى معاركنا البطولية بعد أسابيع من هزيمة يونيو، وكان قائد معركة الاستيلاء على جزيرة «البلاح» في القطاع الشمالي بقناة السويس أثناء حرب الاستنزاف، وكان سيد شهداء القوات المسلحة الفريق عبد المنعم رياض يسميه ب«المقدم الفاقد»، لما عرف عنه من بطولة فائقة وشجاعة بلا حدود. عندما اندلع القتال يوم السادس من أكتوبر، كان العقيد عادل يسري يقود اللواء 112 المشاة، ونجح في تدمير قوات العدو، والوصول باللواء إلى أعمق نقطة تصل إليها التشكيلات المصرية في قلب سيناء. وفي يوم التاسع من أكتوبر، وبينما كان العقيد عادل يسري في الخطوط الأمامية يقود رجاله، فاجأته دانة أطلقتها دبابة معادية، بترت ساقه وأطاحت بها. تمالك البطل عادل يسري نفسه رغم الإصابة الشديدة، وأمسك بحفنات من الرمال يكتم بها الدماء التي تفيض من جسده، ثم حمل ساقه المبتورة وهتف في رجاله: «تحيا مصر»، ودفن الساق بنفسه في الرمال، وقال لرجاله الذين تجمعوا من حوله: "من يحبني يواصل القتال". ورفض البطل أن يتم إخلاؤه فور إصابته، وظل يقاتل لمدة 8 ساعات كاملة رغم جرحه البليغ. وحينما التقاه المشير أحمد إسماعيل علي لتكريمه بعد الحرب وتسليمه «وسام نجمة سيناء» قال له: "لقد هزمتنا إسرائيل في 67 بقيادة جنرال بعين واحدة «يقصد ديان»، وهزمناها في 73 ومعنا جنرال برجل واحدة". وقد سجل اللواء عادل يسري قصته كمقاتل في الجيش المصري في مؤلف رائع بعنوان: "رحلة الساق المعلقة: من رأس العش إلى رأس الكوبري". وسطر العقيد عادل قصته بأسلوب مبهر، وكتب مقدمة الكتاب الكاتب الكبير الراحل علي أمين. وأظن هذا الكتاب يستحق أن يكون عملا دراميا عن حرب الاستنزاف ومعارك أكتوبر، وأحسب أن أفلام ودراما حرب أكتوبر ستكون أحد الموضوعات التي ستناقش في جلسات مؤتمر «صناعة الإبداع» الذي تنظمه دار «أخبار اليوم» في عيدها السبعين الذي يوافق شهر نوفمبر المقبل. أعود من خواطري، يملؤني الاعتزاز بأنني عرفت هؤلاء الأبطال الذين تفوح سيرتهم بعطر الرجولة والجسارة والتضحية والوطنية الخالصة. وأستعيد عبارة الجنرال الأمريكي دوجلاس ماكارثر محرر شرق آسيا: "الجنرالات لا يموتون وإنما يتوارون".. وأجدني أقول: "جنرالات مصر لا يموتون وإن واراهم الثري".