حيثيات «الإدارية العليا» لإلغاء الانتخابات بدائرة الدقي    وزيرتا التنمية المحلية والتضامن ومحافظ الغربية يتفقدون محطة طنطا لإنتاج البيض    تعرف على مشروع تطوير منظومة الصرف الصحي بمدينة دهب بتكلفة 400 مليون جنيه    نائب محافظ الجيزة وسكرتير عام المحافظة يتابعان تنفيذ الخطة الاستثمارية وملف تقنين أراضي الدولة    إما الاستسلام أو الاعتقال.. حماس تكشف سبب رفضها لمقترحات الاحتلال حول التعامل مع عناصر المقاومة في أنفاق رفح    الجامعة العربية تحتفى باليوم العالمى للتضامن مع الشعب الفلسطينى    شبكة بي بي سي: هل بدأ ليفربول حياة جديدة بدون محمد صلاح؟    إبراهيم حسن يكشف برنامج إعداد منتخب مصر لأمم أفريقيا 2025    وادى دجلة يواجه الطلائع ومودرن سبورت وديا خلال التوقف الدولى    الأهلي أمام اختبار صعب.. تفاصيل مصير أليو ديانج قبل الانتقالات الشتوية    أحمد موسى: حماية الطفل المصري يحمي مستقبل مصر    حكم قضائي يلزم محافظة الجيزة بالموافقة على استكمال مشروع سكني بالدقي    خطوات تسجيل البيانات في استمارة الصف الثالث الإعدادي والأوراق المطلوبة    الثقافة تُكرم خالد جلال في احتفالية بالمسرح القومي بحضور نجوم الفن.. الأربعاء    مبادرة تستحق الاهتمام    مدير وحدة الدراسات بالمتحدة: إلغاء انتخابات النواب في 30 دائرة سابقة تاريخية    انطلاق فعاليات «المواجهة والتجوال» في الشرقية وكفر الشيخ والغربية غدًا    جامعة دمنهور تطلق مبادرة "جيل بلا تبغ" لتعزيز الوعي الصحي ومكافحة التدخين    أسباب زيادة دهون البطن أسرع من باقى الجسم    مصطفى محمد بديلا في تشكيل نانت لمواجهة ليون في الدوري الفرنسي    رئيس الوزراء يبحث مع "أنجلوجولد أشانتي" خطط زيادة إنتاج منجم السكري ودعم قطاع الذهب    هل تجوز الصدقة على الأقارب غير المقتدرين؟.. أمين الفتوى يجيب    "وزير الصحة" يرفض بشكل قاطع فرض رسوم كشف على مرضى نفقة الدولة والتأمين بمستشفى جوستاف روسي مصر    محافظ جنوب سيناء يشيد بنجاح بطولة أفريقيا المفتوحة للبليارد الصيني    أمينة الفتوى: الوظيفة التي تشترط خلع الحجاب ليست باب رزق    وزير العدل يعتمد حركة ترقيات كُبرى    «بيت جن» المقاومة عنوان الوطنية    بعد تجارب التشغيل التجريبي.. موعد تشغيل مونوريل العاصمة الإدارية    عبد المعز: الإيمان الحقّ حين يتحوّل من أُمنيات إلى أفعال    استعدادًا لمواجهة أخرى مع إسرائيل.. إيران تتجه لشراء مقاتلات وصواريخ متطورة    دور الجامعات في القضاء على العنف الرقمي.. ندوة بكلية علوم الرياضة بالمنصورة    الإحصاء: 3.1% زيادة في عدد حالات الطلاق عام 2024    الصحة العالمية: تطعيم الأنفلونزا يمنع شدة المرض ودخول المستشفى    الرئيس السيسي يوجه بالعمل على زيادة الاستثمارات الخاصة لدفع النمو والتنمية    وزير التعليم يفاجئ مدارس دمياط ويشيد بانضباطها    من أول يناير 2026.. رفع الحدين الأدنى والأقصى لأجر الاشتراك التأميني | إنفوجراف    وزير الخارجية يسلم رسالة خطية من الرئيس السيسي إلى نظيره الباكستاني    رئيس الوزراء يتابع الموقف التنفيذي لتطوير المناطق المحيطة بهضبة الأهرامات    إعلان الكشوف الأولية لمرشحي نقابة المحامين بشمال القليوبية    موعد شهر رمضان 2026 فلكيًا.. 80 يومًا تفصلنا عن أول أيامه    وزير الثقافة يهنئ الكاتبة سلوى بكر لحصولها على جائزة البريكس الأدبية    رئيس جامعة القاهرة يستقبل وفد جودة التعليم لاعتماد المعهد القومي للأورام    الإسماعيلية تستضيف بطولة الرماية للجامعات    وزير الإسكان يتابع تجهيزات واستعدادات فصل الشتاء والتعامل مع الأمطار بالمدن الجديدة    دانيلو: عمتي توفت ليلة نهائي كوبا ليبرتادوريس.. وكنت ألعب بمساعدة من الله    ضبط 846 مخالفة مرورية بأسوان خلال حملات أسبوع    تيسير للمواطنين كبار السن والمرضى.. الجوازات والهجرة تسرع إنهاء الإجراءات    مصطفى غريب: كنت بسرق القصب وابن الأبلة شهرتى فى المدرسة    شرارة الحرب فى الكاريبى.. أمريكا اللاتينية بين مطرقة واشنطن وسندان فنزويلا    صندوق التنمية الحضرية : جراج متعدد الطوابق لخدمة زوار القاهرة التاريخية    وزير الخارجية يلتقي أعضاء الجالية المصرية بإسلام آباد    صراع الصدارة يشتعل.. روما يختبر قوته أمام نابولي بالدوري الإيطالي    إطلاق قافلة زاد العزة ال83 إلى غزة بنحو 10 آلاف و500 طن مساعدات إنسانية    اتحاد الأطباء العرب يكشف تفاصيل دعم الأطفال ذوي الإعاقة    تعليم القاهرة تعلن خطة شاملة لحماية الطلاب من فيروسات الشتاء.. وتشدد على إجراءات وقائية صارمة    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 30نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا.... اعرف مواعيد صلاتك بدقه    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للتدريب المشترك « ميدوزا - 14»    مركز المناخ يعلن بدء الشتاء.. الليلة الماضية تسجل أدنى حرارة منذ الموسم الماضى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيق الحياة ورائحة الزمن (7)
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 09 - 09 - 2014

ذهبت إلي »د. بطرس غالي»‬ وقلت له إلي أين أرسلتني؟! فقال لي »‬وهل أنت مولود في السويد؟ انظر إلي تقرير الحالة الذي يقدم للدبلوماسي الأمريكي المعين في »‬القاهرة» قبل حضوره، وبالفعل وجدته لا يقل سوءًا عن نظيره الهندي!
انتهت سنوات الخدمة في »‬لندن» وعدت للعمل في ديوان عام الوزارة ما بين »‬المعهد الدبلوماسي» مشرفًا علي أبحاث الدبلوماسيين وما بين مكتب الدكتور »‬بطرس غالي» وزير الدولة للشؤون الخارجية مشاركًا في إصدار »‬الكتب البيضاء» حول اتفاقية »‬كامب ديفيد» أواتفاقية السلام، أوقناة السويس أونهر النيل أوالعلاقات مع أفريقيا وغير ذلك من الوثائق حيث تمكن »‬بطرس غالي» من توظيف عدد من تلاميذه الدبلوماسيين وأنا منهم لخدمة الارشيف الوطني للخارجية المصرية بتجميع وثائقها المبعثرة، خصوصًا أن بعض حكامنا قد استنوا تقليدًا غريبًا بعقد اللقاءات مع القادة الزائرين علي انفراد دون وجود »‬محضر للجلسة» أو »‬مضبطة للاجتماع»! فاختلت إلي حدٍ كبير ذاكرة الدولة وضاعت كثير من الحقائق في ظل ذكرياتٍ يكتبها البعض بعد رحيل شهودها، ولقد رأيت في نهاية سبعينيات القرن الماضي أن أواصل عملي الأكاديمي فانخرطت في التدريس في »‬الجامعة الأمريكية» في »‬القاهرة» بعد استئذان الخارجية المصرية وظللت علي ذلك في الفترة من 1979 إلي عام 1993 ولم يقطعها إلا سنوات عملي في »‬الهند» حيث كنت أقوم بالتدريس هناك أيضًا في جامعة »‬جواهر لال نهرو»، ولعلي أشعر بالفخر الآن أن عددًا من سفرائنا المرموقين كانوا تلاميذي في »‬الجامعة الأمريكية» قبل أن يدرسوا تحت إشرافي في »‬معهد الدراسات الدبلوماسية»، لقد كانت تجربة »‬الجامعة الأمريكية» بالنسبة لي نمطًا خاصًا تعرفت فيه وأنا نتاج لنظام التعليم المصري ثم البريطاني علي طبيعة التعليم الأمريكي وخصائصه التي تتسم بالمرونة واليسر إذا ما قورنت بتشديد نظام التعليم البريطاني وتراجع نظام التعليم العربي، ولقد اخترت أثناء تدريسي للعلاقات الدولية في أقسام الدراسات العليا أن يعتمد الطلاب علي إعداد البحوث وكتابة التقارير، كما كنت علي تواصل دائم مع واحد من أقرب أصدقاء العمر والذي قدمني للجامعة الأمريكية بالقاهرة في البداية وهو الدكتور »‬علي الدين هلال» العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية والذي نالت السياسة منه رغم أنه أضاف إليها، وكان من بين من اقتربت منهم من أساتذة الجامعة البروفيسور »‬تم سوليفان» رئيس قسم العلوم السياسية والذي أمضي في »‬مصر» أكثر من ربع قرن كامل، كما سعدت عندما استقدمت الجامعة أستاذي الذي أشرف علي رسالتي البروفيسور »‬فاتيكيوتس» للتدريس عدة أسابيع كأستاذ زائر يسترجع خلالها بعض ذكريات إقامته في »‬الكنانة»، وقد أقمت علي شرفه حفل استقبالٍ في النادي الدبلوماسي وسعد الرجل كثيرًا بلقاء عدد من أصدقائه القدامي وكان منهم »‬يوسف إدريس» و»تحسين بشير» ومن تلاميذه »‬وليد قزيحة» والراحلة »‬مني أبو الفضل» وواحد من تلاميذي النابهين الذي درست له في سنته النهائية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ثم أعد أطروحة الدكتوراة بعد ذلك عن »‬مصطفي النحاس» لدي نفس الأستاذ الذي كتبت عنده أطروحتي عن »‬مكرم عبيد وأقباط الوفد المصري» قبل ذلك بعقد ونصف من الزمان، ولقد أصبح »‬علاء الحديدي» سفيرًا لمصر في »‬تركيا» و»روسيا» و»رومانيا»، زمن يدور وحياة لا تتوقف! ولقد كانت تجربة التدريس بالنسبة لي مصدر سعادةٍ ورضا لأن فيها تجديدًا وألفةً وتقاربًا بين الأجيال، ولقد حصلت من الجامعة الأمريكية علي شهادة التدريس بدرجة أستاذ وهي التي أهلتني بعد ذلك لكي أكون رئيسًا للجامعة البريطانية في »‬مصر» بترشيحٍ من رجل الصناعة الذي أنشأها السيد »‬محمد فريد خميس» وبموافقة من رئيس الدولة وقرارٍ وزاري من الدكتور »‬عمرو سلامة» وزير التعليم العالي حينذاك، وقد أتاحت لي فترة التدريس الطويلة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة نشاطًا أكاديميًا واسعًا للإشراف علي الرسائل الجامعية في عدد من الجامعات المصرية ومناقشة عدد أكبر منها، فلازلت أعتز بأسماء مثل »‬وحيد عبد المجيد» و»نيفين مسعد» و»هالة مصطفي» و»محمد شومان»وغيرهم ممن كنت ممتحنا لهم في درجة الدكتوراه، والغريب في الأمر أنني تمكنت من التوفيق بين تدريسي في »‬الجامعة الأمريكية» وعملي في »‬مؤسسة الرئاسة» وأعترف أن الرئيس الأسبق »‬مبارك» لم يمنعني بل شجعني علي إلقاء المحاضرات العامة في الجامعات والمنتديات والمؤتمرات العلمية، إن تجربة الجامعة الأمريكية قد فتحت أمامي آفاقًا واسعة للتعرف علي عدد ضخم من الأساتذة المصريين أو الزائرين كما كانت سببًا لقيامي بإلقاء محاضرات متتالية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة حيث كنت مدعوًا من زملائي الأساتذة، ولازلت أتذكر أنني كدت أتفرغ للتدريس وأترك السلك الدبلوماسي وأقبل التعيين مدرسًا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ولكن ترقيتي في ذلك الوقت إلي درجة »‬سكرتير أول» جعلتني أراجع الأمر وأستمع إلي نصيحة أستاذي الدكتور »‬بطرس بطرس غالي» بالبقاء في الخارجية، ثم جاءت تجربة انتقالي للعمل في »‬نيودلهي» بمثابة صدمةٍ في البداية فقد كانت لدينا أنا وزوجتي ابنتان صغيرتان مع مخاوف من الطقس الحار والحياة الصعبة في ذلك الوقت »‬بالهند»، لذلك ذهبت إلي مكتبة السفارة الأمريكية بالقاهرة وسحبت صورة من »‬تقرير حالة» عن الحياة في »‬الهند» والتي توزع علي الدبلوماسيين الأمريكيين المنقولين إلي »‬نيودلهي»، ووجدت فيها أن »‬الكوليرا» متوطنة و»الملاريا» وبائية والمياه تحتاج إلي الغلي والتنقية قبل شربها، فأخذت التقرير وذهبت إلي »‬د.بطرس غالي» وقلت له إلي أين أرسلتني؟! فقال لي »‬وهل أنت مولود في السويد؟ احضر لي تقرير الحالة الذي يقدم للدبلوماسي الأمريكي المعين في »‬القاهرة» قبل حضوره، وبالفعل ذهبت وأحضرت التقرير فإذا به لا يقل سوءًا عن نظيره الهندي! عندئذِ قال لي وزير الدولة للشؤون الخارجية اذهب إلي »‬الهند» فأنت درست الأقليات نظريًا في »‬بريطانيا» ويجب أن تراها واقعيًا في »‬الهند»، ولا زلت أكرر أن إقامتي في »‬الهند» لسنواتٍ أربع قد أفادتني كثيرًا علي المستويات الفكرية والثقافية والدبلوماسية فهي بلد الغني الفاحش والفقر المدقع، بلد »‬المهراجات» و»المنبوذين»، بلد الاكتفاء الذاتي من الحبوب الغذائية لمليار ومائتي مليون نسمة وواحدة من الدول الصناعية الكبري، كما أنها دولة »‬نووية» ودولة »‬فضاء»، ولعلنا ندرك أن الجدية والاستمرار هي التي انتشلت تلك الدولة العظيمة مما كانت فيه واضعين في الاعتبار أننا كنَّا نقف علي صفٍ واحد معها صناعيًا في ستينيات القرن الماضي، وكنت كلما قام »‬د.بطرس غالي» بزيارته السنوية للهند أقدم له هدية رمزية فاخترت له في أول زيارة ميزانًا صغيرًا من النحاس، وقد ظل يكرر دعابته لي حتي تجاوز التسعين من عمره قائلاً أهديتني ميزانًا لتذكرني بالعدل الذي شعرت أنت بغيابه عندما نقلتك إلي »‬الهند» ولكنك لن تنسي أبدًا قيمة تلك السنوات في حياتك! وأتذكر عندما زارت السيدة تحية قرينة الرئيس الراحل »‬جمال عبد الناصر» الهند، وكيف استقبلتها رئيسة الوزراء »‬أنديرا غاندي» في المطار، وعندما أقمت حفل عشاءً علي شرفها تهافت السفراء العرب طالبين الحضور رغم القطيعة الدبلوماسية والعزلة التي كنَّا نشعر بها بعد اتفاقية »‬كامب ديفيد»، وأتذكر أيضًا يوم أن استقبلت »‬أنديرا غاندي» في مكتبها عبقري القصة القصيرة »‬يوسف إدريس» وكنت مرافقًا له لا أنسي الروح الودية التي أحاطته بها وسؤالها المتكرر عن »‬هدي عبد الناصر» وشقيقها »‬خالد» والحديث عن قيمة »‬مصر» ومكانتها رغم أن »‬الهند» كانت تميل حينذاك للموقف العربي المعترض علي سياسة الرئيس الراحل »‬السادات» وذلك نظرًا لمصالحها وحجم عمالتها في دول الخليج.. إن تجربة الهند كما قال الفيلسوف العربي »‬البيروني» تجمع المتناقضات من الفضيلة إلي الرذيلة، من الغني إلي الفقر، من التقدم إلي التخلف.
ذهبت إلي »د. بطرس غالي»‬ وقلت له إلي أين أرسلتني؟! فقال لي »‬وهل أنت مولود في السويد؟ انظر إلي تقرير الحالة الذي يقدم للدبلوماسي الأمريكي المعين في »‬القاهرة» قبل حضوره، وبالفعل وجدته لا يقل سوءًا عن نظيره الهندي!
انتهت سنوات الخدمة في »‬لندن» وعدت للعمل في ديوان عام الوزارة ما بين »‬المعهد الدبلوماسي» مشرفًا علي أبحاث الدبلوماسيين وما بين مكتب الدكتور »‬بطرس غالي» وزير الدولة للشؤون الخارجية مشاركًا في إصدار »‬الكتب البيضاء» حول اتفاقية »‬كامب ديفيد» أواتفاقية السلام، أوقناة السويس أونهر النيل أوالعلاقات مع أفريقيا وغير ذلك من الوثائق حيث تمكن »‬بطرس غالي» من توظيف عدد من تلاميذه الدبلوماسيين وأنا منهم لخدمة الارشيف الوطني للخارجية المصرية بتجميع وثائقها المبعثرة، خصوصًا أن بعض حكامنا قد استنوا تقليدًا غريبًا بعقد اللقاءات مع القادة الزائرين علي انفراد دون وجود »‬محضر للجلسة» أو »‬مضبطة للاجتماع»! فاختلت إلي حدٍ كبير ذاكرة الدولة وضاعت كثير من الحقائق في ظل ذكرياتٍ يكتبها البعض بعد رحيل شهودها، ولقد رأيت في نهاية سبعينيات القرن الماضي أن أواصل عملي الأكاديمي فانخرطت في التدريس في »‬الجامعة الأمريكية» في »‬القاهرة» بعد استئذان الخارجية المصرية وظللت علي ذلك في الفترة من 1979 إلي عام 1993 ولم يقطعها إلا سنوات عملي في »‬الهند» حيث كنت أقوم بالتدريس هناك أيضًا في جامعة »‬جواهر لال نهرو»، ولعلي أشعر بالفخر الآن أن عددًا من سفرائنا المرموقين كانوا تلاميذي في »‬الجامعة الأمريكية» قبل أن يدرسوا تحت إشرافي في »‬معهد الدراسات الدبلوماسية»، لقد كانت تجربة »‬الجامعة الأمريكية» بالنسبة لي نمطًا خاصًا تعرفت فيه وأنا نتاج لنظام التعليم المصري ثم البريطاني علي طبيعة التعليم الأمريكي وخصائصه التي تتسم بالمرونة واليسر إذا ما قورنت بتشديد نظام التعليم البريطاني وتراجع نظام التعليم العربي، ولقد اخترت أثناء تدريسي للعلاقات الدولية في أقسام الدراسات العليا أن يعتمد الطلاب علي إعداد البحوث وكتابة التقارير، كما كنت علي تواصل دائم مع واحد من أقرب أصدقاء العمر والذي قدمني للجامعة الأمريكية بالقاهرة في البداية وهو الدكتور »‬علي الدين هلال» العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية والذي نالت السياسة منه رغم أنه أضاف إليها، وكان من بين من اقتربت منهم من أساتذة الجامعة البروفيسور »‬تم سوليفان» رئيس قسم العلوم السياسية والذي أمضي في »‬مصر» أكثر من ربع قرن كامل، كما سعدت عندما استقدمت الجامعة أستاذي الذي أشرف علي رسالتي البروفيسور »‬فاتيكيوتس» للتدريس عدة أسابيع كأستاذ زائر يسترجع خلالها بعض ذكريات إقامته في »‬الكنانة»، وقد أقمت علي شرفه حفل استقبالٍ في النادي الدبلوماسي وسعد الرجل كثيرًا بلقاء عدد من أصدقائه القدامي وكان منهم »‬يوسف إدريس» و»تحسين بشير» ومن تلاميذه »‬وليد قزيحة» والراحلة »‬مني أبو الفضل» وواحد من تلاميذي النابهين الذي درست له في سنته النهائية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ثم أعد أطروحة الدكتوراة بعد ذلك عن »‬مصطفي النحاس» لدي نفس الأستاذ الذي كتبت عنده أطروحتي عن »‬مكرم عبيد وأقباط الوفد المصري» قبل ذلك بعقد ونصف من الزمان، ولقد أصبح »‬علاء الحديدي» سفيرًا لمصر في »‬تركيا» و»روسيا» و»رومانيا»، زمن يدور وحياة لا تتوقف! ولقد كانت تجربة التدريس بالنسبة لي مصدر سعادةٍ ورضا لأن فيها تجديدًا وألفةً وتقاربًا بين الأجيال، ولقد حصلت من الجامعة الأمريكية علي شهادة التدريس بدرجة أستاذ وهي التي أهلتني بعد ذلك لكي أكون رئيسًا للجامعة البريطانية في »‬مصر» بترشيحٍ من رجل الصناعة الذي أنشأها السيد »‬محمد فريد خميس» وبموافقة من رئيس الدولة وقرارٍ وزاري من الدكتور »‬عمرو سلامة» وزير التعليم العالي حينذاك، وقد أتاحت لي فترة التدريس الطويلة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة نشاطًا أكاديميًا واسعًا للإشراف علي الرسائل الجامعية في عدد من الجامعات المصرية ومناقشة عدد أكبر منها، فلازلت أعتز بأسماء مثل »‬وحيد عبد المجيد» و»نيفين مسعد» و»هالة مصطفي» و»محمد شومان»وغيرهم ممن كنت ممتحنا لهم في درجة الدكتوراه، والغريب في الأمر أنني تمكنت من التوفيق بين تدريسي في »‬الجامعة الأمريكية» وعملي في »‬مؤسسة الرئاسة» وأعترف أن الرئيس الأسبق »‬مبارك» لم يمنعني بل شجعني علي إلقاء المحاضرات العامة في الجامعات والمنتديات والمؤتمرات العلمية، إن تجربة الجامعة الأمريكية قد فتحت أمامي آفاقًا واسعة للتعرف علي عدد ضخم من الأساتذة المصريين أو الزائرين كما كانت سببًا لقيامي بإلقاء محاضرات متتالية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة حيث كنت مدعوًا من زملائي الأساتذة، ولازلت أتذكر أنني كدت أتفرغ للتدريس وأترك السلك الدبلوماسي وأقبل التعيين مدرسًا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ولكن ترقيتي في ذلك الوقت إلي درجة »‬سكرتير أول» جعلتني أراجع الأمر وأستمع إلي نصيحة أستاذي الدكتور »‬بطرس بطرس غالي» بالبقاء في الخارجية، ثم جاءت تجربة انتقالي للعمل في »‬نيودلهي» بمثابة صدمةٍ في البداية فقد كانت لدينا أنا وزوجتي ابنتان صغيرتان مع مخاوف من الطقس الحار والحياة الصعبة في ذلك الوقت »‬بالهند»، لذلك ذهبت إلي مكتبة السفارة الأمريكية بالقاهرة وسحبت صورة من »‬تقرير حالة» عن الحياة في »‬الهند» والتي توزع علي الدبلوماسيين الأمريكيين المنقولين إلي »‬نيودلهي»، ووجدت فيها أن »‬الكوليرا» متوطنة و»الملاريا» وبائية والمياه تحتاج إلي الغلي والتنقية قبل شربها، فأخذت التقرير وذهبت إلي »‬د.بطرس غالي» وقلت له إلي أين أرسلتني؟! فقال لي »‬وهل أنت مولود في السويد؟ احضر لي تقرير الحالة الذي يقدم للدبلوماسي الأمريكي المعين في »‬القاهرة» قبل حضوره، وبالفعل ذهبت وأحضرت التقرير فإذا به لا يقل سوءًا عن نظيره الهندي! عندئذِ قال لي وزير الدولة للشؤون الخارجية اذهب إلي »‬الهند» فأنت درست الأقليات نظريًا في »‬بريطانيا» ويجب أن تراها واقعيًا في »‬الهند»، ولا زلت أكرر أن إقامتي في »‬الهند» لسنواتٍ أربع قد أفادتني كثيرًا علي المستويات الفكرية والثقافية والدبلوماسية فهي بلد الغني الفاحش والفقر المدقع، بلد »‬المهراجات» و»المنبوذين»، بلد الاكتفاء الذاتي من الحبوب الغذائية لمليار ومائتي مليون نسمة وواحدة من الدول الصناعية الكبري، كما أنها دولة »‬نووية» ودولة »‬فضاء»، ولعلنا ندرك أن الجدية والاستمرار هي التي انتشلت تلك الدولة العظيمة مما كانت فيه واضعين في الاعتبار أننا كنَّا نقف علي صفٍ واحد معها صناعيًا في ستينيات القرن الماضي، وكنت كلما قام »‬د.بطرس غالي» بزيارته السنوية للهند أقدم له هدية رمزية فاخترت له في أول زيارة ميزانًا صغيرًا من النحاس، وقد ظل يكرر دعابته لي حتي تجاوز التسعين من عمره قائلاً أهديتني ميزانًا لتذكرني بالعدل الذي شعرت أنت بغيابه عندما نقلتك إلي »‬الهند» ولكنك لن تنسي أبدًا قيمة تلك السنوات في حياتك! وأتذكر عندما زارت السيدة تحية قرينة الرئيس الراحل »‬جمال عبد الناصر» الهند، وكيف استقبلتها رئيسة الوزراء »‬أنديرا غاندي» في المطار، وعندما أقمت حفل عشاءً علي شرفها تهافت السفراء العرب طالبين الحضور رغم القطيعة الدبلوماسية والعزلة التي كنَّا نشعر بها بعد اتفاقية »‬كامب ديفيد»، وأتذكر أيضًا يوم أن استقبلت »‬أنديرا غاندي» في مكتبها عبقري القصة القصيرة »‬يوسف إدريس» وكنت مرافقًا له لا أنسي الروح الودية التي أحاطته بها وسؤالها المتكرر عن »‬هدي عبد الناصر» وشقيقها »‬خالد» والحديث عن قيمة »‬مصر» ومكانتها رغم أن »‬الهند» كانت تميل حينذاك للموقف العربي المعترض علي سياسة الرئيس الراحل »‬السادات» وذلك نظرًا لمصالحها وحجم عمالتها في دول الخليج.. إن تجربة الهند كما قال الفيلسوف العربي »‬البيروني» تجمع المتناقضات من الفضيلة إلي الرذيلة، من الغني إلي الفقر، من التقدم إلي التخلف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.