المحامي في هذه المحكمة هو الوحيد الذي يكسب وباقي الأطراف تخسر.. لكن من يدخل هذا المكان عليه أن يتقبل قوانينه.. فلا عجب أن تسمع فجأة زغرودة أو تري دموعا بعد كل حكم يصدره القاضي.. كل شيء جائز وعلى من يدخل هذه المحكمة أن يتوقع أي شيء دون أن يسأل لماذا وكيف ومتى حدث.. الدكتورة ماجدة كانت واحدة من هؤلاء اللاتي دخلن المحكمة لأول مرة، وظلت طوال الجلسات مبهورة بما تراه وتسمعه وتعايشه.. لقد انتقلت فجأة من برجها العالي في هيئة التدريس بالجامعة لتجلس جنبا إلى جنب مع الست نجاة التي أصبحت زميلتها في طلب الطلاق.. الدكتورة ماجدة تطلب الطلاق من زوجها أستاذ الطب.. والست نجاة بائعة الخبز تطلب الطلاق من زوجها ماسح الأحذية.. وهكذا الحال في محكمة الأسرة.. المهندس حسين يرفض منح زوجته الفنانة الشابة نفقة متعة ويقدم دليلا على ضرورة حرمانها من هذه "المتعة"، وبواب العمارة في أحد الأحياء يشكو زوجته لأنها حرمته من رؤية طفله، بعد أن هربت من بيت الزوجية وتزوجت بواب عمارة مجاورة.. حكايات بعضها مثير وبعضها مرعب وبعضها الثالث كاد يدفع الدكتورة ماجدة إلى عدم حضور أية جلسة والبقاء في بيتها أو بين تلميذاتها في الجامعة.. لكن يبدو أن شيئا ما كان أقوى من هذه الرغبة دفعها إلى الاستمرار في قضيتها التي رفعتها ضد زوجها أستاذ الطب.. ربما كانت الرغبة في الإنتقام أو الثأر لكرامتها أو إثبات حقيقة جديدة أمام زوجها وبشكل عملي فلم تعد هي القطة المغمضة كما ظل يتعامل معها، وإنما شاءت له أن يشاهد أنيابها.. ولو كان الثمن "فرجة" الناس عليها وعليه.. سألناها قبل الجلسة.. ولماذا هذا الموقف الذي يسيء إليك كأستاذة جامعية...؟ وردت بكل هدوء.. لن أرد الآن.. اسمعني وأنا أترافع بنفسي أمام القاضي، وسوف تعذرني وتتبدد دهشتك وتحترم موقفي. وانتظرت حتى جاءت اللحظة الموعودة.. ووقفت الدكتورة ماجدة تروي للمحكمة لماذا ترفض كل دعاوى الصلح وتصر على الانفصال عن زوجها بطلقة بائنة لا رجعة فيها. قالت ماجدة: سيدي القاضي.. أسرار البداية في حياتنا سوف تفك الكثير من ألغاز النهاية التي أصر عليها.. تزوجت الدكتور أنور منذ حوالي ثلاثين عاما.. كان كل منا حاصلا على الدكتوراه حديثا.. الفارق الوحيد بيننا أنه كان فقيرا معدما، بينما كنت أنا ثرية حفيدة إحدى العائلات التي يشار إليها بالبنان.. ضحيت بالفارق المادي الكبير لأني أحببته فعلا، وأعترف أني لم أعرف الحب أبدا إلا معه.. لا قبله.. ولا بعده.. اشتريت له عيادة وسيارة ومنحته كل ثروتي ليتصرف فيها كيفما شاء.. وكبرنا وكبرت أحلامنا وصارت له ثروة هائلة.. لم أشعره يوما بأنني سبب نعمته و"وش السعد" عليه.. كنت مؤمنة بأنني أديت رسالتي كاملة نحو من اختاره قلبي شريكا لحياتي.. وحينما تحب المرأة فمن الطبيعي أن تمنح رجلها ما تملك حتى لو كانت كنوز الأرض تحت يدها.. لم أجعله يوما يشعر بالغيرة رغم جمالي.. حافظت على بيته وشرفه وأولاده وسهرت الليالي حتى نلت درجة الأستاذ مثله رغم الأعباء الإضافية التي أثقلت كاهلي من بيت وأولاد.. وفي النهاية اكتشفت بالصدفة أن الأستاذ الكبير وقع في غرام الممرضة التي كانت تعمل في عيادتي.. تصوروا عمق الجرح الذي سببه لي.. ضبطته ذات ليلة حينما زرته على غير عادتي في عيادته بعد أن انصرف كل المرضى.. دخلت عليه ففوجئت بالممرضة في وضع مخز.. وقفت مذهولة لا أصدق عيني.. كاد قلبي يتوقف.. انسحبت الممرضة في هدوء.. غادرت العيادة.. وانخرطت أنا في البكاء.. جلس إلى جواري يجفف دموعي ويقسم لي أنها نزوة وأفاق منها.. أقسم لي أنني لو سامحته فلن ينسى لي هذا الجميل أبدا، وسوف يعوضني عن الجرح الذي سببه لي.. تحاملت على نفسي وانصرفت معه دون أن أنطق بكلمة واحدة.. كان الشيطان يرقص أمامي.. والظنون تلعب بي.. وذكريات العمر كله تتلاحق مشاهدها في لحظات خاطفة.. وفي البيت راح يرجوني ألا يعرف أولادنا شيئا حتى لا يبدو والدهم صاحب الهيبة والمقام الكبير مراهقا صغيرا.. توسل لي أن أسامحه وأمنحه فرصة لن أندم عليها أبدا.. لكني ورغم اعتصامي بعقلي وتحكيمي للمنطق وتغليبي للمصلحة العامة واقترابي من اتخاذ قرار المصالحة اشترطت عليه أن يجيبني بصراحة مطلقة عن كل أسئلتي قبل أن أعلن العفو عنه.. ووافق دون تردد.. ورحت أسأله: ما الذي دفعك إلى ذلك.. ألم أكن أملأ عينيك؟ ولا تنسي أن الصراحة هي شرطي الوحيد لإعلان العفو؟.. بصراحة.. أهملتني يا ماجدة.. أنت نفسك نسيت حقي عليك، وتعاملت في البيت كأستاذة جامعية.. أعصابك متوترة.. "شخط ونطر".. نظارة طبية ومراجع ومواعيد للنوم والاستيقاظ، وكأن حياتنا الزوجية انتهت بعد عشر سنوات من زفافنا.. كنت بحاجة إلى امرأة حقيقية.. دماغها فاضية من كل شيء إلا الحب والرجل الذي تحبه.. كنت بحاجة إلى أنثى لا أستاذة في الطب.. كنت بحاجة إلى مساحة من الدلع والدلال والفرفشة بعد أن تحول البيت إلى مدرج في قاعة محاضرات.. سامحيني لقد اتفقنا على الصراحة.. ولهذا لم أكذب عليك. ووجهت إليه سؤالا أخيرا: ما عمر علاقتك بهذه الممرضة؟ منذ فترة طويلة وهي تحصل على إجازة يومين كل أسبوع من عيادتي بحجة رعاية أطفالها من زوجها الذي طلقها.. هل كانت تواظب على الحضور إليك في هذه المواعيد.. أرجوك دعني أستريح حتى تخفف إحساسي بأنني كنت مخدوعة كل هذا الوقت؟ نعم.. كانت تتردد على في هذا الوقت.. علاقتي بها بدأت منذ سنتين وانتهت الليلة.. وأعدك لقد انتهى كل شيء.. ويسعدني أن تطرديها من عيادتك فورا. هذا أمر طبيعي. وتستطرد الدكتورة ماجدة قائلة: جاهدت مثل الأبطال حتى أنسى هذه الواقعة من أجل أولادي وبيتي.. وقمت بثورة داخل بيتي.. بدأت أهتم بنفسي وأنوثتي وأمنحه وقتا خاصا على حساب عملي وأعصابي.. ارتديت الملابس التي يحبها.. واظبت على دعوته للمسرح أو السينما أو العشاء خارج البيت.. سهرت معه ندردش ونفرفش ونسمع الأغاني وأعانقه مثل بطلات السينما.. اعتبرت زوجي أهم قضية في حياتي ولا يجب أن أخسرها أبدا.. لكن تلقيت الطعنة الكبرى التي أطاحت بكل شيء.. عادت الممرضة بعد ثلاث سنوات تطلب مقابلتي بإلحاح.. ورغم رفضي مرات ومرات سمحت لها بالدخول.. فوجئت بها تبكي وتحكي لي قصة غريبة.. أقسمت أنها لم تسامح نفسها على الخطأ الفادح الذي ارتكبته في حقي وأنا التي عطفت عليها وفتحت لها بيتها بعد طلاقها، وأقسمت أنها تحملت الجوع هي وأولادها بعد أن طردتها من عيادتي لتكفر عن خطيئتها في حقي، لكنها لا تريد أن تكرر الخطأ مرة ثانية. صارحتني أن زوجى عاد إليها منذ أسابيع وطالبها بحقه الشرعي وقدم لها شيكا بمائة ألف جنيه وعقد شقة تمليك باسمها في إحدى المدن البعيدة وأقنعها أنني لم أعد أشك فيه.. وراحت الممرضة التي استيقظ ضميرها تسلمني الشيك وعقد الشقة.. لكني سألتها في دهشة عن الحق الشرعي الذي يطالبها زوجي به، فأجابتني بمفاجأة جديدة.. قالت لي إن علاقتها بزوجي لم تكن نزوة كما أفهمني، ولكنه كان قد تزوجها عرفيا.. وطلبت هي أن تحتفظ بورقة الزواج فلم يمانع.. والآن ها هو يريد أن يحتفظ بي وبها في وقت واحد.. مازال يخدعني ويطعن كرامتي بالسهام المسمومة.. لقد فوجئ بي أحضر هنا وأطلب الطلاق.. وراح يطاردني في كل مكان بعد أن هجرت بيت الزوجية.. ظل يلاحقني يريد أن يعرف السبب وبكل وقاحة دافع عن نفسه في الجلسة الماضية بأنه وفر لي كل أسباب السعادة دون أن يعلم أنني أمرت زوجته "العرفية" أن تستدرجه وأن تتسلم منه كل ما يخدمني في هذه القضية، حتى أثبت استحالة الحياة الزوجية بيننا.. لقد طلبت من زوجته الجديدة أن تفوز بالشقة والمائة ألف جنيه وتمنحني عقد الزواج العرفي حتى أقدمه لكم في ساحة العدالة.. أرجوكم.. أنقذوني منه.. لا أنا أريده.. ولا هي. تنشق الأرض عن الممرضة التي ضربت ثلاثة عصافير بحجر واحد.. فازت بالشقة.. والمبلغ الكبير.. واشترت ثقة صاحبة الفضل عليها الدكتورة ماجدة.. وقفت الممرضة تعلن أمام المحكمة أنها تنفست الصعداء الآن لأنها أصبحت مطلقة بتمزيق عقد الزواج العرفي بيد الدكتورة ماجدة بعد أن أودعت صورته في أمانة سر المحكمة.. لكنها قبل أن تغادر المحكمة انسحب الدكتور أنور في هدوء وهو يتحاشي النظر إلى السيدتين ودون أن يرد على زوجته أمام المحكمة.. ونطق القاضي بحكم الطلاق.. وفي أحد جنبات القاعة جلست الدكتورة ماجدة تبكي.. سألناها: ولماذا البكاء؟ - قالت ماجدة بهدوء شديد: بتريحني دموعي.. ساعات!