ان الوعي بالمستقبل هو استباق قبل انفلات الكوارث، فعندما تأتي المحظورات غرة دون الوعي بمقدماتها وقرائنها، عندئذ تتحول الي معضلات، وتغدو مواجهتها ادانات، واتهامات، وارتباكات تعطل الاستيعاب، وتعرقل اعادة البناء، في عام 1991 تفكك الاتحاد السوفيتي، وقبل ذلك بعام واحد استبصر »الكسندر بروخانوف« الكاتب والمحلل السياسي، المأساة القادمة، معلنا: »ان الكارثة المريعة التي لا تخطر علي بال الشعب الروسي قد وقعت، فقد تمزقت الدولة، وسرق الشعب وخدع بكل تاريخه الممتد الي الف عام، وقد انتهي وحيدا علي حين غرة، واشقاؤه حتي عهد قريب حملوا ممتلكاتهم واختفوا في زوارق النجاة العائدة، وابحروا بعيدا عن السفينة المائلة، حسنا، لم يعد لنا مكان نتوجه اليه، ان الدولة الروسية التي تجسد »الفكرة الروسية« سياسيا، واقتصاديا، وروحيا سيعاد بناؤها من جديد، سوف تجمع معا افضل ما تبقي من ممتلكاتها التي دامت الف عام، وفي السنوات السبعين للتاريخ السوفيتي التي مرت مثل لحظة« تتضمن الصيحة تمنيات استعادية لافتراضات نظرية، لم تتحول بعد الي مفهوم يشخص التوجه الي اهداف ومعايير مشتركة، بوصفها الدعائم التي ينهض عليها المجتمع، فتجعله قابلا للتغيير، وقادرا عليه، ورهان ذلك استراتيجية تسعي الي اعادة بناء نسق جديد لبنية المجتمع، وتأسيس هيكلة متجددة لعلاقاته، وفق آليات تتيح امكانية ملاحظة خريطة التغيير، وقياس مراحله. ان مدونة احداث تفكك الاتحاد السوفيتي، تؤكد ان »ميخائيل جورباتشوف« عندما اعلن ان التغيير تنجزه ثنائية الشفافية، واعادة البناء، فانه بذلك قد حدد وسيلة العبور، لكن السؤال المهم: الي اين؟ فقد تلعثمت الاجابة عنه، صحيح ان »جورباتشوف« كان واعيا بخطايا النظام، مدركا لمسلسل هزائمه، فشرع في كشف فساده، وعجزه، واستبداده، لكن الصحيح كذلك انه جاء متأخرا، ومفتقدا لوجهة مسار التغيير، التي يحددها الوعي الواضح بالنظام السياسي والاقتصادي الذي يسعي اليه، لذا غرق الاتحاد السوفيتي في حقبة سيطر عليها الخلل، وانهارت عملية الاصلاح، بل جري الدفع ب »جورباتشوف« داعية التغيير خارج الحلبة، انتهت الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي، واصبحت الولاياتالمتحدة صاحبة الدلالة السياسية المتفردة، كقطب وحيد، لكن عندما ساد التوجه نحو تعددية دولية حقيقية، اذ بالولاياتالمتحدة تعيد انتاج الاستقطاب بتحويل القوة الي سيطرة، تمارس ارادتها علي ارادة الاخرين، كتب »صموئيل هنتنجتون« عام 3991 مؤكدا ان »عالما بدون سيادة الولاياتالمتحدة سيكون عالما اكثر عنفا وفوضوية، ان السيادة الدولية المستدامة للولايات المتحدة ضرورية لرفاهية الامريكيين وامنهم، ولمستقبل الحرية والديمقراطية والاقتصاد المنفتح والنظام الدولي في العالم« ثم عام 6991 في مقالته »تآكل المصالح القومية الامريكية«، راح »هنتنجتون« ينعي حال القوة الامريكية المتفوقة لعدم قدرتها علي مؤازرة التفوق الكاسح بالنفوذ علي الصعيد العالمي، مستشهدا بما نشره »جوناثان كلارك« في مجلة »فورن بوليسي« عام 6991، الذي كشف عن قائمة تحديات دول العالم للولايات المتحدة، حيث تحدت سنغافورة البالغة الصغر الضغط الامريكي عام 4991، وواصلت عقاب مراهق امريكي ضربا بالعصا، ونجحت كوبا المفلسة المعزولة في تغيير سياسة الهجرة الامريكية، وتحدت بولندا مطالب امريكا بعدم الاستمرار في ابرام صفقة اسلحة مع ايران، وقاومت الاردن ضغط واشنطن بقطع روابطها التجارية مع العراق، ورفضت الصين المطالب الامريكية بشأن حقوق الانسان، كما عجزت امريكا عن تحقيق اهدافها بشأن السياسة التجارية مع الصين واليابان، وفشلت في اغراء روسيا بفرض قيد علي نقل الاسلحة والتكنولوجية الي الصين، واخفقت ايضا في ضغطها علي الفلسطينيين والاسرائيليين ليكونوا اكثر اتفاقا، وعجزت عن حمل الصرب والكروات المسلمين علي تعاون ذي مغزي في البوسنة، وعجزت كذلك عن تحقيق اصلاح اقتصادي كما تريد في اليابان وقد ابدي »كلارك« تعجبه من موقف الولاياتالمتحدة، الذي يراه لا يتناسب مع صورتها بوصفها القوة العظمي الوحيدة في العالم، لكن »زيجنيو بريجنسكي« في كتابه »رؤية استراتيجية امريكا وازمة القوة العالمية« الصادر عام 2102، يري ان الولاياتالمتحدة عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، تلبستها حالة من الثقة اللا محدودة بالنفس، دفعتها الي اجراءات اقتصادية، وسياسية متهورة، تبدت في تكريس الجشع الرأسمالي، بالانفلات خارج كل ضوابط الممارسات الاقتصادية، فانتجت فقاعات اقتصادية متتالية، بلغت ذروتها بكارثة عام 8002 ومارست ايضا سياسات متهورة قادتها الي حروب ارهقتها ماليا وسياسيا، ويورد »بريجنسكي« مقارنة تتضمن العديد من نقاط التشابه بين الاتحاد السوفيتي قبل انهياره، وبين الوضع الحالي للولايات المتحدة، لذا فانه يدعو امريكا الي تجديد رؤيتها الاستراتيجية لمواجهة تحديات عالم متغير، بأن تمارس مصارحة الذات، وتصويب الاخطاء، وتهيئة الظروف لتعميق التعاون، واستيعاب الطموحات المتنامية لشعوب العالم، حيث ان توزيع القوة العالمية لم يعد محصورا في الغرب، وثمة صحوة سياسية عالمية غير مسبوقة، ورغبة عارمة للشعوب في امتلاك مصيرها، وعلي الولاياتالمتحدة ان تبرهن للعالم انها تملك الرغبة في ترميم ذاتها من الداخل، »ففي زماننا هذا لا يستطيع الغرب والشرق ان يظلا منعزلين، ولا يمكن للعلاقة بينهما الا ان تكون اما تعاونا متبادلا، واما دمارا متبادلا« هل ما يطرحه »بريجنسكي« يعد تأكيدا لما اعلنه »فوكوياما« عام 8002، بأن الهيمنة الامريكية علي العالم انتهت فعليا، لتنامي قوي عالمية فاعلة كالصين؟ وهل تتبدي قناعة امريكا بذلك، ام انها مازالت تمارس عجرفة السلطة، وغطرسة القوة؟!.