لا شك أن الانسان يوجد بقدر ما يتذكر ويعرف لكن هناك أطروحة تري إمكانية التلاعب بالذاكرة، لإزاحة ذلك الوجود وتعطيله بأن تنتزع ذاكرة لشخص رجل عالم، ويجري نقلها من جسده الي جسد شخص يعمل حفاراً للقبور.. إن المعضلة هنا في ذلك التناقض بين ذاكرة الرجل العالم، الذي تبدي حاملاً لجسد حفار قبور بوصفه قد أصبح جسده وأداته، التي لا تتوحد مع عقل العالم، وكيانه، وذاكرته، وعندئذ تتجلي إشكالية التوفيق بينهما.. إن جسد حفار القبور نظراً الي انغلاق تجربته، وافتقار مكتسباته العلمية وحصيلة مهاراته وقطيعته المعرفية مع كل ما لدي ذاكرة الرجل العالم، سوف يطيح بمعادلات التوازن بين العقل والجسد، فيعوق إشراق تطلعات أداء ذلك الرجل العالم وممارساته ويجهضها.. إن مغزي هذا الافتراض يكمن في دلالة تجسيد مأزق التناقض ودوام استمراره، بالنسبة الي شخص واحد، وذلك بكسر علاقة التوازن بين عقل يتسم باقتداره علي اكتشاف مسافات المعني في تعامله مع وجوده، وبين جسد مغاير، ممانع، لا ينفتح علي ذلك الاقتدار، ويصبح حاجزاً أمامه، وفي ظل ذلك التناقض يغدو كل شئ اعتباطياً، وتتبدي استحالة تصور أي شئ بوضوح تري كيف تكون الحال لو جري افتعال هذا التلاعب من جانب قوي خارجية، وفرضه علي مجتمع ما بأن يعمم عليه هذا التناقض بحيث يتحول المجتمع نفسه الي عقبة ضد نفسه؟.. اللافت للنظر أن هذا التلاعب قد يكون افتراضاً قابلاً للإدراك علي مستوي التخيل فقط، ويغدو إشكالاً يستعصي علي الإدراك وجوداً ملموساً، لكنه علي الحقيقة قد أصبح محض صناعة، وسلعة متداولة لمن يدفع الثمن بل تحول هذا التلاعب الي سلاح من أسلحة الحرب غير المعلنة، وإن لم يرد ذكر سلاح التلاعب ضمن مجموعة الأسلحة التي يتضمنها الكتاب السنوي الضخم الذي يصدره المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن، بعنوان التوازن العسكري، إذ يطرح الكتاب كل عام بيانات اقتصادية، وسكانية، وعسكرية، مصحوبة بتقييم موثق لحصاد الانفاق العسكري لمائة وسبعين دولة علي مستوي العالم، ويورد بيانات مفصلة لما يجسده هذا الانفاق لكل بلد، من ممتلكات عسكرية ومعدات، وأسلحة، وذخائر، وأنواعها، وعددها، العامل منها والمخزون، جواً، وبحراً، وأرضاً، وكذلك حصراً بعدد التشكيلات البشرية ووحداتها تري ما سر إحجام تلك المؤسسة المختصة عن إدراج هذا السلاح في قوائمها؟ صحيح أن سلاح التلاعب يتخذ من آليات الحجب، والتضليل، والتعمية، أسلوباً خافياً لممارسة حرب متوارية، غير معلنة ضد مجتمع ما، من جانب قوي مناهضة له، وصحيح أيضاً أن هذه الحرب تستهدف مثل أية حرب تقويض سلطة الدولة علي موقعها الجغرافي ومجتمعها، لكن الصحيح كذلك أنها تختلف عن الحروب التقليدية المعلنة، ليس في أسلوبها، بل أيضاً في أدواتها، إذ لا تستخدم قوات عسكرية تقليدية بتشكيلاتها ووحداتها، أو ترسانة أسلحتها المملوكة لدولة ما، التي يوردها حصراً المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في كتابه السنوي، إذ تستأجر القوي المناهضة بعض الشركات العسكرية الخاصة التي يوكل إليها تنفيذ خطة تفكيك الكيان الاجتماعي، حيث أيضاً تستأجر تلك الشركات مرتزقة يؤدون - وفقا لخطة التلاعب - دور الجسد العازل، المانع، والمضلل لإشراقات فطنة العقل بتذكره الحافل وإدراكاته، وذلك في ضوء ممارساتهم المناقضة لحقائق الواقع، تكريساً للنهب، والعنف، والقتل، والفوضي بحدودها القصوي، اجتراء علي القوانين كافة، عبر امتداد جغرافي شرطه الوحيد الانفلات من كل القيم والمفاهيم العامة، فيتوالد التناقض والريبة لدي الجميع، ويحترب الكل ضد الكل، عندئذ يهزم المجتمع بنفسه وجوده، إذ إن تكلفه الانفلات تدفعها الأرواح والحريات، وتدفعها أيضاً البنية المؤسسية للدولة التي تجسدها مؤسساتها الدائمة في المجالات العامة، لكن رهان فعالية هذه الحرب غير المعلنة، أن يحكمها اتساق زمني لفرصة مواتية، كأن تكون الأوضاع العامة لذلك المجتمع خاضعة لتحولات استثنائية أساسية معقدة، تستقطب سائر المجتمع، حتي تتبدي صدمة طوفان تلك الممارسات بوصفها خارجة من رحم تلك التحولات إخفاء للفاعل المستتر صحيح أنه في ظل الرعب المفرط لا يغدو الانفلات موضوع فهم عقلاني، لكن الصحيح كذلك أن الأمر يكون أشد تعقيداً عندما يكون العقل بطاقة تذكره مشلولاً بحاجز عازل يمنع تواصله، متجلياً في تلك الكائنات المتوحشة التي تمارس الرعب الصارخ، وتنشر موجات الضباب في المجال العام بالاختراق والتعمية، وتبث ادعاءات ومزاعم، وتشيع استيهامات وهواجس، وتقذف بانطباعات وانفعالات تحجب الفاعل الحقيقي. إن الاختراق في الظلام هو عالم سادة كارتيلات الجريمة المنظمة، من يرتدون الأقنعة، توارياً عن الظهور في الضوء، يريدون المجازر، وينشرون الرعب، لذا لم يورد المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في قائمته سلاح التلاعب السري، وذلك بوصف الحروب المتوارية لتلك القوي، محض نشاط للجريمة المنظمة غير المشروعة، التي تهدد في الخفاء حريات الشعوب وحقوقها ونظامها الاجتماعي. هل مازال السؤال مطروحا من هؤلاء الذين يدمرون ويحرقون ويقتلون ؟