امتلك الثائر سبارتاكوس في عام 37 قبل الميلاد، ومعه طليعة من سبعين مقاتلاً، جسارة إعلان مواجهة جحافل روما، وعياً بأن المواجهة هي جسر العبور الوحيد الذي يقودهم الي التحرر من العبودية، والخلاص لهم من ذلك التقاتل القسري الذي فرضته عليهم ثقافة العنف في إطار فرجة رهانها استنزاف حياتهم بأن يموتوا، إمتاعاً لأسيادهم المسكونين بالعنف، المستلذين بمشاهدة ذلك التقاتل الوحشي، في ظل امتداد سلطتهم وقوتهم بوصفهما آلية فرض إرادتهم لتدجين البشر وامتلاكهم إن تصدر سبارتاكوس وطليعته للمواجهة، تحقيقاً لذلك التحول المصيري يعد لحظة نهضوية عازمة علي إزالة مبادئ نظام روما بمنطقه ومسلماته، والقطيعة معه لتحل محله مبادئ نظام جديد ثوري، يكفل الحرية والعدالة للمستذلين من البشر، انطلاقاً من أن إدراكهم لمعني الحرية ليس لأنفسهم فقط بل وعياً بأنها غاية عامة، تستأهل أن تبذل من أجلها التضحيات تخطياً للمعهود المذل لجوهر الانسان وكرامته، وذلك دون استهداف للحصول علي تمييز لذا جاء نداء سبارتاكوس مؤكداً انه يعد العبيد بحقوق متكافئة لقد انضم الي الطليعة الثورية، باندفاع ذاتي، حوالي مائة ألف من المقاتلين العبيد المستذلين، فكونوا جيشاً بقيادة سبارتاكوس، ألحق بالجيش الروماني هزائم متعددة في أكثر من معركة. لكن مدونات التاريخ تروي حكاية مفادها أن المتحررين من عبوديتهم فور انتصارهم علي جحافل الرومان، قد نظموا حفلات للفرجة علي معارك للتقاتل حتي الموت بين مئات من الرومانيين الأسري، تكراراً لتلك المعارك التي كانوا هم أنفسهم ضحاياها من قبل، في ظل مبدأ العبودية الذي ثاروا عليه لقد جلس المتحررون من عبوديتهم في المدرجات التي كانت الطغمة الحاكمة تحتلها، أما الجنود الرومانيون المتقاتلون فقد أصبحوا عبيداً للسادة الجدد الذين راحوا يتفرجون عليهم في ظل صخب هذيانهم، وفرحهم، وهياجهم تري هل تحول فيض قوة انتصارهم الي امتياز افتخاري، وهل شكل ذلك حجبا لمبدأ النظام الجديد الذي يجب أن يسود روما، بإلغاء العبودية، وتحقيق العدالة الاجتماعية تفعيلا للحقوق المتكافئة؟ كان علي النخبة الانتباه لدلالة هذا السلوك ومرجعيته وتأثيره، وكيفية مواجهة ما قد يأتي تالياً عليه في ظل أي ظرف تواطؤ حماية لمبادئ الثورة لما يلحقه بها من ضرر فادح، لاستبقائه مبدأ العبودية، وإعادة إنتاج النظام الذي ثاروا عليه قرر سبارتاكوس الزحف لتطويق روما، فإذ بردة ارتجاعية قد تبلورت في انسحاب الجيش - رغم انتصاراته - مقرراً التقهقر عودة الي صقلية، طارحاً خلفه مهام إرساء المبادئ التي ثار من أجلها، وكأن الثورة قد اختزلت في حصول كل فرد علي حريته، والانفلات بها، واختفت بذلك حقيقة الحقوق المتكافئة للجميع لكن باءت بالفشل كل محاولاتهم للهرب، إذ طاردهم الجيش الروماني وهزمهم، وقتل سبارتاكوس، وصلب منهم أكثر من ستة آلاف فرد. لقد كشفت النهاية عن غياب النخبة وعجزها عن استدراك المخفي، بسبر أغوار الأحداث، ومتابعة تحصين الروح الثورية الجمعية، ودوام استنفارها عبر وعي تنويري بالتغيير وأهدافه وآليات حدوثه ومراحله، بما يحميها من أي اختراق داخلي أو خارجي يحاول تفتيتها. ان النخبة لم تدرك وقتها ان إجهاض الثورة يعني حرمانها من ان تنتج وجودها. ولأن النخبة تجسد مفهوم الضمير العام لمجتمعها وتطلعاته، بوصفها مرجعية ماثلة عبر جسور الممارسة الدائمة في تواصلها التنويري مع مجتمعها، في كل شئون تفاعلات المجال العام واهتماماته، ولأن غيابها، أو سلبيتها، يشكل تهديداً لوحدة مجتمعها لذا تورد مدونات التاريخ نماذج من نتائج وقائع غياب دور النخبة عن تواصلها مع مجتمعها، ففي النمسا عام 5981 أسفرت نتائج انتخابات عمدة المدينة عن اختيار »كارل لوجير« وعندما اكتشفت النخبة أن الاختيار كان لشخص طائفي، عنصري، متطرف، أدركت نتيجة غياب تواصلها التنويري مع مجتمعها، وتجلي موقفها الاستدراكي التاريخي والاستثنائي، في محاولة لحماية مجتمعها من الخسائر الكارثية التي تفتت تعايشه، إذ التقي المثقفون المستنيرون، وعلي رأسهم عالم النفس »سيجموند فرويد«، مع الكنيسة الكاثوليكية علي ضرورة تفادي تعيينه، وشاركهم الرأي رأس الدولة الإمبراطور »فرانسوا جوزيف« الذي لم يعتمد قرار تعيينه. ويتجلي نموذج سلبية النخبة عن الاضطلاع بدورها التنويري في ألمانيا عقب عام 3391، حين أسفرت الانتخابات عن اختيار هتلر لقيادتها. صحيح أنه لاحق المثقفين، وحرق كتبهم، لكن الصحيح كذلك أن سلبية النخبة تجاه تجاوزاته أدت به الي الزج بألمانيا في كارثة، نتيجة موت الحرية، وتسلط العنف، وعبودية العقل، ودفع الشعب الألماني ثمن سلبية نخبته عشرة ملايين قتيل تري ماذا ستروي مدونات التاريخ عن موقف النخبة المصرية تجاه ثورة 52 يناير؟