بعد ثلاثة أيام تدخل الثورة السورية شهرها الثامن، وما تزال كرفيقة دربها وأختها التي تقاربها عمرا الثورة اليمنية تقدم جرحي وشهداء وتتشكل حولها فرضيات ثورية ونظريات احتيال سياسية، فالثانية تلعب بها المبادرة الخليجية منذ أشهر، والأولي جمدت آفاقها السياسية المبادرة العربية التي تمتلك إيجابيات - وربما حسن نوايا - لكن ليس عندها قدرة، ولا ضمانات ولا آليات تنفيذ، وما بين المبادرتين يعمل ديكتاتوران من طينة كاذبة واحدة علي افشال كل حركة، فلا يلتزمان بأي حرف من أي اتفاق، ولا يثق بهما أحد. ولا تسمح هذه الطينة المحتالة، والمراوغة بأي حل سياسي الا اذا تضمن الحل بقاءها الكامل بالسلطة أو إمساكها في حال تنازلت أمام الضغوط الدولية بمعظم الخيوط التي تسمح لها بحماية سرقاتها وملياراتها، ومحاسيبها، بل، ومكانتها في التاريخ السياسي، فالاثنان في صنعاء ودمشق يقولان نظريا إنهما دعامة الاستقرار وصمام الأمان في حين ان الواقع العملي يثبت بالتدهور اليومي الملحوظ إنهما من أكبر عوامل التفتت والانقسام. المحايدون الذين ليسوا من طينة الثوار ولا بالضرورة من عينة »البلاطجة« يدركون ان علي عبد الله صالح لن يرحل إلا اذا ارسل اليمن قبله إلي حتف الانقسام والتشرذم القبلي والمناطقي، وفي الحالة السورية يعرفون ان بشار الأسد ان بقي حاكما ذهبت سوريا التي نعرفها تاريخيا بوحدتها وموقعها الفاعل، ودورها الاقليمي، وجاءت سوريا أخري مصغرة منقسمة وضائعة الملامح تتلاعب بها القوي الاقليمية والدولية برغبته ورضاه لأنه خلال هذه الأشهر الدموية قد كشف للجميع ان كل ما يهمه هو كرسيه، أما البلاد فلتذهب في أي اتجاه حتي وان كان يضعفها ويقزمها شرط أن يظل هو ولا أحد غيره حاكمها، أو لم يوص شبيحته بأن يرفعوا في كل المدن السورية شعار »الأسد أو لا أحد«. لقد حمي بشار الاسد نفسه حتي الآن بالمخابرات وبعض فرق الجيش الموالية وصنع حول الحالة السورية درعا من الأكاذيب وأوصي وكما يبدو من التصريحات المستشارين والمقربين أن يواصلوا الكذب حتي يصدقوا أنفسهم، فصار هؤلاء يكذبون في أبسط الامور وليس في قضايا »العصابات المسلحة والارهابيين« فحسب وآخر الأمثلة علي ذلك انهم بدأوا يكذبون في ما لا يتطلب الكذب، فبثينة شعبان مستشارته السياسية والاعلامية تخبر روبرت فيسك في الاندبندنت البريطانية - عدد الثامن من نوفمبر - انها شخصيا من حمص مع أن كل اهل الساحل السوري علي الأقل يعرفون انها وشقيقتها لواء من القرداحة بلد الرئيس الفاقد للشرعية. ومع أعراض الكذب علي الحاشية تظهر أعراض التزوير المرافق للنفاق، فمفتي سوريا بدر حسون وبعد ان أوغل الاسد في القتل والاجرام بطريقة لم يسبقه إليها سفاح في العصر الحديث يصفه بالسماحة والوداعة والصفاء، ويخبر الشعب نيابة عن رئيسه أن الأخير سيتفرغ لاحقا وبعد أن ينتهي من »الاصلاح« لمهنته الأثيرة وهي طب العيون، وكأن حسون يتوقع ان هناك من يمكن ان يغامر ويأتي إلي عيادة هذا الفاقد للبصر والبصيرة طلبا للعلاج. ومع تعقد المشهد السياسي وزيادة دمويته تدريجيا يعرف السوريون قبل غيرهم أنه لا الجيش الفعلي ولا المخابرات، ولا جيوش الأكاذيب التي تتراكم منذ شهور قادرة علي حماية رئيس فقد الشرعية السياسية والاخلاقية والقانونية لكنهم ومهما كانت أشكال المواساة لا يستطيعون التخلص من غصة ترافقهم، وقد تعيش معهم لفترات طويلة قادمة سببها موقف الجيش الذي سلحوه وقتروا علي أنفسهم وصرفوا عليه ليحميهم ويحرر أرضهم، فاذا به يوجه السلاح إلي صدورهم، وكأنهم هم الأعداء وليس اولئك الذين يغتصبون الارض السورية في الجولان التي سلمها والد الرئيس الحالي دون قتال. ويدرك هؤلاء المكلومون بجيشهم ان بعض الفرق وليس الجيش كله هي التي تزرع الدمار والخراب وتسفك دماء السوريين لكن هات من يميز في زمن الفتن والقلاقل بين فرقة واخري، وجيش وآخر، فصدمة السوريين بجيشهم الذي لم يكن مخلصا لعقيدته القتالية ولا لأهدافه المعلنة تفوق صدمتهم باكتشاف انهم نصبوا للرئاسة في غفلة من الزمن قاتلاً محترفا تمسكن الي ان تمكن وخدعهم بمعسول الكلام عن التقدم والاصلاح، فلما جاءت لحظة الحقيقة وجدوه العدو الأول لأي تحولات إصلاحية. لقد كتبت في الشهر الثاني من الثورة السورية جملة أحب أن اذكر بها نفسي قبل الاخرين، وقد كنت يومها متفائلا بسيناريو وردي علي الطريقة التونسية، والمصرية بطله الأوحد الجيش الذي يقف عادة في الأزمات الكبري مع إرادة الشعوب حين تتصادم مع إرادة الحكام. في ذلك التاريخ القريب الذي تفاءلت فيه بدور ايجابي للجيش السوري كتبت »قد يكون هذا السيناريو ورديا لكنه حتي الآن السيناريو الوحيد المقبول عسكريا ومدنيا لأن السيناريو الآخر رهيب ولا يجرؤ علي التفكير به أو تنفيذه إلا أعتي المجرمين، وهؤلاء موجودون طبعاً والقدرة علي تحجيمهم، ومنعهم من نقل الصراع الي داخل الجيش موجودة أيضا، وفي لحظات الحسم، وكما عودتنا التجارب ودروس التاريخ الحديث يسارع المذعورون الي الرحيل ولا يختارون المواجهة إلا إذا أغلقت في وجوههم جميع دروب الهروب«. وقد أثبت الأسد وشقيقه بما فكرا به ونفذاه من مذابح في كل المحافظات السورية إنهما من أعتي المجرمين، فالسيناريو الرهيب الاخر الذي أختاراه لم يترك للسوريين خيارا غير مواصلة التمرد علي الظلم والاستبداد والفساد حتي وان دخلت البلاد في حرب أهلية تقربها من الحالة البوسنية، وترفع أرقام الضحايا من ألوف الي عشرات الألوف. أما عن الهرب فقد كان ممكنا بشئ من السلاسة المحمية خليجيا عند الرئيس اليمني وما يزال هذا الطريق مفتوحا أمام بشار وشقيقه لسلوكه لكنهما وبعد مراجعة لكل الاحتمالات يدركان، ان ايران سترحب بهما مضطرة إلي ان يحين وقت المطالبة بهما من قبل النظام الجديد، وتشافيز في فنزويلا يضمن فقط اقامتهما في بلاده ما دام حيا وحاكما وبما أنهما يعرفان ان الرئيس الفنزويلي يصارع مرضا عضالا، وايران نفسها معرضة للضربات والقلاقل، فهل سيقاتلان الشعب بصورة اكثر شراسة إلي أن يبيدا شعبيهما أو يواجها مصير القذافي؟. لقد غاب السيناريو الوردي تحت شلالات السيناريوهات الحمراء لكن ما يزال للجيش دور محوري في رسم مسار الأحداث في سوريا واليمن معا، أما كيف يتم ذلك فتلك قضية مفاجآت لا حسابات، ولن استغرب اذا دخل البلدان مجددا في موجة جديدة من الانقلابات الخاطفة التي تستبدل الشياطين التي نعرفها بأخري لا نعرفها تحتل المشهد وتحاول خطف ثمرة الانتصار من شعبين خذلتهما جيوش مغيبة لم يتح لها ان تفرق في غمرة حملات التحايل والتضليل بين الخيارات المتاحة، ولا أن تدرك لنقص عميق في الوعي ان استمرار حاكم بعينه لا يعني بالضرورة استقرار الوطن.