التصعيد غير المسبوق للعنف ضد الثوار اليمنيين المدنيين في الأيام الأخيرة، والذي أدى إلى استشهاد أكثر من ثمانين مدنيًا في ثلاثة أيام، كان إعلانًا فاضحًا من نظام علي عبدالله صالح بأنه نظام قمعي ديكتاتوري حتى الرمق الأخير، وأن ما يطلقه هذا النظام من شعارات الشرعية والدستورية إنما هو للنفاق والمراوغة من أجل الالتفاف على الثورة ومطالبها وشرعيتها، ومن أجل الاستمرار في الحكم بأي ثمن، مهما كان مرتفعًا أو حتى كارثيًا. حينما أدرك قادة الثورة اليمنية أن الثورة دخلت في طور الجمود، كان منطقيًا أن يفكروا في تصعيد وتائر الثورة لكي يزداد زخمها ولكي تشمل مدنًا جديدة، ولكي تكسب أرضًا جديدة، تمكنها من النجاح ومن تحقيق أهدافها. ولكن النظام القمعي الغاشم رد على التصعيد الثوري السلمي بتصعيد في العنف وقتل المتظاهرين وسفك الدماء وقصف الأحياء والمنازل بالمدفعية الثقيلة. ولأن الفرقة الأولى المدرعة انحازت للثورة والثوار وأخذت ترابط من أجل تأمينهم، دخل الحرس الجمهوري بقيادة أحمد ابن الديكتاتور في معارك طاحنة مع قوات هذه الفرقة، وكثف الحرس الجمهوري إطلاق النار على الشوارع الرئيسية في العاصمة صنعاء؛ مستهدفًا قوات الفرقة المدرعة الأولى التي تتمركز على أسطح البنايات في هذه الشوارع. كانت الرسالة التي قدمها نجل الديكتاتور ورموز النظام هي أنهم على استعداد لقتل عشرات الآلاف بل مئات الآلاف بل الملايين من الثوار، من أجل الحفاظ على الأوضاع القائمة كما هي عليه، وإدامة نظام الديكتاتور حتى لو كان يسير في عكس اتجاه المنطق وسنن الله في الكون، وهذا ما يفسر سقوط هذا العدد الكبير من القتلى، باستخدام أسلحة متنوعة، مع وجود العديد من الجثث في أماكن واقعة تحت بصر القناصة المنتشرين على سطوح المباني التي تطل على الجسر الرئيسي في المدينة، حيث نجح شباب الثورة مع مجموعات من الفرقة الأولى المدرَّعة، التابعة للواء المنشق عن النظام، علي محسن الأحمر، في الاستيلاء عليه، وطرد القوات التابعة للحرس الجمهوري والأمن المركزي من محيطه، حيث تتمركز منذ الأيام الأولى لثورة الشباب، باعتباره أقرب شارع رئيسي يفصل بين المتظاهرين ومنزل نجل الديكتاتور. ضباط وجنود الفرقة الأولى المدرعة استشعروا واجبهم تجاه التصعيد الثوري الذي تم مواجهته بالعنف وسفك الدماء، فلم يكتفوا بموقف المتفرج تجاه ما يجري لشباب الثورة، لكنهم ساعدوا هؤلاء الشباب على الاستيلاء على جسر الزبيري الرئيسي، والمباني الحكومية القريبة منه، التي كانت تُستخدم لإيواء المسلحين بزي مدني، ونجحوا في طردهم من هناك واعتقال عدد منهم. ورغم هذا كانت الأوامر الصادرة من القيادة العليا للفرقة تقضي بعدم التدخل مباشرة في المواجهات، والامتناع عن البدء بإطلاق الرصاص مهما كانت الظروف، منعًا لأي تصعيد محتمل من قبل النظام القمعي. لكن هذا التدخل الإيجابي والمبدئي والأخلاقي لحماية المدنيين الشباب وثورتهم، استغله الإعلام الرسمي ليقول: إن النيران التي أصابت المتظاهرين أتت من الخلف، ولم تكن صادرة من القوات التابعة للحرس الجمهوري، وكان هذا غطاءً لتصعيد النظام عسكريًا ضد المسيرة المليونية. وحينما وصلت الأمور إلى حد المجازر الوحشية، وصل إلى صنعاء المبعوث الدولي إلى اليمن جمال بن عمر، والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبد اللطيف الزياني، في محاولة لتعجيل توقيع آلية تطبيق المبادرة الخليجية. وخرجت تصريحات من الولاياتالمتحدة تتحدث عن أملها في تسوية الأزمة السياسية في اليمن خلال أسبوع، كما تداولت الأوساط السياسية الأوروبية تصريحات تتحدث عن أن الوسيطين الدولي والخليجي سيحضران التوقيع على خريطة طريق اقترحتها الأممالمتحدة لتطبيق المبادرة الخليجية لإنهاء الأزمة اليمنية. وربما تشير هذه التصريحات إلى أن الحكومات الغربية قد اختارت الضغط على الديكتاتور اليمني للتوقيع على المبادرة الخليجية أو على الوثيقة الأممية التي ناقشها ابن عمر مع السلطة اليمنية والمعارضة خلال مهمة له في نهاية يوليو الماضي، والتي من المفترض أن تمهد الطريق لتوقيع المبادرة الخليجية التي يعرقلها علي صالح منذ أشهر. وربما يكون قرار علي صالح مؤخرًا منح نائبه عبد ربه منصور هادي تفويضًا لتوقيع المبادرة الخليجية والاتفاق على آلية زمنية لتنفيذها بعد الحوار مع الموقعين عليها، سيرًا في اتجاه التسوية. إلا أن مقابلة العاهل السعودي لعلي صالح في الرياض جعلت الكثير من المحللين يعربون عن تشاؤمهم، لأن إرادة الحل ستأتي من التوافق الأمريكي-السعودي في اتجاه فرض الحل وإزاحة نظام علي صالح، وهو الذي لا تؤيده المؤشرات والمعطيات على أرض الواقع. الثوار اليمنيون من جانبهم لم يعودوا يثقون في المبادرة الخليجية ولا في المبعوثين الخليجيين الذين يزورون اليمن للتفاوض بشأنها، وهم يراهنون فقط على ثورتهم وحركتهم في الشارع وضغطهم على مفاصل النظام حتى يسقط تلقائيًا. وموقفهم هذا نابع من تراجع علي صالح ثلاث مرات من قبل عن التوقيع على هذه المبادرة التي تقترح خطة تتضمن مشاركة المعارضة في حكومة مصالحة وطنية، مقابل تخلي الرئيس عن الحكم لنائبه، على أن يستقيل بعد شهر من ذلك مقابل منحه حصانة، ثم تنظيم انتخابات رئاسية خلال شهرين. كثير من التقارير تحدثت عن أن من بين الضمانات التي طلبها علي صالح، بقاء ابنه أحمد في تركيبة الحكومة المقبلة, ليلعب دورًا مكملاً لوالده في الحرب على القاعدة. وهو ما يدعم الاتجاهات التي ترى أن موقف النظام لم يتغير بعد. ويتأكد ذلك بتأكيد السكرتير الصحفي لعلي صالح أن الرئيس لا يمكن أن يتنازل عن منصبه حتى يأتي رئيس شرعي جديد لقيادة البلاد، عن طريق الانتخابات الرئاسية، أما تفويض علي صالح لنائبه فهو فقط بشأن الحوار مع أحزاب المعارضة، ثم التوقيع على المبادرة الخليجية. أحزاب المعارضة في تكتل "اللقاء المشترك" رفضت في السابق أن تؤدي الحكومة برئاسة المعارضة اليمين الدستورية أمام علي صالح، وهي تريد أن تبدأ المبادرة باستقالته، دون شروط، وهو شرط رفضه علي صالح، رغم أن المبادرة نصت على أن "يقر مجلس النواب -بما فيه المعارضة- القوانين التي تمنح الحصانة ضد الملاحقة القانونية والقضائية للرئيس ومَن عملوا معه خلال فترة حكمه". كان نظام علي صالح يراهن على عنصر الوقت، وكان يأمل أن يؤدي مرور الوقت إلى انصراف الناس وهدوء الأوضاع، وكان أركان النظام يعتقدون أن استمرار الأزمة سيساعدهم على احتوائها ووقف المد الشعبي الثائر، ويراهنون على أن المعارضة والثوار سيتقاتلون مما يترك لهم الساحة. لكن كل ذلك لم يحدث، ولم ينصرف الناس، وإنما كان مرور الوقت يحمل معه قوة دفع جديدة وزخمًا جديدًا للثوار ومزيدًا من الانشقاقات في الموالين العسكريين والمدنيين للنظام، وجاء نجاح الثورات العربية، وخاصة الثورة الليبية، ليشد من عزم الثوار اليمنيين، ويزيد من تصميمهم على نجاح ثورتهم. كما أن مرور الأسابيع والشهور وتواصل الثورة واستمرارها جعل المواقف الدولية تتطور في اتجاه تأييد المنطق وطبائع الأمور التي تعني ضرورة وحتمية نجاح الثورة. فإذا أضفنا إلى ذلك ما أصاب النظام من اهتزاز في أعقاب محاولة اغتيال رأسه وذهابه إلى السعودية وإقامته هناك حتى الآن، فإن كل هذه العوامل قد تدفع علي صالح ونظامه القمعي الديكتاتوري إلى تغيير رؤيتهم السابقة للمبادرة الخليجية وتغيير التعاطي معها. وربما يفيء النظام اليمني الحاكم إلى رشده، ويدرك أن انعكاسات ما يحدث على الساحة اليمنية لا تهدد المستقبل السياسي فقط، وإنما تصاحبها نذر كوارث اقتصادية وإنسانية. فقد حذرت منظمة "أوكسفام" الدولية للمساعدة من أن هذا البلد الفقير مهدد بكارثة غذائية. فالشلل السياسي أدى إلى شلل الاقتصاد، وتسبب في زيادة هائلة في أسعار المحروقات. وقدرت المنظمة ضحايا الأزمة الاقتصادية في اليمن بثلث عدد اليمنيين البالغ 22 مليونًا، بينما اعتبرت تقارير أخرى أن نمو نصف أطفال اليمن تأثر بسبب فقدان الغذاء، وأن حالة سوء تغذية حادة أصابت ربع النساء بين 15 و49 عامًا. ولم تقف تداعيات هذه الأزمة عند الشأن الاقتصادي والإنساني فحسب، بل امتد تأثيرها إلى التعليم وكافة أركان الدولة، فبعض التقارير تحدثت عن لجوء بعض العائلات إلى سحب أطفالها من التعليم من أجل العمل، بحثًا عن المال في ظل أزمة اقتصادية قوية تضرب البلاد. وتبلغ الأزمة ذروتها لدى عشرات الآلاف من النازحين الذين يعيشون في المدارس في ميناء عدن، وفي مخيمات اللاجئين في الشمال. ومن تداعيات الأزمة أيضًا أن الدولة اليمنية تنهار مع الوقت، وتفقد كل ما بنته، والمجتمع اليمني مهدد بحروب جانبية، وإفلاس اقتصادي، ومعظم الحكومات في العالم تتحاشى التعامل مع الحكومة اليمنية. ويخسر الشعب اليمني مع استمرار الفراغ السياسي وارتفاع احتمالات الصدام والحرب الأهلية، حيث يواجه المجاعة. شباب الثورة وأحزاب المعارضة يتخوفون من احتمال فرض حل لا يتضمن تنحيًا صريحًا وواضحًا للديكتاتور عن السلطة، ويتخوفون من محاولات التفافية على المبادرة الخليجية تحت مسمى إيجاد آلية لتنفيذ المبادرة، والحديث عن خريطة طريق كانت قد رُفضت سابقًا، وتتضمن تشكيل حكومة ائتلافية من المعارضة والحزب الحاكم ثم إجراء انتخابات رئاسية قبل نهاية السنة، ففترة انتقالية قد تمتد لسنتين لوضع دستور جديد. لذلك فإن شباب الثورة وأحزاب المعارضة يرون أنهم إزاء مناورة جديدة من علي صالح ليبقى في السلطة، لأن صلاحياته تخوله لرفض أي اتفاق أو عرقلة تنفيذه. من هنا تأتي أهمية تصعيد الثورة اليمنية وزيادة زخمها وتحمل فاتورتها، فهي الطريق الوحيد لفرض الأمر الواقع على هذا النظام الاستبدادي الدموي، فهذا النظام، مهما بلغ جبروته، لن يستطيع تحمل ثورة تزداد رقعتها كل يوم، وتستمر لمدة عام كامل. المصدر: الإسلام اليوم