يوم صغنا وثيقة الاسكندرية للاصلاح العربي لم يكن أدونيس قد أعلن حبه لبشار الاسد الرئيس المنتخب بمليون رصاصة أطلقها وهو يبتسم علي صدور الشعب ولم نكن قد اكتشفنا بالدليل القاطع خيبتنا الكاملة بكتاب ليبيين كبار وفنانين مصريين ومن مختلف الجنسيات تحدثوا عن الثورة أكثر مما تحدثت شهرزاد عن العشاق والعذال فلما جاءتهم الثورة الي أبوابهم تسعي أغلقوا الابواب وهربوا باتجاه بوصلة أولياء النعم الذين ظلوا مقبولين منهم حتي وان بدماء شعوبهم ولغوا. أحمد ابراهيم الفقيه كان معنا في ذلك اليوم ولم يكن مع شعبه منذ أشهر مع ان الثورات من طبيعتها ان تنطق الكتاب الاحرار لا ان تخرسهم ومن فرسان الوثيقة أيضا المرحوم الطيب صالح الذي كان بيننا كعادته منذ خلق حمامة سلام وغمامة امل ورحل لحسن حظه قبل ان يري سودانه يتشطي. أما عزمي بشارة فقد حضر اجتماعا واحدا وأصابته نوبة قلبية ربما خوفا من هول ما هو آت، وجابر عصفور كان هناك أيضا يهندس المشهد لمستقبل حلمنا به جميعا ثم فرقتنا السبل والأهواء والمصالح، قبل ان يصل ليقطف شهد الخلية قبل الجميع ممثلو الملل والنحل. كنا جمعا من مختلف أقطار العالم العربي نصر ان نرفع رؤوسنا وقامات شعوبنا، والسياط علي ظهورنا تهوي وجميعا قرأنا »خريف البطريرك« لغابرييل غارسيا ماركيز وكنا نعرف قبل قراءتها الكثير عن ممارسات الرؤساء الأفذاذ والساسة الملهمين، والقادة الذين سيتوقف قطار التاريخ ان نزلوا عن عروشهم، فكلهم ضرورات كونية وحتميات تاريخية، لا يمكن لحياة ان تستمر دونهم فهم من يمسك الثور من ذيله كي لا يتحرك، ويهز قرنه، فنذهب شذرا مذرا، وتتوقف الحياة علي الارض ويندثر من عليها. وكان بعضنا ممن يحسن الظن بالمثقفين - ولست منهم - يعتقد أننا جميعا ندرك حجم خديعة الاعلام الرسمي واننا علي قناعة بأن أؤلئك الذين ترسمهم أبواقهم علي انهم من »الملهمين الأفذاذ« ليسوا كذلك فهم انما يمسكون بعنق الثورة لخنقها لا بذيل الثور لتثبيت التوازنات الكونية بل وكنا علي استعداد للرهان ان ابراهيم الكوني لا يمكن ان يكون رغم برودة سويسرا الا مع دفء الناس وطيبتهم وحبهم للحرية. أما اليوم فنتلفت يمينا وشمالا وسويسريا وعربيا بحثا عن شخصياته من فرسان الصحراء الملثمين فلا نري غير بطل »زنقة زنقة« المكشوف الوجه والعورة وهكذا تختلط المشاهد ويضطر بعضنا ليسأل وبالصوت العالي: تري ان لم يعلن الكاتب الحر موقفه الان مما يجري فمتي يعلنه؟ وأين كل هؤلاء الذين تباهوا بالحرية حين لم يكن لها علي الارض وجود، فلما لاحت حنونة ساطعة تسعي اختبأوا منها وخافوها حرصا علي حفنة مصالح زائلة؟ وقبل ان نبدأ بصياغة الوثيقة، وذلك قبل ان تبدأ الثورات بسنوات - 4002 - ذر الخلاف قرنه لخلاف علي الشكل لا الجوهر وانقسم القوم بين من يرحب بحضور الرئيس المصري السابق لافتتاح المؤتمر الذي ستعلن فيه الوثيقة ليحملها معه لاحقا الي مؤتمر القمة العربي في تونس، وبين من يرفض حضوره علي أساس ان الوثيقة نتاج مجتمع مدني ولا حاجة لحشر السياسيين والرسميين في ظروف إطلاقها، فالملوك ما دخلوا قرية الا وأفسدوها، والرؤساء ما أمسكوا لجنة أو وثيقة الا وحل نحسهم عليها. ولم تضغط جبهة الرافضين لحضور الرئيس علي اسماعيل سراج الدين كثيرا لمعرفتها بأنه، ومهما كانت ليبراليته لا يستطيع ان يجاهر بموقف يمنع رئيس البلاد من الحديث في مؤتمر يعقد في مكتبة زوجته عميدتها، وهكذا كان لابد للحل الوسط ان يلد نفسه دون قيصرية، فتم الاتفاق علي ان يأتي الرئيس السابق ليلقي كلمته، ويرحل، ويكون رمزيا قد حمل الوثيقة الي زملائه في قمة تونس - مع ان ارسالها بالفاكس كان اسهل - طالبا منهم تطبيق بعض، أو بعيض ما جاء فيها، ثم نتابع نحن مراسم التبشير بالذي يأتي ولا يأتي علي رأي البياتي.ولاحقا ومع خلع زين العابدين وركوبه بساط الريح الي السعودية ثم توالي الأحداث المباركة في مصر عادت تلك الذكريات كلها طازجة نضرة الي الذاكرة وتساءلت مستغربا: أليست صدفة عجيبة فعلا ان يكون حامل الوثيقة من مصر والمحمولة اليه في تونس اول من يسقط من جوقة ستخسر ثلاثة أو اربعة آخرين قبل نهاية هذا العام، واثنين علي الاقل قبل نهاية هذا الصيف؟ عموما وقبل انتظار تحقق هذه النبوءة لابد من الإقرار ان البطاركة كانوا جميعا عند حسن الظن ولا نعرف من منهم علي وجه الدقة قام بتمزيق الوثيقة أولا قائلا لصحبه: هذه أضغاث أحلامهم لا مكان لها بيننا ولن نسمح بتداولها في نادينا وربما يكون بعض »الملهمين الأفذاذ« قد تصنع الجد اكثر مما يلزم وقال: ايه التخاريف دي يا ريس يريدوننا ان نوافق علي التبادل السلمي للسلطة، الا يعرفون انه لا يوجد في الأمة افضل منا ومن ابنائنا. .وعلي الأرجح انتهت تلك الوثيقة التي كانت عصارة عقول تريد استباق حمامات الدم بالحسني في سلة مهملات بلاستيكية في قرطاج لينساها حاملها والمحمولة اليهم الذين أفاقوا بعد سنوات سبع من تحذير أهملوه علي شعوب تحيي قصيدة »اذا الشعب يوما« وعلي شاب تونسي يؤكد باللحم الحي لمثقفي المقاهي والملاهي ان البطاركة العرب لا يفهمون غير لغة النار، فهم كبطريرك ماركيز في خريفه يعتقدون انهم ومهما تبدلت الفصول خالدون، ويظلون في أوهامهم مهما قيل عنهم سادرون. والسؤال الان ليس هو: هل هم راحلون؟ فتلك لحظة آتية لا ريب فيها، بل السؤال: كيف ومتي؟ فقد قدحت من سيدي بوزيد وميدان التحرير وبنغازي ومن درعا وحماة وصنعاء ومدن عربية أخري شرارة لن يتوقف أوارها قبل ان تقصم ظهورا كثيرة ظن أصحابها ان الحرية عشبة غريبة لا مكان لها في الأرض العربية متناسين صرخة: متي استعبدتم الناس..، التي انطلقت من هذه الأرض يوم كان قاطنوها أصحاب خلق وإرادة، وحملة رسالة حرة وحضارة.