قبل أن تنقشع رائحة البارود من فوق سماء سيناء، وتصمت أصوات نيران المدفعية في أكتوبر 73، كان الرأي العام الإسرائيلي قد أدرك ما ألّم به، وبجيشه ... ما هذا الزلزال الذي أصاب إسرائيل في يوم عيدهم الديني المقدس ... يوم عيد الغفران؟! كانت إسرائيل قد خرجت من حرب يونيو 67، أو ما يطلق عليه حرب الأيام الستة، وقد استولت علي شبه جزيرة سيناء، والضفة الغربية، والقدس الشرقية، وهضبة الجولان... خرجت إسرائيل، من تلك الحرب، منتصرة علي ثلاثة جيوش عربية، ووقف موشي ديان، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت، بجوار التليفون »في انتظار مكالمة من عبد الناصر يعلن فيها استسلامه»، كما ذكر في واحد من أحاديثه الإعلامية. وبفضل الأبواق الإعلامية المنحازة لإسرائيل، ترسخ، لدي شعوب العالم، اعتقاد بأن الجيش الإسرائيلي لا يقهر، وأُطلق علي قواته الجوية، حينئذ، لقب »اليد الطولي» لإسرائيل. وأعقب ذلك الإشادة الدولية بخط بارليف، الذي أنشأته إسرائيل قبل حرب أكتوبر 73، ودخل الموسوعة العسكرية في العالم، بوصفه نموذجاً للتحصينات الدفاعية الثابتة. ومع المساندات، غير المشروطة، من الولاياتالمتحدةالأمريكية، باختلاف إداراتها، لإسرائيل، لضمان تفوقها العسكري في المنطقة، لم يكن لدي إسرائيل شك في قدرتها علي الاحتفاظ بما وضعت يديها عليه من أراض، في يونيو 67، بل وقدرتها علي التوسع فيها. كل ذلك انهار تماماً، وتحطمت الأحلام الإسرائيلية علي صخرة الواقع المصري ... ووقفت جولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، المُلقبة، في إسرائيل، باسم المرأة الحديدية، وبجانبها بطل الشعب اليهودي موشي ديان، في يوم التاسع من أكتوبر 1973، ليعلنا، في مؤتمر صحفي عالمي، هزيمة إسرائيل أمام الضربات القوية للجيش المصري، الذي نجح في عبور قناة السويس، واقتحام خط بارليف، وأفسح لنفسه الطريق، للتقدم في سيناء، نحو إسرائيل. وقد فسر المحللون العسكريون ذلك المؤتمر الصحفي، وإعلان هزيمة إسرائيل، بأنه كان ذريعة تسوقها إسرائيل، لتبرير خطتها بشن ضربة نووية، ضد جيشنا الثاني والثالث، بقنبلة ذرية تكتيكية، لمنع تقدم القوات المصرية نحو العمق في سيناء. والواقع أن هذا المؤتمر الصحفي، أحدث صدمة كبيرة في إسرائيل، فقد كانت تلك أول مرة تنطق فيها إسرائيل لفظ »الهزيمة»، وهي ما وصفتها صحيفة معاريف الإسرائيلية، بأنها الكلمة التي أحدثت زلزالاً، هز كيان المجتمع الإسرائيلي بأسره. ومن هذا المنطلق، واستنكاراً للهزيمة الفادحة التي ألمت بهم، تم علي الفور، في نوفمبر 1973، تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، برئاسة رئيس قضاة المحكمة الإسرائيلية العليا، آنذاك، شيمون أجرانات، وعُرفت باسم »لجنة أجرانات»، إلا أن صحف المعارضة الإسرائيلية أطلقت عليها اسم »لجنة التقصير»، مطالبة إياها بمعرفة، وإعلان، اسماء المقصرين في هذه الحرب، بما أدي لإعلان هزيمة إسرائيل. ظل اسم »لجنة أجرانات» هو الاسم الرسمي المعمول به في أروقة السياسة والكنيست والإعلام، وفي أبريل من عام 1974، أي بعد ستة أشهر من انتهاء الحرب، أصدرت اللجنة تقريرها المبدئي الأول، في 40 صفحة، وكان تقريراً عاماً، لا يتضمن رصداً للوقائع، وإنما ركز علي إجراءات اللجنة، ومنهجها المنتظر للوصول إلي الحقائق، وتم إتاحة هذا التقرير، الأولي، للرأي العام. وفي يوليو 74، أصدرت اللجنة تقريرها الثاني، في 423 صفحة، حاملاً خاتم »سري للغاية»، فلم يُتح للعامة، حتي أنه لم يُعرض علي مجلس الوزراء، أو الكنيست، واكتفت اللجنة بالسماح بنشر 6 صفحات منه، تحمل الخطوط العامة لمحتواه. في يناير 1975، أصدرت »لجنة أجرانات» تقريرها النهائي، في 1511 صفحة، وحُظر نشره تماماً، حتي نجحت جريدة معاريف الإسرائيلية، في عام 1995، بالحصول علي موافقة المحكمة العليا، بالموافقة علي نشر التقرير، بعد عامين كاملين من مطالبتها بالنشر، وصدر قرار المحكمة العليا شاملاً حذف 48 صفحة من التقرير، تخص دور الموساد الإسرائيلي في هذه الحرب. وبالرغم من قرار المحكمة العليا، إلا أن تقرير »لجنة أجرانات» لم يُنشر منه إلا عناوين عامة بشأن الجهات المقصرة في حرب أكتوبر 1973. عادت هذه اللجنة، مرة أخري، إلي الأضواء، في عام 2007، بعرض تفصيلات أخري، ولكن ليس التقرير بالكامل، قبل أن تُشرع إسرائيل قانوناً، يحظر نشر أية وثائق خاصة بحرب 73، قبل ثلاثين عاماً من تاريخ الحرب. وفي 2013، تم نشر نصوص بعض المحادثات، التي تمت بين رئيس الوزراء، وبعض القادة والضباط في الجيش الإسرائيلي، إبان حرب أكتوبر 73، ورغم ذلك، لم يتح، معرفة تفاصيل التقرير النهائي لهذه اللجنة، وهو ما دفع وسائل الإعلام الإسرائيلية، حتي يومنا هذا، لتوجيه انتقادات حادة للحكومة الإسرائيلية، للضغط عليها لإعلان أسماء الجهات، والأشخاص، المقصرين في هذه الحرب، وإن كانت معظم أصابع الاتهام، تشير إلي المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، وفشلها في الحصول علي معلومات عن خطة مصر لشن تلك الحرب، في ذلك اليوم. وترتفع الأصوات الإسرائيلية، متسائلة، هل تأخرت جولدا مائير، وموشي ديان، في استدعاء قوات الاحتياط؟ وهل هناك تقصير من رئاسة الأركان في خطة الدفاع عن سيناء؟ وما هي حقيقة الصراع علي الجبهة المصرية، بين الجنرال جونين قائد الجبهة المصرية، وبين قادة اللواءات المدرعة؟ وكيف تدخل الجنرال شارون في الحرب، دون إبلاغ قيادة الجبهة؟ وغير ذلك من مئات الاسئلة والاستفسارات، التي تحاول الحكومة الإسرائيلية إسكاتها، في وسائل الإعلام الإسرائيلية، عن تقصير الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب، ولم يجد أحداً لها إجابة حتي الآن. ولعل أهم قرارات »لجنة أجرانات» هو عزل رئيس الأركان الإسرائيلي، ديفيد اليعازر، من منصبه، والتوصية بعدم توليه أي مناصب رسمية في إسرائيل، بعد تقاعسه في استدعاء الاحتياطي. وحتي الآن، لم تُعلن إدانة مجلس الوزراء، سواء لرئيسته جولدا مائير، أو لوزير الدفاع موشي ديان. وسيظل المجتمع الإسرائيلي يسأل ويسأل عن أسباب الهزيمة، بالرغم من أنني أري الرد علي هذه التساؤلات، يكمن في قوة الجيش المصري، وصلابة هذا الشعب العظيم، الذي أدي تلاحمهما إلي تحقيق نصر عظيم، صدّع أركان الكيان الإسرائيلي.