مرات عديدة استخدم فيها الرئيس عبدالفتاح السيسي لفظ »العوز» قاصداً الاشارة إلي الحاجة الشديدة للشيء، لكن وللمرة الأولي تحت قبة جامعة القاهرة خلال المؤتمر السادس للشباب استخدم السيسي مصطلح »العوز الأخلاقي». نرجع هنا إلي أواخر سبعينيات القرن الماضي مع صعود تيار التأسلم السياسي حيث انتشرت مظاهر لتدين مزعوم اعتمد علي التغيير الشكلي دون إضافة جوهرية حقيقية، بمرور السنوات حدثت المفارقة الغريبة انتشار لمظاهر تنسب نفسها للإسلام مع تراجع ملحوظ وممنهج في المستوي العام للذوق والأخلاق، ليرتبط المظهر المتدين بسمة من الغلظة المتعمدة، كما لو أن الأديان لم تأت لإسعاد الناس. في الحقيقة أن عملية التمظهر والتظاهر بحالة متأسلمة شكلية كانت متعمدة لأسباب لم يعد هناك سعة من الوقت لتأخير مواجهتها بشكل مؤسسي ومجتمعي، هذه الحالة المتعمدة الواجب التصدي لها استندت لما يلي: استخدام مظاهر الإسلام كوسيلة للتمييز الطائفي الشكلي في الشارع المصري. استخدام المظاهر المتأسلمة لتمكين ثقافة وافدة تهدف لغزو هوية المجتمع المصري. استخدام المظاهر المتأسلمة للتدليل علي افتقاد المجتمع المصري للأخلاق وبالتالي هو في حاجة دائمة لمن يرشده لهذه الأخلاق المفتقدة، ولن يكون هناك أولي من جماعات الإسلام السياسي للقيام بدور الإرشاد فيصبح مبرر وجودها منطقيا. فلا تندهش إذا اكتشفت أن هذه الجماعات لا تريد للأخلاق أن تسود في المجتمع لأن ذلك سينهي أدوارها المصطنعة. نتكلم هنا من منطلق اجتماعي ومنطق ديني، نتجه مباشرة إلي فصل مهم في تكوين الشريعة الاسلامية القائمة علي ثلاثة مرتكزات أساسية (عقائد - عبادات- معاملات)، لن نخوض في التفاصيل الدينية، إنما سنتوقف عند فصل المعاملات وهي تفاصيل عن الحياة المشتركة وعن أدوات التواصل الاجتماعي بين الناس التي تحكمها قواعد انسانية وأخلاقية قد تمكنك من أن تأسر من أمامك بالخلق الحميد وبالكلمة الطيبة وبالتالي تزيد حجم تأثيراتك عليه وحجم استجابته لك، كل ذلك يحقق المفهوم الحقيقي لمعاني السلام الاجتماعي. الغريب أنك تجد ترويجا في كتب التاريخ لانتشار الاسلام بسبب معاملات التجار المسلمين ثم لا تجد لذلك صدي عمليا في الواقع الحاضر. أرصد حركة تلك الجماعات التي فرغت المجتمع من أخلاقه الحميدة عن عمد بعدما رسخت في أذهان أجيال أن الحالة الأخلاقية ليست مستمدة من ثوابت الإسلام، وأن أخلاق المجتمع لابد أن تستمد من حالة سلفية غابرة وإن كانت مخالفة لأعراف وتقاليد المجتمع، كل ذلك بهدف إحداث خلخلة مجتمعية تتيح لتلك الجماعات الحركة داخل المساحات التي تم تفريغها في عموم الوعي المصري. عملية التفريغ ليس لها هدف إلا خلق مجتمع لا تفارقه حالة الشعور بالذنب التي لا سبيل للخلاص منها إلا باللجوء لتلك الجماعات والإعراض عن الدولة. كل ذلك مرتبط بعملية بناء الإنسان التي تحدث عنها الرئيس خلال خطاب التنصيب للولاية الرئاسية الثانية، ثم لاحظ الأداء الأخلاقي الرئاسي المعلن لن تجد اساءة واحدة لأي شخص أو لأي جهة أو مؤسسة أو دولة تلميحاً أو تصريحاً. قبل حديثه عن العوز الأخلاقي حرص الرجل علي أن يقدم نموذجاً اخلاقياً عملياً قولاً وفعلاً من خلال خلطة شديدة التعقيد اندمجت فيها الحالة الرئاسية بالحالة الإنسانية بشكل ظاهر في الأداء المعلن. في كل اطلالة جماهيرية تجد الرئيس مسيطراً علي ثباته الانفعالي لا ينجرف نحو التجريح حتي في أوقات الأزمات. بعد ذلك تجول في الشوارع وعلي شاشات القنوات، توقف عند حجم التلوث السمعي والبصري المحيط بحركة المجتمع، أرصد حالة التحفز والتربص التي فرضت نفسها علي المعاملات اليومية، لاحظ محاولات الاستقواء المتبادلة بين أطراف لم تتعارف من قبل، لاحظ عملية ديكتاتورية مجتمعية يتحول فيها الاختلاف إلي خلاف ينتهي إلي صراع وإلي قطيعة وخصام، لماذا تحول الحوار إلي معركة صفرية لابد أن ينهزم أحد أطرافها؟. لماذا يتغافل كثيرون عن أن كسب القلوب أهم من كسب المواقف العابرة؟. كيف نترك أنفسنا للوصول إلي حالة التعامل مع الأخلاق باعتبارها ترفا يمكن الاستغناء عنه؟!، كيف وصلنا إلي استخدام الأخلاق طبقيا للتمييز المجتمعي بين شرائحه؟، كيف نجحنا في الفصل بين الأخلاق والذوق العام؟، كيف تصورنا أن التمسك بالأخلاق الحميدة مرتبط بحالة مادية معينة؟، كيف وصلنا إلي اعتبار الأخلاق الحميدة نوعاً من التراجع أو الضعف؟، كيف تصورنا القدرة علي الإيذاء وعلي التنابذ وعلي قهر الآخر وسيلة لحيثية مميزة للشخصية حتي أن البعض أصبح يجاهر بامتلاكه لتلك الخصائص دليلا علي تميز الشخصية؟!. فلنواجه أنفسنا بالسؤال المصيري »ماذا حدث للمصريين؟». الآن نحن أمام مشروع قومي للأخلاق، أمام مشروع قومي حتمي لإحياء الفريضة المغيبة، لا مجال هنا عن حديث لدور منفرد للدولة هذا غير صحيح، لأن الدولة تستطيع فرض ما تريد بقوة القانون، نحن أمام مشروع الأدوار فيه محددة للجامع والجامعة، للكنيسة والمدرسة، للأسرة والفرد. أين الدراما المصرية من ترسيخ الأخلاق؟ ليس مطلوبا أن نبحث عن نموذج لفرضه علي المجتمع، الحقيقة تقول إن أصل الهوية المصرية مرتكز علي أساس صلب من الأخلاق ومن الثقافة والفنون، فقط تحتاج تلك الأساسات إلي عملية ترميم سريعة بإشراف الدولة.