رحيل صلاح جاهين أكذوبة.. نعم لم يمت جاهين، والدليل: رباعياته، رسوماته، سيناريوهات أفلامه، تمثيله في السينما، شواهد علي بقائه حيا. والدليل الثاني، عندما تقرأ كتاباته تجد صوتك وصورتك وأحلامك وأفراحك وأحزانك وعالمك موجودة بين سطوره ورسوماته، حمل هم الإنسان البسيط، فالجميع حكم عليه بالحب المؤبد.. يقول جاهين:» أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس/ جلجلت بُه صحيوا الخدم و الحرس/ أنا المهرج.. قمتوا ليه؟ خفتوا ليه؟/ لا فإيدي سيف ولا تحت مني فرس». كان في يده قلم، وفي قلبه هموم وطن، عشق الكلمة، فأبقته حيا إلي الأبد، لوّن الحياة بالبهجة في الربيع، فارتبطت أشعاره بفصول السنة الأربعة التي تدور في دورة الحياة، وعندما كتب قصيدته الخالدة »علي اسم مصر» ظل رافعا راية الحب والعيش والكرامة الإنسانية، عرف الألم والوجع، ومنحنا الابتسامة والفرح. كان عاشقا صادقا، وصديقا وفيا، كان علي يقين من أن» الصديق هو الطبيب النفسي الذي لا يتقاضي أجرا »، التف حوله الأصدقاء وعقدوا معه اتفاقيات حب في مشاركة كتابة مسلسل هو وهي للكاتبة المبدعة سناء البيسي وكان صديقا مقربا لسندريللا السينما و صديقا وفيا للعندليب عبد الحليم حافظ الذي اختفي في بيته بعد رحيل أبيه، وظل أهله يبحثون عنه إلي أن كتب عبد الحليم حافظ إعلانا في الصحف يطالب فيه بعودة جاهين إلي أسرته. عبقري، بسيط، مؤنس، مبهج، ممتع، مضحك.. يحمل قلب طفل بكل تلقائية الطفوله في الحزن والفرح، صفاته التي تحمل الجمال، وكلما تعمقت في قراءة أعماله تكتشف كم كان جميلا.. والجمال لا يموت لو تعلمون. هكذا لا يموتون من يحملون موهبة وصفات صلاح جاهين الذي رحل عن عالمنا في 21 إبريل 1986. ظهرت موهبته في الرسم لأول مرة عندما كان في الثالثة عشرة عندما كان طالباً بمدرسة أسيوط الإعدادية حيث طلب منه مدرس الرسم أن يرسم عاصفة في غابة، وقد حصل رسم جاهين علي إعجاب واهتمام المدرس علي الموهبة الكبيرة التي يمتلكها. تخرج جاهين في كلية الحقوق جامعة القاهرة، وبعد تخرجه بدأ مشواره في الصحافة عام 1952 حيث عمل كرسام كارتون هاو في مجلة روزاليوسف، ثم اشترك في إصدار مجلة صباح الخير، وتألق فيها كرسام كاريكاتير محترف، إلي درجة أن تم تعيينه رئيس تحرير للمجلة. في عام 1957 زار جاهين الاتحاد السوفيتي ثم كتب كتاباً بعنوان (زهرة في موسكو) عن انطباعاته عن الرحلة، ثم انضم عام 1964 إلي جريدة الأهرام. وقام جاهين بإنتاج بعض الرسوم الكارتونية التي ألقت الضوء علي قضايا حيوية في مصر؛ اتجه صلاح جاهين في كتاباته إلي الشعر العامي الذي تميز لديه بالاستخدام المبتكر للكلمات، حيث تعتبر رباعياته التي كتبها عام 1963 اتجاها جديدا للشعر الذي يظهر من قلب الأحداث كنوع حديث من الأدب الشعبي، وتنتهي كل رباعيات جاهين بقول ساخر هو »العجائب لن تتوقف ». صباح الخير يا مولاتي في حفلات أعياد الأم والربيع يصطف الأطفال الصغار في مدارسهم، ودور الحضانات يغنون أشعار جاهين وهم يرقصون ويمرحون في مشاهد تمثيلية محببة تبقي في العيون :»صباح الخير يا مولاتي/ ياماما... ياأما...يا أماتي/سلاماتي.... احتراماتي.... قبلاتي/صباح الخير يامولاتي/ياماما....يا أما....يا أماتي/أبوس الإيد ،،،وقلبي سعيد/ يا أول حب في حياتي/يا أمي/علشانك النهاردةالدنيا/كارت معايدة/لا الربيع أركانها/ بمليون ألف وردة.» وهذا دليل آخر علي أن صلاح جاهين يشارك في كل عام الأطفال الصغار حبهم لأمهاتهم، وأمهم الكبيرة مصر التي كتب عنها أخلد القصائد حين قال :» علي اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء/ أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء/ باحبها وهي مالكه الأرض شرق وغرب/ وباحبها وهي مرميه جريحة حرب/ باحبها بعنف وبرقة وعلي استحياء/ واكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء/ واسيبها واطفش في درب وتبقي هي ف درب/ وتلتفت تلاقيني جنبها في الكرب / والنبض ينفض عروقي بألف نغمة وضرب/ علي اسم مصر».هذه القصيدة ملحمة تحكي جزءا من تاريخ مصر، بدأت القصيدة بتعبيره عن حبه الشديد لمصر، موضحًا أسباب هذا الحب للوطن الذي انكسر في نكسة 67، مبرزًا اللحظات المضيئة في تاريخ المصريين، مستمتعًا بالوصف الذي عبر فيه عن خياله الفريد. بعدها ب 4 سنوات، وتحديد في 1971، استكمل صلاح جاهين كتابة قصيدة الملحمة »علي اسم مصر» التي تعد أهم قصائده، بعد عودته من موسكو، بعدما خضع للعلاج النفسي، عقب فقدانه نصف وزنه، وإصابته بالاكتئاب.ثم بدأ الجزء الثاني من القصيدة ب»أنا الذي مشيت أدوَّر باشتياق وحنين، علي مصر.. والمشي خدني من سنين لسنين، لحد ماسنينها وسنيني بقم واحد، وعاصرتها يوم بيوم لم فاتني يوم واحد، وحضرت شاهد عيان مولد وموت ملايين». الشاعر الذي أحب مصر إلي هذا الحد، لا يموت يظل حيا حتي لو رحل الجسد، صلاح جاهين عشق مصر وترابها غني لأطفالها وشيوخها وشبابها، غني لليالي وعقود الفل والياسمين، كتب اسمه علي تراب مصر بكلماته التي مازال يتغني بها الشباب في أوقات المحن، مصر العزيمة والتاريخ والصبر علي المواجع، مصر الشابة التي لا تشيخ مهما مرت السنون، مصر الولادة التي تلد كل يوم ابنا جديدا عاشقا لترابها وتاريخها وحافظا لتاريخها ونيلها العظيم. قصيدة حب لا تنتهي الحب معزوفة فردية غناها وقالها سرا وعلنا، فأصبح لحنا تتغني به القلوب العطشانة للحنين، لما قال في سره : ياللي عرفت الحب يوم وانطوي/حسك تقال مشتاق لنبع الهوي/حسك تقول مشتاق لنبع الغرام/ده الحب.. مين داق منه / قطرة...ارتوي. وعندما أعلنه قال للجميع : » أنا اللي بالأمر المحال اغتوي / شفت القمر نطيت لفوق في الهوا / طلته ما طلتوش إيه انا يهمني/ وليه.. ما دام بالنشوة قلبي ارتوي.» كان عاشقا جميلا، عرف الحب قلبه وأقسم علي عدم مفارقته حتي بعد رحيله، مازالت كلماته تحرر القلوب من أحزانها وتغذي الوجدان بأحلامها، ويطل جاهين العاشق والمعشوق، والذكري والحنين، والأمل، والحلم في بكرا بأن يكون أجمل. والجمال لا يموت. صلاح جاهين حكاية مصرية، تروي سنة بعد سنة وكأنها حكاية جديدة يتعلم منها أجيال وأجيال لأنه وضع حجر أساس الحكاية من طمي النيل وجففها علي شمس النهار، وبناها بيد من حب ومعول من الصبر والاحتمال، ومهما تمر السنون يبقي جاهين حيا بكلماته وأشعاره ورسوماته، وإن خلص الكلام، تاثيره في النفوس لا ينتهي ويبقي عبر السنين حكاية وطن بين السطور.. تعيش وتبقي طول ما الحنين موجود. هكذا لا يموتون من يحملون موهبة وصفات صلاح جاهين الذي رحل عن عالمنا في 21 إبريل 1986.