لعل من أبلغ ما قيل في وداع صلاح جاهين، ما قاله الكاتب الصحفي مفيد فوزي بأن «جاهين كان اعتذارا رقيقا عن كآبة الحياة وجروحها»، وما قاله الروائي الراحل فتحي غانم بأن «صلاح جاهين شاعر عمره خمسة آلاف عام» أي عمر الحضارة المصرية، وما قاله كذلك د. لويس عوض بأنه «كان ضميرا عظيما غير قابل للانقسام»، وما قاله أيضا الروائي الراحل إحسان عبدالقدوس إنه «لم يكن مجرد شخص ولكنه كان أكبر أمل في مستقبل مصر الفني». ووصفه شيخ النقاد د. علي الراعي ب «الفنان الشامل» هذه الصفقة التي لم تتوفر لأحد - ربما - في التاريخ المصري الحديث إلا لصلاح جاهين الذي فعل كل شيء في الفن شاعرا وكاتبا للسيناريو، وكاتبا للأطفال ورساما وممثلا وفوق كل ذلك فقد عاش الإنسانية كاملة بفرحها وحزنها وانتصارها وانكسارها، أحب الحياة فأحبته الحياة وأعطته الشهرة وحب الجماهير، فيكاد «جاهين» أن يكون الشاعر الوحيد - في التاريخ الحديث - الذي لا يختلف عليه اثنان، وهو أقرب الشعراء إلي كل الشعراء من الأجيال المختلفة سواء في الفصحي أو العامية، ربما لأنه كان صادقا فيما يكتب، وربما لأن قصائده وأغنياته ورسومه الكاريكاتيرية كانت تحمل في طياتها دماء الشخصية المصرية المرحة الجسورة المتمردة والبسيطة المتفائلة حتي ذروة الأمل، والخائفة حتي الاكتئاب، وهذا ما أشار إليه الكاتب الصحفي أحمد بهجت واصفا شخصية صلاح جاهين حين قال: «كان صلاح شمسا تشع بالفرح، رغم أن باطنه كان ليلا من الأحزان العميقة، وكان يداري أحزانه، ويخفيها عن الناس، ويصنع منها ابتسامة ساخرة، ويظهر علي الناس بوجهه الضاحك كل يوم». ورغم ما اعترض حياة «جاهين» من عقبات وانتكاسات وفقدان لأحلام كبري خاصة بعد نكسة يونيو 1967، مما أصابه بالاكتئاب الذي بدأ يلاحقه تدريجيا ليتمكن منه، لأنه اعتقد أنه شريك في تلك النكسة - ولم يكن كذلك - لأنه الشاعر الذي تغني بالثورة وغني الشعب كله معه، ورددوا أشعاره كأناشيد وطنية، رغم كل ذلك لم يفقد «جاهين» قدرته علي حب الحياة والآخرين، وهذا ما يؤكده ابنه الشاعر بهاء جاهين حين يقول عنه «كان معجونا بطين البشرية، كان شديد الحب لكل من حوله، سريع التأثر، حينما يعشق.. يعشق حتي النخاع، وحينما يكره لا يمكن أن يعود لسابق عهده». وفي هذا يقول «جاهين» في الرباعية الأولي من «رباعياته»: أحب أعيش ولو أعيش في الغابات أصحي كما ولدتني أمي وابات طائر.. حوان.. حشرة.. بشر.. بس أعيش محلا الحياة.. حتي في هيئة نبات ولأن ما كتب عن «جاهين» خلال حياته وبعد وفاته يفوق الحصر فسوف أركز - في مقالي هنا -علي علاقته بأمه السيدة «أمينة حسن» التي ورث عنها هواية القراءة وحب الشعر فقد كانت تروي له القصص والحكايات والأمثال الشعبية، وهي أم مثقفة تلقت قدرا كبيرا من التعليم في «المدرسة السنية» ثم عملت كمدرسة للغة الإنجليزية، وقد أثرت في شخصية «جاهين» كثيرا، والذي كان يقلدها في صباه خاصة في موهبة «الحكي» فقد كان يجلس مع شقيقاته ليحكي لهن ما عرفه من قصص بأسلوب شائق ومميز وأخاذ، هذه العادة علمته - فيما بعد - نظم الكلمات حتي جاءت أولي قصائده وهو في سن السادسة عشرة من عمره يرثي فيها الشهداء الذين سقطوا في مظاهرات الطلبة بالمنصورة عام 1946 وكانت باللغة الفصحي يقول مطلعها: كفكفت دمعي ولم يبق سوي الجلد ليت المراثي تعيد المجد للبلد صبرا.. فإنا أسود عند غضبتنا من ذا يطيق بقاء في فم الأسد وقد ظلت «الأم» كامنة في وجدان صلاح جاهين تطل من أشعاره وأغنياته، فنراها تطل في الأغنية التي غناها محمد منير «أجمل ما فيهم» والتي كتبها لابنته ومطلعها «يا بنت يام المريلة كحلي/ ياشمس هاللة، وطاللة من الكولة/ لو قلت عنك في الغزل قولة/ ممنوع عليا، واللا مسموح لي؟». وتأتي صورة الأم في المقطع الأخير حيث يري الشاعر حنان أمه في نظرة ابنته: راحوا الصبايا، والصبايا جم أجمل ما فيهم مين، غير بنتي وأجمل مافيكي يا بنتي، إن انتي في عنيكي من نيني.. حنان الأم ولا أذهب بعيدا إذا قلت إن كتابة «جاهين» للأطفال - وهو أحد رواد هذا النوع الأدبي - بما قدمه من مسرحيات مثل «الليلة الكبيرة» و«الشاطر حسن» و«حمار شهاب الدين» و«صحصح لما ينجح» و«الفيل النونو الغلباوي»، وغيرها، ربما يرجع إلي تأثره بحكايات أمه التي أمدته بروافد ثقافية متعددة نظرا لثقافتها المتنوعة. الرسالة الأولي وبين يدي الآن مجموعة من الرسائل التي كتبها «صلاح جاهين» إلي أمه تبين مدي عمق العلاقة بينهما في الرسالة الأولي ويبدو أنه أرسلها إليها بمناسبة عيد الأم يقول فيها: حبيبتي ماما: أقبلك ألف قبلة بل مليون قبلة وأدعو الله أن تكوني بصحة جيدة، كل سنة وانت طيبة عشان عيدك، ولو إنها جاءت متأخرة كتابة رأفت قال لي إنه بلغك تحياتي يوم 21 كما طلبت منه» أنا بخير ولو إني مشغول جدا ومواعيد صحياني ملخبطة للغاية. أرجو تبليغ تحياتي وحبي لسامية ولبني وميرت والجميع، وأن أتمكن قريبا من المجئ إليك لأنك وحشاني جدا، وربنا ينفخ في صورة التليفون عشان أعرف أكلمك كل يوم. علمت من مصطفي إنه متوجه إلي مصر الجديدة فكتبت هذه الرسالة علي عجل يحملها إليك. وأخيرا أدعو الله أن يمتعك بالصحة وأن يحفظك لنا خيرا وبركة وحكمة وإلي اللقاء. صلاح الرسالة الثانية وفي الرسالة الثانية يقول جاهين وهو بين بلاتوهات فيلم «المتوحشة»: حبيبتي ماما: أقبلك وأقبل يديك الكريمتين وأدعو الله أن تكوني بخير ومتمتعة بالصحة أنت ووجدان والدكتور عبدالحميد والدكتور هشام والدكتور خالد والدكتورة أميمة. أكتب لك بسرعة من حوش الاستديو حيث نبني حارة في فيلم «المتوحشة»، وأنا أصل كل يوم الساعة 8 صباحا مثل أجدع عامل وأظل حتي ينصرف العمال الساعة 6 مساء ثم تصل سعاد ونظل إلي الساعة 10 مساء في بروفات علي الاستعراض الذي سيصور يوم السبت. دعواتك الصالحات أن يوفقنا الله في هذا العمل ويمنع التعطيل ويهدي الجميع ويكفينا شر ولاد الحرام، ويستحسن أن تدعو لنا وجدان أيضا والدكتور عبدالحميد حتي تأتي النتيجة مضاعفة. إلي اللقاء صلاح الرسالة الثالثة وفي الرسالة الثالثة يؤكد جاهين اعتذاره لأمه عن تأخره في زيارتها نظرا لانشغاله في تصوير أحد الأفلام التي كتبت لها السيناريو والأغاني، وأنه حينما ينتهي من التصوير سيحاول أن يذهب إليها مع سعاد حسني التي نتمني رؤيتها هي أيضا، والتعرف عليها. وفيها يقول: أمي الحبيبة: أقبل يديك ووجنتيك ألف قبلة وأقدم إليك الاعتذار ألف مرة علي عدم مجيئي لزيارتك ولو أني أعلم بقبولك لعذري قبل أن أبديه لحزنت كثيرا جدا. التليفونات مصيرها للتصليح، وإلي أن يأخذ ربنا بيدها أري أن نتكاتب كأننا في بلدين منفصلين، بدلا من فكرة الحمام الزاجل التي أري أنها مبالغ فيها. أخباري أننا سندخل الاستديو يوم السبت القادم بالرغم من أن الأحد عيد الأقباط والمخرج ومساعده قبطيان ويليه شم النسيم وهو عطلة ثم عيد العمال ولا أدري كيف سيتغلب الإنتاج علي كل هذا. فإلي أن أنفض يدي من هذا الفيلم «الجملي» الذي لا يريد أن يستوي مع أننا نشتغل فيه أو نشتعل تحته منذ أكثر من عامين. سأحضر وأقضي معك بعض الوقت، وأيضا ربما تأتي معي سعاد لأنها مشتاقة إلي رؤيتك من كثرة كلامي عنك التي ربما تكون قد جعلتها تحس بأنها تعرفك. صحتي لا بأس بها ولو إني أحس في بعض الأحيان بتوتر عصبي وتطلع زرابيني ولكني لا ألبث أن أروق وأبقي ميت فل وخمستاشر. أرجو أن تكون صحتك قد تحسنت وأصبحت عادية مرة أخري. وأعتقد أنك لو مشيتي علي نظام جدي حسن لاستطعت أن تستمتعي بوقتك بعد أن أنهيت خدمتك الجليلة التي جعلت منا جميعا أناسا لا بأس بهم.. وآن لك الآن أن تفعلي كل ما كان في نفسك وأنت مشغولة بنا. تمنياتي لك بالهناء وراحة البال. صلاح وبعد.. فهذه مجموعة من الرسائل التي كتبها «جاهين» بخط يده إلي أمه وهي كما نري بعفويتها وبراءتها تفيض بالحب للمرة الأولي في حياة ذلك العبقري الذي ملأ الدنيا فنا ومرحا وفلسفة أيضا، وكأنني أراها متجسدة في أغنيته المرحة التي كتبها لتغنيها سعاد حسني «صباح الخير يا مولاتي» وفيها يناجي جاهين أمه قائلا: يا ست يا فدائية ياللي قضيتها هي تجعل حياتي هنية ولو تبات مهمومة ما انساش الابتسامة ومش ح انسي يا ماما الشخطة اللي تعلم وماتهنش الكرامة علمتيني المعاني والصبر ع الأماني والضحك والأغاني وكلمتيني ياما باحييكي.. واهنيكي وأقول يا رب يحميكي وكل ما أشوف أمل وحياة أشوف صورتك وأناديكي يا ماما يا أمه يا أماتي صباح الخير يا مولاتي