في المقال السابق المنشور تحت عنوان »جدد ثورتك» وقبل البدء في عملية الاقتراع كنّت قد حاولت شرح فلسفة المقاطعة وأسبابها والنتائج المحتملة التي يمكن ان تؤدي إليها، ثم تساءلت عن الخطوة التالية لهذه المقاطعة. المدهش ان الانتخابات جرت وسط إقبال تصويتي مهول ومن طبقات متوسطة وأقل من متوسطة ممن حظيت بالنصيب الأكبر من آلام الإصلاح الاقتصادي، والأكثر دهشة ان الانتخابات جرت وسط اختفاء تام لدعاة المقاطعة الذين يبدو انهم قاطعوا المقاطعة. الآن يحق لنا ان نحاول عرض تحليل نفسي سياسي لسيكولوجية دعاة المقاطعة والذي ربما سيفرز النتائج التالية: دعاة المقاطعة يعانون حالة انفصال سياسي عن واقع الشارع المصري. دعاة المقاطعة مغيبون تماما عن فهم شفرة الشعب المصري التي تنعكس بشكل حاد علي رد فعله عندما يستشعر بفطرته وغريزته خطرا علي وطنه. دعاة المقاطعة يعانون حالة هلوسة سياسية جعلتهم غير قادرين علي الفعل السياسي المبادر، فقط نوبات تشنج سياسي. دعاة المقاطعة يعانون حالة إنكار للواقع ورفضه وهي حالة غالبا ماتحدث عندما يسعي الشخص للهروب من واقعة بإنكاره لانه لا يقوي علي مواجهة الحقيقة ومسئولياتها. دعاة المقاطعة يعانون الاعراض العصبية لأزمة من ضيع في الأوهام عمره بعدما ثبت فشلهم في استغلال الفرص الكثيفة التي جاءتهم سعيا منذ عام 2011 ثم استحالت سرابا بين أيديهم. دعاة المقاطعة يعانون أزمة مايمكن تسميته بالشلل السياسي الذي أفقدهم القدرة علي الحركة في اي اتجاه بعدما أحاطها الانكشاف التام فلم يعودوا وجوها مقبولة اعلاميا يمكنها معاودة الظهور، ولم يعودوا قادرين علي اعادة تدوير ألاعيبهم السياسية، ولم يعودوا مخيفين أو مقلقين لأي نظام ولايمكن حتي إعادة استخدامهم، كما انهم انكشفوا داخل بيوتهم وامام مجموعات شبابية التفت حولهم ثم فتحت عينيها فلم تجد الا سرابا. مجموعات أخري من دعاة المقاطعة من فئات الشباب يعانون أزمة المعاش السياسي المبكر بعدما حرقت عليهم النخبة العجوز أرض الوطن تماما بعدما فرضت عليهم نماذج من المعارضة المستهلكة التي تعيد تدوير ذاتها منذ سبعينيات القرن الماضي فاصابتهم أعراض الشيخوخة السياسية المبكرة. • • • بعد ذلك دعونا نحاول إعادة اكتشاف ثورة 30 يونيو التي اثبتت قدرة ذاتية علي التماسك، كما اثبتت قدرة متفردة علي الانصهار في جسم الدولة، ولعل سبب تفرد هذه الثورة هو انها لم تقم باعتبارها مكونا اضافيا خارجيا عن هذه الدولة، إنما هي إعادة لتجميع مكونات الدولة التي ربما اصابتها حالة من التفكك بعض الوقت فجاءت ثورة 30 يونيو بمثابة عملية ترميم هذا التفكك الذي اوحي للتنظيم الدولي ان مصر اصابها الوهن وأصبحت تحت السيطرة، فجاءت 30 يونيو لتبدد هذا الوهم يوميا علي مرأي ومسمع من التنظيم وتلتف حوله وهو يراها لكنه لم يكن بمقدوره فعل أي شيء وهو يواجه ثورة معلنة تتدفق حوله وتحاصره في كل لحظة ليس لكراهية غير مبررة بل رفض لجسم غريب حاول زرع نفسه في جسد الدولة المصرية باستخدام عمليات حقن سياسي ومالي واستخباراتي خارجي الآن انها لم تقو علي الجسد السليم الذي لفظها بقوة. هنا تتحدث 30 يونيو عن نفسها لانها لم تقم باعتبارها تنظيما سريا بل تعبير عن ارادة شعبية تحولت الي حركة ثورية فاعلة علي مرأي ومسمع من الجميع، ورغم قوتها المستندة لرصيد ضخم من الارادة والفطرة والإدراك والغريزة الا انها لم تستعل يوما علي الدولة بل عادت بعد كل هذا الي مكانها الطبيعي كإحدي أدوات الدولة، لذلك لم يجد شعار »الثورة مستمرة» مكانا له في قلبها، وبرغم ذلك فان قوة الفعل الثوري هي التي استمرت وانطلقت من جديد حينما استدعتها الدولة نحو صناديق الاقتراع فعادت بقوة من مستقرها في دولاب الدولة العميقة لتنفذ مهمة وطنية محددة المكان والزمان. الآن وبعد حالة التصويت الهادرة التي شاركت بها الملايين نكون قد وصلنا الي حالة » الثورة المطمئنة»، التي اعادت عرض نفسها علي إرادة المصريين فقبلتها تلك الارادة وتقبلتها واتخذت منها منهج عمل لحماية وبناء الدولة.. الآن نستطيع ان نقول ان »30 يونيو» أبدا أبدا لم تكن نزوه ثورية، أبدا أبدا لم تخرج كدفقة مشاعر مؤقته، أبدا أبدا لم تضل بوصلتها نحو قلب وعقل الوطن. الانتخابات هذه المرة لم تكن تصويتا لمرشح عادي يعبر عن ذاته وإنما كانت تصويتا لثورة تعيد اختبار ذاتها فاتجهت الي عبدالفتاح السيسي باعتباره أمينا عليها بعدما استقر في وجدان تلك الثورة ان الرئيس المؤتمن لم يَحد عن أهدافها التي انطلقت من أجلها، الرئيس المؤتمن حارب الإرهاب وتصدي للفساد ولم يخضع لمحاولة ابتزاز واحده للجلوس مع التنظيم الاخواني الإرهابي، ولم يقايض علي دم الشهداء، فإذا خرج علينا دعاة المقاطعة بعد اعلان النتيجة وقرروا استخدام الأصوات الباطلة كدليل علي حالة من الرفض فان ذلك اعتراف منهم بممارسة ديمقراطية حقيقية قد تمت بالفعل، فإذا أرادوا الادعاء انهم سبب فيها فان ذلك يعبر عن حجمهم الحقيقي كما يكشف انهم لم يلتزموا بالمقاطعة التي دعوا لها. لكن أهمية ماحدث هذه المرة لا يقتصر علي اعادة تجديد شرعية 30 يونيو فحسب بل تنقيتها من الشوائب التي ربما تكون قد علقت بها من أشخاص اضطروا لمسايرة الواقع الثوري تحت وَطأَة الزخم الشعبي الضاغط ،والآن هم يكشفون أنفسهم بأنفسهم ويقدمون رجال الثورة للصفوف الاولي، الآن يكشف المرجفون أنفسهم امام الثورة، بينما تتحدث 30يونيو عن نفسها باعتبارها غير قابلة للامتطاء أو الاستخدام الا من أجل الوطن، أهمية ماحدث في لجان الاقتراع هو إعادة اكتشاف ثورة 30 يونيو لنواتها الصلبة وكتلتها الحية، ولا تندهش من ان المنكشفين سيتوحدون جميعا حول حالة من الحنين إلي الإخوان ستبدأ مع أول يوم للولاية للرئيس الفائز. 30 يونيو تتحدث عن نفسها لتقول: انا لست مشروعا حزبيا او طائفيا او استعلائيا. انا لست ثورة فوق الوطن بل من اجل الوطن. انا ثورة لم تصنف احدا ولم تعاد احدا الا من بادر بالعداء للدوله والعمل ضد أمنها القومي. انا ثورة الدولة التي انطلقت بغريزة الدفاع عن بقائها. انا ثورة الدولة التي انطلقت دون حاجة لتنظيم سري يديرها. انا الثورة التي يشتد عزمها تلقائيا كلما اشتدت الحملة ضد الدولة. انا الثورة التي حاول العالم الوقوف أمامها وتصنيفها انقلابا فإذا بمن حاول ذلك ينقلب علي أفكاره وكأنه ولي حميم ويعترف بكونها حدثا انسانيا مهولا. انا الثورة التي انطلقت لصد المؤامرة آلا انها لم تتخذ من التآمر نهجا لها بل كانت تفاصيلها ومراحل بنائها معلنة. انا الثورة التي منحت من قامت ضده مهلة متكررة لكنه لم يستوعب. انا الثورة التي قامت وهي مدركة لحجم وقيمة الوطن. انا الثورة التي حققت أهدافها ثم خضعت لدولة القانون وخفضت لها جناح الذل من الرحمة. هنا القاهرة هنا 30 يونيو التي لم تفرض وصاية ثورية علي الدولة بل فرضت علي نفسهاالدولة ودستورها وقانونها، وبرغم ذلك لم ينضب عطاؤها ولم تسمح لأحد باحتكارها او احتكار الوطن.