تناولت في مقالي السابق دعوة المفكر الكبير د. مراد وهبة لإحياء فكر الفيلسوف الأندلسي ابن رشد صانع التنوير الأوروبي، بهدف إيجاد تيار فكري مستنير، يتصدي للفكر الأصولي المتطرف المتفشي في الأمة العربية والإسلامية، واستثمار الفضائيات في الترويج للذهنية الرشدية، وترسيخ تلك البنية الفكرية في أذهان البسطاء. واستكمالا لما بدأته أقول: إننا - ولا شك- أحوج ما نكون لفكر وإنجازات وتنويرية الفيلسوف والفقيه والمفكر ابن رشد، لاجتياز أزمتنا الثقافية والفكرية الراهنة، تلك العقلية التي أثبتت انه لا تعارض بين الشريعة والحكمة، وتصدت لنقد المتكلمين باسم توافق المعقول والمنقول، العقلية التي تكونت في بيئة التقاء الثقافات والأديان، وهي أيضا العقلية التي طردتها الثقافة العربية والإسلامية، وتلقفتها الثقافة الأوروبية التي كانت ناهضة، ليشرق بنوره علي أنحائها، ويساهم في تبديد ظلمات القرون الوسطي. فقد تعرض للاضطهاد والمهانة بعد أن كان يحتل مركز قاضي قضاة قرطبة في عصر الخليفة الموحد أبي يعقوب وطبيبه الخاص، وزادت مكانته في عهد الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور، حتي تسببت المكائد في صدور الأوامر بمحاكمته وإحراق كتبه، ويُرجع المؤرخون هذا الاضطهاد المفاجئ، إلي أن المنصور كان بحاجة إلي تأييد الفقهاء، لكي يصل إلي تأييد العوام في حربه مع أعدائه، والثمن كان ابن رشد الذي تمت محاكمته بتهمة الكفر والإلحاد، وانتهت بنفيه من قرطبة وإحراق كتبه!! وبعد انتهاء الحرب ألغي الخليفة أوامره السابقة، وعاد ابن رشد إلي مراكش، لكن حياته لم تطل سوي عام، حيث مات ودفن في مراكش، ثم نُقلت رفاته إلي قرطبة، في مشهد مؤثر والركائب تحمل كتبه، ولا يخفي علي الجميع أن هذا الأمر متكرر في تاريخنا الثقافي الحديث، حيث تحدد احتياجات السياسة أيديولوجيا، موقف السلطة السياسية من المثقف والمفكر! لكن يظل السؤال الذي يطل برأسه هنا: هل نحن بحاجة لاستعادة فيلسوف قرطبة من الغرب علي طريقة هذه بضاعتنا ردت إلينا ؟! أم استعادته بكل ما أضافته إليه الشروح والتفسيرات والقراءات، فطورته لتحقيق التنوير؟! في كتابه البديع "الخطاب والتأويل" يجيب المفكر الكبير د. نصر حامد أبو زيد علي هذا التساؤل، حيث يري إن استدعاء ابن رشد فكريا وثقافيا يبدو في بعض جوانبه، محاولة لممارسة صراع أيديولوجي ضد تيار فكري سياسي، يري ممثله أنه التيار الوحيد للإسلام، رغم أنه مستمد أساسا من الغزالي والأشعري وابن تيمية! وخطاب ابن رشد الذي كان مهمشا في سياق الثقافة العربية والإسلامية في بعدها التراثي، يمكن أن يظل مهمشا في سياق الاستدعاء الحالي، ولن يفيد أكثر من الدخول في صراع أيديولوجي ضد ممثلي مركز التراث الذي يمثل الغزالي بؤرته، والنتيجة معروفة سلفا، حلقة جديدة من ممارسة الصراع علي أرض التراث، يتمكن فيها المركز من إزاحة الهامش! وابن رشد -كما يقول د. حامد أبو زيد - ليس بدعة في التراث العربي الإسلامي كما يتوهم البعض، بل هو امتداد للتراث المهمش، وإن كان سعيه من موقع الهامش، وسيطرة الخطاب الغزالي والأشعري، قد فرض عليه تقديم الكثير من الترضيات والتنازلات، عمقت هامشيته وساهمت في تكريس مركزية الغزالي، وإذا كان لابد لنا من استدعاء ابن رشد، فلا ينبغي أن يكون استدعاؤنا من أجل الصراع الأيديولوجي، بل من أجل تعميق فهمنا لأنفسنا وتراثنا وواقعنا. لذا فإننا بحاجة لاسترداد ابن رشد مع ما اكتسبه في صيرورته التاريخية وتحولاته، وبمنهج مغاير للمنهج الذي أدي إلي تهميشه ثم طرده، كما نحتاج لقراءة خاصة لا تعني الانفصال التام والانعزال الكامل عن القراءة الأوروبية، ولا تعني في الوقت نفسه فصم أواصر التداخل والاشتباك بين ابن رشد، وسياقه العربي الإسلامي تاريخيا وحضاريا، وهذا يعيدنا إلي مقولة الشيخ أمين الخولي عن قتل القديم بحثا. إن انحياز فليسوف قرطبة للبرهان والتعددية والاختلاف، والتي هي بمثابة أسس الإنجاز الإنساني في مجال حقوق الإنسان، هو ما يدعونا اليوم لاستدعاء ابن رشد عقلنا المنفي، وذلك لحاجتنا إليه في ظروف واقعنا المأزوم علي جميع الأصعدة، ولكن ونحن نستدعي أبا الوليد لابد أن نضيف إليه ما حققته البشرية من إنجازات في مجال حقوق الإنسان، ومن أهم تلك الحقوق حق المعرفة والتعلم واكتساب اليقين. إن العقلية التي تكونت في بيئة التقاء الثقافات والأديان يا سادة .. هي العقلية التي تستطيع إنتاج إنسان قادر علي المعرفة.. وقابل للاختلاف النابع من تعددية النظرة والتأويل واختلاف القدرات.