فكرة اللجوء إلي التجربة الصوفية كممارسة إبداعية لتقديم أعمال أدبية برؤية مختلفة، لم تعد تتوقف عند الرواية بشكلها الحديث مثلما حدث في رواية »موت صغير» للروائي السعودي محمد حسن علوان التي حصل بها علي البوكر العربية هذا العام ،أو مع الروائية التركية أليف شافاك في روايتها الرائجة قواعد »العشق الأربعون»، وإنما اتسعت الدائرة لتصل إلي اللوحة التشكيلية عبر رحلة صوفية قام بها فنان تشكيلي يرسم لوحاته بريشة عاشق زاده الكلمة والصورة. د. أحمد جمال أحمد عيد فنان تشكيلي يعمل مدرسا لفنون الجرافيك بكلية الفنون الجميلة بالأقصر، قدم عالما مسكونا بالرمز والتلخيص، بين الهمس والبوح، بين سحر الكلمة وبهاء الصورة، في إيقاع من البساطة وغنائيات التشكيل في وصف تجربته بالذاتية وبأنها مجرد وجهة نظر لرحلة مسافر بلا متاع، عبر سطور كتابه الذي صدر عن دار بردية بعنوان »القطب الأعظم .. المسافرون بلا متاع» مع تقديم للفنان التشكيلي صلاح بيصار. أخذ الفنان يرسم عالمه الخاص حول بحثه الشخصي عن شيء غامض ينقصه ليكتمل في لوحة تشكيلية في تجربة وجدانية شعورية بعيدة عن الواقع، وإن كان قد استمد منه بعض القصص والحكايات كشاهد علي تجربته الفنية، فنجده لا يعبر عن ذاته فحسب، وإنما عكس واقعا اجتماعيا وثقافيا مازال يعشش في قري ونجوع الصعيد من اللجوء إلي الاولياء وأصحاب الكرامات والتحلق حول الأضرحة وبين حالات الدعاء والابتهال وتجليات الاشراق الصوفي التي تجلت في لوحاته، فهذه الرحلة الصوفية مستلهمة من وحي بعض الاحداث الحقيقية التي شاهدها الفنان بنفسه. لم يكتف بذلك بل أفصح عن نفسه في توطئة كتابه قائلا »قرابة خمس سنوات وأنا بين همهمات الصمت ورغبة البوح بكل ما بداخلي من مخزون استطعت أن اكتسبه في هذه الرحلة، قررت أن أجمع تفاصيلها والاعمال التشكيلية المصاحبة لها وفضلت ان أطلق عليها » رحلة صوفية تشكيلية» والتي أقمت بها معرضين فنيين المعرض الأول بعنوان » القطب الأعظم » والثاني معرض » المسافرون بلا متاع»، مفسرا لأسباب اختياره » القطب الأعظم » عنوانا »بأنه نسبة إلي فلسفة بعض المتصوفة حول المراتب والدرجات الايمانية والتي ترسخت تراتيب نخبتها بصورة شبه موحدة في نفوس اتباعها وإن اختلفت فرقهم، واتت مسميات ومفردات ودرجات نخبتها علي تسلسل لهرم طبقي إلي أعلي، فنجده يبدأ بالمريدين ثم أهل المراتب علي تنوعهم، ثم الثلاثمائة والتسعين الصالحين والاولياء، ثم التسعة والتسعين من مظاهر أسماء الله الحسني، ثم الأربعين الأبدال الذين يسعون في قضاء حوائج الناس، ثم السبعة النجباء ونسبتهم إلي البقاع السبع أو القارات أو الأرضيين، ثم الأوتاد الأربعة الحافظين لجهات الأرض ثم الامامين وهما بمثابة الوزيرين للغوث أو القطب الأعظم، ثم القطب الأعظم». إذن فالقطب الأعظم مستلهم من عقيدة المتصوفة، الذي لا يقصد به زمن معين وإنما هو رمز ودلالة موجودة لدي المتصوف، هو مجرد لقب صوفي المقصود به عند أهل المتصوفة بمختلف الفرق والمذاهب أنه رأس الهرم الطبقي للمراتب الإيمانية التي تخصهم والتي تبدأ من أسفل إلي أعلي حيث تبدأ من المريدين ثم أهل المراتب علي اختلاف تنوعهم من أولياء الله الصالحين حتي الوصول إلي قمة الهرم وهو » القطب الأعظم، وفي رحلة الشتات كما أطلق عليها الفنان قائلا:»انتقلت» من شيخ لشيخ ومن دجال إلي نصاب، هذا في العاصمة وذاك في نجع داخل قرية في أقصي جنوب الصعيد » منهم ما يدعي أنه نصف إله ومنهم من يدعي أنه يملك أسرار الكون، والضحايا فقراء ومساكين يتصورون فيهم الملاذ لدرجة أن بعضهم كان يقول علي نفسه »نحن قوم رفعت عنا الأعمال» ما كل هذا العبث الذي مازال يخيم علي عقول وأفكار البسطاء، كل هذه الاحداث والوقائع التي عاشها الفنان بحسه المرهف دفعته بقوة نحو طريق الخلاص بالحب، وطرح أسئلته حول أهل » التصوف» هل هم مدعون متاجرون؟ وإن كانوا كذلك كيف لنا أن نتعامل معهم ونجعلهم يصدرون لنا أفكارهم المسمومة التي تعطي للكثيرين انطباعات خاطئة عن الفطرة الإنسانية والإسلامية النقية؟ هذا ما جعل الفنان يبحث عن الحقيقة من سطور السرد في قوله» أحيانا كثيرة كنت استشعر وجود الله داخل قلبي، كنت مطمئنا جدا لكل شيء، ولأي شيء » وكان لابد أن أغوص في هذا العالم الخفي، طرقت كل الأبواب بهدف الوصول الي المنهج الصوفي الصحيح، وكان أول باب هو القراءة، من خلال الكتب المتخصصة. من فكرة التجريد والتخلي عند المتصوفة جاءت لوحات الفنان التشكيلي التي تعتمد علي الاشكال والنماذج المجردة بعيدة عن صورتها الطبيعية والواقعية والتحرر كلية من قيود الواقع والتخلي عن تفاصيل العمل الفني التي تجعله مزدحما دون داع حتي يمكن استشعار المعاني والاحاسيس في اللوحة من خلال تركيب العناصر البصرية وإحداث تأثير جمالي مطلق. في نهاية الرحلة يضع الفنان رحاله في الخلاصة التي ساق فيها فكرته الأساسية وهدف رحلته الفنية التي أتت ثمارها بلوحات فنية وصفها الدكتور صلاح بيصار في مقدمة الكتاب هي لوحات من الواقع غلب عليها روح شعبية والقطب الأعظم هنا هو الولي الذي يلتف حوله المريدون وقد جعل الفنان عنوانا لكل لوحة بمثابة إشارة أو مفتاح للدخول إلي عالمها، وفي الخلاصة يقول الفنان احمد جمال عيد » مع مرور السنوات دخل إلي التصوف بعض البدع وظهرت مصطلحات مغلوطة ومفاهيم معكوسة ربما كان سببها هو استرداد الكثير من الأفكار من الفلسفة البوذية والتعاليم الهندية وما الي ذلك من ثقافات غريبة عن حضارتنا الإسلامية والعربية، وبالتأكيد لا ينطبق كلامي علي الزهاد الاولين أصحاب المشروع الحقيقي وأصحاب الفكرة النبيلة ولا علي من يحذو حذوهم في عصرنا الحالي الذين لم يحيدوا عن السمو الروحي والتصالح مع الاخر، ولكننا بصدد ظواهر مجتمعية خطيرة أقلها مدعي حالات الوجد والصفاء الروحي والذين يمارسون طقوسا كان لها أثر كبير في تشويه صورة المجتمع بحجة الكرامات الخرافية وبركات من يدعون بأنهم أنصاف آلهة.