المرجفون في المدينة يتبارون في إحصاء خطايا الثورة وهم غارقون حتي آذانهم في الخطيئة الوطنية، ويتحذلقون، ما بال أقوام يتذكرون ثورة مضي عليها ستة عقود ونيف من السنوات؟! مجدداً، لماذا أكتب والرفاق في موعد مضروب من كل عام عن ثورة لم نرها، وعن زعيم لم نره، وكتبت مثل هذا وباستدامة وباستمرار وسأكتب ماحييت، لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو فضل، وكان فضل يوليو علي جيلنا وأجيال سبقت وأجيال لم تولد بعد.. فضلاً عظيماً. وعذرنا أن في وجهنا نظر، والأعمي ليس أعمي البصر هو أعمي القلب والنظر، نكتب ونشعر ونتذكر ثورة يوليو ليس حنيناً نستولوجياً إلي ماضٍ مضي عليه نصف قرن ونيف من السنين، لكن لأن آثارها باقية منورة، كالشامة الحسنة في الوجه الحسن، تنيره. لماذا أكتب، ومن غير ناصر وثورته يستحق الكتابة، والثورة الأم خليقة بالذكري العطرة، والأعلام مرفوعة في ميدان التحرير، تهتف بسماها وبترابها، والشعارات تصدح بالمعاني التي جسدتها ثورة الأجداد، وأحفاد مخلصين للمعني الكامن في ثورة الفقراء، وصوت عبد الحليم يدوي »ناصر يا حرية، ناصر يا وطنية، يا حرية يا وطنية يا روح الأمة العربية». أكتب، لأننا رأيناها حلماً في عيون الآباء، وسمعنا الهتاف من حكي الأجداد، وتجسدت فينا فقراء لكن شرفاء مخلصين للعلم ولأغلي اسم في الوجود، هذا ضابط يحمي الحدود، وهذا طبيب يداوي جراح الغلابة، وهذا مهندس يفوت علي الصحراء تخضر، أكتب مترحماً علي ناصر، لو عاد بنا الزمان لخرست أفواه صارت تمضغ »علكة» أمريكية الصنع، وتعمد إلي إعادة عجلة الزمن إلي الوراء، تبعية واستعمار. طالما في مصر أجيال شبت علي ثورة عنوانها »ناصر»، وطالما تنبت الأرض الطيبة رجالاً من طينة »ناصر» محال ننسي جمال ثورة الضباط الأحرار، ولازم نكتب ونكتب لا نتعب ولا نمل، لأن إخوان الشيطان الذين يلعنون ناصر وثورته في كل كتاب من كتبهم القذرة، تمثلوا شعار ثورته زوراً وزيفاً وبهتاناً، تخيل يا مؤمن الإخوان يهتفون في منافيهم البعيدة: »ثوار أحرار هنكمل المشوار».. وهم عبيد المرشد ويكرهون جمال كراهية التحريم، ألف رحمة ونور علي نور العيون جمال عبدالناصر.. يا جمال يا مثال الوطنية، يوليو أجمل أعيادنا المصرية. • • • المرجفون في المدينة يتبارون في إحصاء أخطاء ثورة يوليو وهم غارقون حتي آذانهم في الخطيئة الوطنية، خونة كاذبون، ويتحذلقون، ويتساءلون في جنون، ما بال أقوام يتذكرون ثورة مضي عليها ستة عقود ونيف من السنين؟! ومثلي من يقفون علي أرض هذا الثورة مرفوعي الرأس، وبهدي من زعيمها خالد الذكر الذي حمل للمصريين بشارة ما اشتاقت إليه النفوس وتاقت إليه الأرواح واستشرفته العقول وتمنته الأنفس، حمل إلينا البشارة في ثورة جبارة، الاستقلال من ربقة الاستعمار البغيض، والمساواة. ناصر انتمي إلي الفقر وتحلق من حول ثورته الفقراء، وذهب إلي الجلابيب الزرق في حقولها، واحتضن العمال في عنابرهم، وقسم اللقمة مغموسة بعرق النضال مع المناضلين في الفالوجا، وشرب من »قلة» العطشان، وافترش الأرض الطيبة، كان استثنائياً بين العاديين. ذكري ثورة يوليو التي نعيشها أياماً متصلة، ونضالات في حلقات، ومعارك بلا انقطاع، ونور ونار، ثورة وطن، ثورة أمة، ما أتاه ناصر في هذه الثورة وهو فرد في ضباط شباب أحرار ثوار من أبناء هذا الشعب الصابر طول عمره، تكالبت عليه أمم واستخبارات وأنفقت علي إسقاطه واجهاض ثورته أموال من لا يخشي الفقر، فقط لهدم صرح ثورة ناصر، لم يبنوا صروحاً كالتي بناها، وتشهد بعصره، ولكنهم تفرغوا لهدم ما بناه، فزالت دولتهم، وبقيت دولة ناصر، وصار المثال حياً إذا أردت محبة المصريين كن ناصراً، وإذا كنت ناصراً عليك بحب المصريين، وحب المصريين جائزة كبري لمن يستحقها، ومن استحقها يعمّر طويلاً في قلب الوطن، لا يغادره أبداً. • • • لماذا يوليو؟ سؤال اللئيم، قامت قيامة يوليو في 1952 رحل ناصر في سبتمبر 1970، هل مرَّ يوم علي المصريين دون ذكر ناصر وثورته؟. رحل ناصر وجاء من بعده خلق كثير، هل غابت الثورة.. هل انطفأ نجم ناصر، تغيرت خرائط وتبدلت طرائق وتمحورت محاور واندلعت حروب ووقعت معاهدات ورفعت رايات في الميادين، هل سقطت راية يوليو، هل غابت صورة عبد الناصر، هل حاد الرهط عن طريق ناصر؟.. كلما حادوا حدثهم ناصر من قبره، مالكم تحيدون عن طريق يوليو المستقيم، ما يلبثوا ساعة إلا وعادوا إلي سيرة ناصر، يتغنون جميعاً باحلف بسماها وبترابها. لأنه يوليو، جاءت ميلاداً حقيقياً من رحم المعاناة، ويوليو كثيفة العناوين وما تلاها من انتصارات وانكسارات، يوليو نقلة في تاريخ أمة، طريق خطته أمة، طريق طويل كتب علينا كمصريين ومن كتبت عليه خطي مشاها، ثورة يوليو فتحت الطريق بطاقة دفع جبارة، لاتزال تدفع الوطن نحو العزة والكرامة. يوليو سكنت الضمير الوطني، ضمير المصريين، والضمير الجمعي لا يكذب، والأجيال التي خرجت إلي الميادين في ثورتي 30، 25 لم تجد اسماً تتغني بخصاله سوي ناصر، ولم ترفع سوي صور ناصر، ولم تهتف إلا علي وقع صوت ثورة عبد الناصر، وما رفعت شعارات سوي شعارات ثورة يوليو، »ارفع رأسك فوق أنت مصري»، أليس هذا شعار ثورة يوليو قال به عبدالناصر، ارفع رأسك يا أخي. 65 عاماً مضت علي ثورة يوليو، مر بنا رؤساء وحكومات، هل تبقي في الذاكرة وطني سوي ناصر، يوليو كانت الترجمة الأمينة لكل نضالات الوطن، ناصر نفسه كان تجسيداً حياً ولايزال لكل رجالات هذا الوطن، فيه أفكار محمد عبده، وثورية سعد زغلول، ونضالات عرابي، وتشوف مصطفي كامل، امتص الرحيق، وأخرج للوطن ومن الوطن أجمل ما فيه، والوطن جميل وناصر جميل، وتألق ناصر وتألق الوطن، وتألقت الأمة من وراء الزعيم، وصار الزعيم في وطن والوطن في أمة والأمة تباهي، والعالم ينظر إلي هامة في الشرق ترتفع، وما تعودوا من الشرق إلا انكسار الحلم في دوح الوطن! • • • يؤرخ لمصر ما قبل يوليو وما بعد يوليو، وكانت يوليو مفرق التاريخ المصري، تقف شامخة شاهدة علي ما قبل من ملكية واستعمار واستغلال وعبودية، وما بعد من استقلال وعزة وكرامة. يعز علينا السؤال، ولماذا يوليو والاحتفاء؟. حاولت الإجابة علي السؤال، ولكن مريم الصغيرة أولي الثانوية العامة تكفيني السؤال، مريم واخوتها كفونني السؤال عند التحدي، تجيبكم من قمة جبل التفوق، أنا بنت يوليو وأبي عبد الناصر! مريم تعيدني وجيلي لذكريات عبرت، حديث الذكريات، الي ايام خلت أتذكرها بحنين، ولدت في يوم شتوي في العام 1964، سمعت صغيراً عن ثورة يوليو، وعن زعيم اسمه جمال عبد الناصر، عرفت عبد الناصر باكراً، زمان علي شط الترعة الصغيرة كنا نتسابق من يقفز عالياً من الشط للشط ولا يتبل أو يغرز في الطين، وكان التحدي قائماً: »لو عديت الترعة تبقي ابن عبد الناصر». قدماي الصغيرتان القصيرتان خذتني وإلي الآن، لم أحظ بشرف أن أكون ابن عبد الناصر، لم أعرف اسم ابن عبد الناصر إلا يوم وفاة أبو خالد، ومشيت ذاهلاً وراء النعش الخاوي يلف المدينة، والهتاف يرج البيوت القزمية ويخرق أجواز الفضاء علي الزراعية: »يا خالد روح قول لأبوك ميت مليون بيودعوك»، خلت ان الشجر تبلله قطرات المطر يبكيه فيتساقط دمعه حزناً. ولدت لأب فقير معدم، »فلاح سابق» قذفت به أمواج الحياة إلي سوق الرجالة، »فواعلي» من الفاعل، وهي مهنة من أشق المهن التي تقطم الظهر وتحش الوسط، عامل باليومية، لا يملك قوت يومه، والبيت ليس فيه بقية عيش حاف، والقدر يغلي بماء قراح، مصري قح، أمّي لا يقرأ ولا يكتب، ويحمل الختم النحاسي في جيب الصديري المصفر تحت الجلباب الكالح للختم، مرادف البصم. بكاه أبي كما لم يبك جدي الفلاح الطيب، واتشحت أمي بالسواد، ودام الحداد في بيوت المدينة أربعين يوماً، صغيراً كنت، لم أتبين بعد لماذا بكت مصر رجالها ونسائها شبابها وشيوخها ناصر، وحتي ساعته لا أعرف سر تجدد الحزن الدفين علي زينة الرجال، ولماذا تنتابني نوبة من البكاء كلما أطل من كوة الزمن الصعيب فيديو جنازته في هذا اليوم الحزين، أبكي حبيباً غاب، حضوره أقوي من الغياب. حتي في ذكري يوليو أبكيه، أتذكره في مناسبات رئيسية ثلاث، يوم مولده ويوم رحيله، ويوم ثورته، أعظم الثورات، لا تسألن عن السبب، ولا تجتهد في البيان، ولا تبحث في كتب التفسير، ولا تتعمق في النظريات، فقط طالع صورة الفقراء في بر مصر بعد رحيل جمال، يُتم بكل معاني الحزن والكسرة واستلاب الروح، أعجز عن وصف الحال يوم رحيله، كما أعجز عن وصف الحال في يوم ثورته، هذا من عمل المؤرخين الثقاة، ولست من هواة الاسترسال في الوصف والبيان. من شهدوا فجر الثورة وعاشوا أيامها فخراً، خليق بهم الحكي للأجيال التي لا تعرف عن يوليو إلا ما تجود به كتب القراءة الرشيدة، وهي لا تسمن ولا تغني من جوع إلي اشتهاء المعرفة بثورة الأجداد، أما جيلي فيعرفون فحسب جمال، وقرنوا ثورة يوليو بجمال، رمزية ثورة ضد الطغيان، فجمال عصي علي النسيان، وسيرة جمال وثورته يقيناً لم تكتب بعد كما كتب المؤرخون لثورات في بلاد بعيدة، كتبوا عن الثورة الفرنسية مثلاً مجلدات تركوها الأجيال، وما اجتهدوا حقاً في كتابة ثورة قامت قيامتها في البلاد. حتي من كتبوا كثيراً ومطولات عن الزعيم والقائد والملهم، نسوا في حبهم وعشقهم لناصر، ثورة الضباط الأحرار التي غيرت وجه الحياة، كتبوا عن الثائر والبطل والمنقذ، كتبوا عن الرئيس والدولة والحكم، سجلوا الأمانة والريادة ونظافة اليد، لكنهم عجزوا عن الإحاطة بحجم ما أحدثته ثورة الضباط الأحرار في أعماق أعماق الإنسان المصري، المصري بعد ثورة يوليو في حال غير الحال. وقبل أن يداهمني السؤال الصعب، وكيف يكتب من لم يعش أيام ثورة يوليو عن ثورة لم يرها، ولم يعاصر أحداثها، ولم ير رؤية العين نظرة قائدها، وكيف يصير من دراويشها، ويعيش علي ذكراها، ذكريات عبرت أفقاً خيالياً بارقاً يلمع في جنح الليالي. • • • مجدداً وبافتخار، مريم بنت الطيبين تكفيني مؤنة الإجابة علي السؤال، مريم بنت الفقراء التي تفوقت في الثانوية العامة من حجرة تحت السلم، حجرة البواب، عنوان ثورة مثمرة، طيب الثمار، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تزهر كل حين، ومريم ثمرة من ثمرات مجانية التعليم التي خالها بعض المتحذلقين وهم وسراب ضاع في لجة الرأسمالية والنيوليبرالية وآليات السوق والعرض والطلب، وغيرها من النظريات التي أطاحها ناصر بثورة الفقراء. مريم ومثلي كثير من أولاد الطيبين الكادحين الشقيانين العرقانين الذين منحتهم ثورة يوليو أملاً في الحياة، وفتحت الطريق أمامهم سالكاً ليتحصلوا علي حقوقهم المهدرة في بلاط السلطان، نحن من قال لهم خالد الذكر أبو خالد: »ارفع رأسك يا أخي فقط مضي عهد الاستعباد».. فرفعوا الرؤوس ليبصروا حقهم في الحياة».