لا يفوت كل راشد لبيب، أن عدم تحريم الموسيقي والغناء، لا ينطوي علي فسق أودعوة إليه، ولا تعني متعة الاستماع إلي الموسيقي والغناء، أن تكون الحياة كلها طربًا وغناءً، أوأن المعني بالإباحة أن تفيد لهوًا يبتعد بالإنسان عن الجد والعمل والنشاط، بل إنك لن تعدم أن تجد الأفذاذ في كل باب من أبواب العلم والأدب، من عشاق الموسيقي التي صقلت شخصياتهم وارتقت بأحاسيسهم ومشاعرهم، وأتاحت لهم الانصراف الفاعل الجاد في معانقة العلم والأدب، والعطاء المتميز في كل منهما . ولم ولن ينقطع عن الدنيا الطيب والخبيث، سواء في الغناء أوفي استخدام الكلمة أوالآلة بعامة، فالكلمة التي تنير وتداوي، هي ذاتها التي يمكن أن تؤجج وتوجع وتؤذي، والنصل الذي قد يذبح ويجرح، هوذاته مبضع الجراح الذي يعالج ويداوي، والغناء الرفيع الذي يرتقي بالشعور ويغذيه بما يطربه طربًا جميلاً، يمكن أن يقترن بالمجون أوالتحريض عليه . إن القيمة هي في » الذاتية » لا في » الاستخدام »، وذاتية الكلمة وذاتية الآلة، ومثلهما الموسيقي والغناء، ذاتية بريئة طاهرة من المنكر واللغو، أما » الاستخدام » فهومنوط بممارسات الناس التي قد تستقيم وقد تنحرف، إلاَّ أن هذا الانحراف إنْ حدث، فإنه يتعلق بالاستخدام لا بذاتية الشيء أوالعمل أوالأداء . أكم من رذاذ الكلمات الجارحة المقذعة، المليئة بالسب والقذف والطعن في الأعراض، وخدش الشرف والاعتبار، تجري بها الألسنة هنا وهناك كل يوم، ولكن هذه البذاءة هي بذاءة الشخص الذي استخدم »اللسان » استخدامًا سيئًا، لا في » اللسان » الذي هوأداتنا في التخاطب وفي التعامل وفي بث كل قيم الحق والجمال والكمال . زَحَفَ الترف والمجون والتشبيب في العصر الأموي، إلاّ أن هذا لم يحجب الشعر الرفيع والأدب البليغ . ومن يطالع كتاب الأستاذ الدكتور الجليل شوقي ضيف : » الشعر والغناء في المدينة في عصر بني أمية »، يجد أنه إلي جوار شعر الترف والمجون وما صاحبه من أغان، ومن غزل وتشبيب، كان هناك غناء ومعازف لا ترف فيها ولا مجون، وكان هناك من تركوا هذه وتلك وكانوا علي النسك والعبادة . فلم يكن ما شاع من لهو وترف وغناء في المدينة ومكة، ولعله الذي دعا البعض إلي التضييق أوالمغالاة فيه إلي حد المنع والتحريم، لم يكن ذلك يعني أن المدينة ومكة لم يكن بهما في ذلك العصر سوي صفحات من المعازف والأغاني، فقد كانت هناك صحف أخري بأيدي كرام بررة كانت كلها زهدًا وورعًا وتقوي وعبادة . فالحديث عن عدم تحريم الموسيقي والغناء، ليس دعوة إلي الغرق في الموسيقي والغناء، أو في الترف واللهو، أوترك العمل والتفرغ إلي السماع، وإنما هوحديث لا يرمي لأكثر من وضع الشيء في موضعه، وإيضاح أن التعرف علي الأحكام له أصول وضوابط، يمتلكها العلماء، ويحسنون تطبيقها واستنباط الأحكام الصحيحة منها وبها، ولا يجوز أن يترك هذا الفقه لكل من انتمي إلي فصيل سياسي ولوكان يتخذ الدين اسمًا أو وشاحًا، أولكل من ألم بقشور لم يدرسها ولم يتعمقها ولا يملك أدوات دراستها والتعمق فيها . ولست أحب بعد عرض ما قاله العلماء متبعين أصول الفقه، أن أدع ما فعله بعض اللاغين إلي حد قتل أخين شقيقين لأنهما يعزفان أويعملان بالموسيقي، دون أن أُذكِّر بأن الإسلام قد عم الدنيا، وجاوز أفريقيا وآسيا إلي أوروبا واستراليا والأمريكتين، وهناك مسلمون بالملايين في هذه البلدان، ففي فرنسا وحدها نحوستة ملايين مسلم، وفي ألمانيا نحوأربعة ملايين، وفي دول ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي ما يزيد علي خمسة عشر مليون مسلم، فماذا لوركب الشطط بعضهم . فجاري هؤلاء اللاغين، وتعرضوا للعازفين أوالسامعين للموسيقي في تلك البلدان بالإيذاء بزعم أن ذلك حرام ؟! إن الموسيقي ضلع من أضلاع الحضارة الإنسانية، وهذا العالم الذي امتد إليه الإسلام يموج بمعزوفات بالغة الرقي والتسامي، بين السيمفونية، والأوبرا، والكونشرتو، والسوناتا، والغناء الأوبرالي، وإلي جوار هذه الموسيقي العالمية التي برز فيها عباقرة عرفهم العالم أمثال: بيتهوفن وموزار ويوهان وشوبان وشوبرت وفاجنر وباخ وشتراوس وليست وهايدن وتشايكوفسكي ورمكسي كورساكوف، واشتهرت لهم ولغيرهم أعمال رائعة أسعدت وتسعد الإنسانية، ويوجد إلي جوار هذه الأعمال العالمية قوميات موسيقية، يصادفها المسلمون الذين انتشروا في العالم، في الموسيقي القومية لإسبانيا وبريطانيا واسكندنافيا، وفي دول أواسط أوروبا والبلقان، ما بين المجر ورومانيا ويوغوسلافيا أوأقاليمها الآن، واليونان وبولندا والتشيك والبلغار، والموسيقي القومية في روسيا والاتحاد السوفيتي بدوله، وفيها ما يزيد علي 15 مليون مسلم، والموسيقي القومية للولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية : البرازيل والمكسيك والأرجنتين، وقد صار في كل منها أعداد كبيرة من المسلمين زادت علي السبعة ملايين في الولاياتالمتحدة، فماذا لوانساق بعض من هؤلاء إلي الدعوات الضريرة التي تبث من بعض دول الشرق، ومنها مصر، وتبرموا بالموسيقي العالمية التي تحفل بها قارات العالم، وتصدوا لها وللموسيقي القومية للدول التي يعيشون فيها، وهم أيًا كانت أعدادهم كبيرة في بعض الدول مثل: الاتحاد السوفيتي وفي فرنساوألمانياوالولاياتالمتحدة، إلاَّ أنهم أقلية قياسًا لأهل البلاد الأصليين ؟! وماذا يمكن أن يحدث إزاء ما يؤدي إليه هذا التعدي من عداء لقوميات الدول التي يعيشون فيها، ومن تلوين الإسلام بألوان من التعصب والضيق والجمود والتخلف ؟! إن من يخوضون فيما لا يحسنونه، يسيئون إلي الإسلام من حيث يتصورون أويتوهمون أنهم يحسنون صنعًا !!!! إن الدين والفن كانا مرتبطين بقوة منذ البدايات الأولي في تاريخ الإنسانية.. والفن، مثل الدين، محاولة لتشكيل معني في مواجهة الحياة، وفي مواجهة قسوتها وآلامها .. ويشتركان الدين والفن في أن وجهتهما روحيّة، ووسيلتهما التسامي .. فليس صحيحًا أن الموسيقي والغناء فسق ومجون، فالجنوح وارد في كل شيء، ويمكن أن يصيب أي ميدان من ميادين التعبير، في الأدب أوالسينما أوالمسرح، ومع ذلك يبقي التمييز بين الجيد الرفيع، وبين الردئ الهابط، والتحريم يرد علي المعيب الهابط الفاسد، ولا يرد المنع أوالتحريم علي الموسيقي والغناء بإطلاق، فما قد يثير الغرائز أوينحط في بعض الأعمال الموسيقية أوالغنائية، ليس من الفن .. ولا ينسحب علي الفن الذي نعنيه، فالفن رقي وتسامٍ .. يلمس الأعماق الإنسانية ويتجه بها نحوالجمال والكمال، ويسمو فوق المعتاد أوالهابط من زخم الحياة .. وأنت تجد الموسيقي حاضرة في التراتيل وفي الأناشيد الدينية، وتجد المعمار الموسيقي مكونًا من مكونات البلاغة القرآنية، والتجويد في تلاوته فرعاً علي الموسيقي التي تملأ الكون من حولنا، وقدمت للإنسانية روائع تمتع الإنسان متعة صافية، وتسمو بالأرواح، وترتفع بالأذواق، وتسهم إسهامًا عريضًا في الحضارة الإنسانية . إن الموسيقي والغناء، هما كتغاريد الأطيار وشدوالبلابل والعنادل والكروانات، واقع في هذا الكون، ولحن من ألحان الحياة، وصورة من صور تسامي الإنسانية، لا علاقة لها بما قد ينحرف إليه هذا أوذاك . والإسلام قام ويقوم مع شريعته وأحكامه، علي مبدأ أصولي أن الأصل في الأشياء الإباحة، ما لم ينقلها إلي التحريم دليل شرعي ناطق، وها قد رأينا أن الإسلام قد انفتحت باحته إلي هذه القيم السامية، ولم يحتقر الحياة أويزدريها، وأباح السماع للموسيقي والغناء، وقد رأينا من اتسعت آفاقهم لذلك ومن قرون، من علماء الإسلام، فما بال البعض يرتدون بنا وبالإسلام إلي الوراء، ويفرضون وصايات ضريرة وصلت إلي حد إزهاق الأرواح التي خلقها الله وفرض لها قدسيتها ونهانا عن التعرض لها بالإهلاك أوالإيذاء . والنكبة أن يرتكبوا هذا باسم الإسلام؟!!!