هكذا هو التعليم، إما أن يقود من أي بلد من التخلف إلي التقدم، أو يقودها إلي الهاوية، لذا فإن المنطقة العربية تعيش علي وقع أن الشهادة للجميع، فتحول الهدف من نقل المعرفة للمواطنين إلي منحهم ورقة اعتبرت هي جواز السفر إلي العمل الحكومي، لكن التكوين المعرفي لتلاميذ المدارس هو أبعد ما يكون عن ذهنية المسئولين عن التعليم، لكن هل هذا هو كل شيء؟ في حقيقة الأمر إن التعليم هو عنوان هوية أي دولة الذي يرسخ لدي أجيالها حب الوطن بل ويعمق الشعور بالانتماء، فأي انتماء هذا في ظل أن التعليم الجيد هو التعليم الأجنبي سواء الفرنسي أو البريطاني أو الأمريكي أو غيرهم، حتي أنه أصبح في بلادنا جامعات صينية وروسية وأوكرانية، هذا لا يستنزف أموالنا فقط، بل يهدر فرص النمو والتنمية الحقيقية، إذ أن مثل هذه الجامعات لا توطن العلم، بل تقدم العلوم في صورة سطحية. التاريخ والامتحانات امتحانات التاريخ بوضعها الراهن تولد البلادة وفقدان الشعور بالاعتزاز الوطني، فيكره تلاميذ المدارس في الوطن العربي مادة التاريخ، ويعتبرونها مادة ثقيلة الدم والظل، يحفظون منها التواريخ والأحداث لكي يضعوها في نهاية العام في كراسة الاجابة، دون أن تدرك وزارة التعليم في دولة كمصر، أنها بمناهجها الشنيعة إنما تدمر جانبا مهما لبناء الشخصية الوطنية والولاء للوطن، هذا ما أراه مع أبنائي، لذا بات من الملح أن ننظر إلي الأمر نظرة عميقة ونفحصه ونحلله، لماذا يكره هؤلاء التاريخ؟ إن أول شيء يقابلنا هو طريقة وضع مناهج التاريخ، فهذه المناهج كانت تصلح إلي أواخر القرن العشرين إلي حد ما، لكن مع عصر الانترنت والعالم الرقمي، لن تكون هذه المناهج سوي التخلف في حد ذاته لدي الأجيال الجديدة، فهم يحتقرون كتاب التاريخ، لأن واضعه يفكر بطريقة دفنت مع مبتكريها منذ سنوات طويلة، فالتاريخ السياسي ليس إلا جانبا من التاريخ، فالأطفال في عصر الانترنت والناشئة في مرحلتي الاعدادية والثانوية يفكرون ويطرحون أسئلة:- - كيف نشأت الحضارة؟ - كيف تطورت المجتمعات وظهرت الدولة؟ - تكنولوجيا الأشياء والأدوات كيف ابتكرت وتطورت؟ وغيرها من الأسئلة التي يبحثون عن اجابات عليها، ثم إن الصورة والفيلم التسجيلي هما أداتان مكملتان لمادة التاريخ، فالسرد الذي عليه كتب التاريخ اليوم، هو سرد كتبه شخص عادة ما يفتقد روح اللغة العربية، فهو يسرد حقائق جافة إذا قرأتها ستكره من كتبها، بينما التاريخ قصة تروي بصورة شيقة وممتعة تجعل من يقرأه يحب التاريخ بل يعشقه. إذا كنت تروي تاريخ مصر القديمة، فإن قصة اللغة المصرية القديمة بعلامتها تعد مدخلاً مشوقاً لتلاميذ المرحلة الابتدائية لكي يعفوا منه حضارة مصر القديمة، كما أن ذلك يرتبط بالرحلة المدرسية لأماكن الزمن التاريخي الذي يدرس، إذ أن هذا الترابط بين المكان والزمان يثبت الحدث في ذهنية المتلقي أكثر من أن نرغمه علي الحفظ، وإذا جعلنا هذا مرتبطاً بقراءة المزيد في مكتبة المدرسة ليلخص التلميذ كتابا في أبحاث قصيرة من ثلاث إلي خمس صفحات سنري استيعابا من التلميذ غير مسبوق يرتبط بحب القراءة، واذا اعتبرنا أن هذا هو الامتحان الشهري، سيولد ذلك أجيالا تقرأ التاريخ، هذا يقتضي أن يقدم المدرس أفلاما وثائقية في الفصل لتلاميذه، ثم يناقشهم في موضوع الفيلم، فمثلا أنتجت مكتبة الاسكندرية فيلما 26 دقيقة عن حياة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يحكي قصة حياته وكفاحه، يركز علي حقبة محددة من تاريخ مصر والمنطقة العربية، قد يحمل التلاميذ آراءً سلبية أو ايجابية حول ما جاء في الفيلم، هذا ما سيكون محلا للنقاش مع الاستاذ، هذا ما يتواكب مع العقلية الناقدة للأجيال الجديدة، هذا ما يجعل من التاريخ مادة تعليمية متواكبة مع ثقافة الصورة التي هي اليوم أحد أهم مصادر المعرفة لدي الأجيال الجديدة. . كما أن طلب الأستاذ من تلاميذه البحث علي شبكة الانترنت عن معلومات تاريخية يجعلهم في سباق لكي يحصلوا علي معلومات حول الزمن أو المكان، هذا ما دفع مكتبة الاسكندرية لإطلاق موقع ذاكرة مصر، كما ستطلق ذاكرة الوطن العربي، لكي توفر للأجيال الجديدة معلومات موثقة، وإلا فإن هذه الأجيال ستذهب للبحث عبر الانترنت من الموبايل في مواقع غير عربية.. إن ربط مادة التاريخ بالمكان الذي يعيش فيه الطالب، فضلاً عن ترك مساحة لمدرس التاريخ، ليدرس تاريخ المدينة أو الاقليم، وليزور مع طلابه معالم المكان، كل هذا يعزز الولاء لدي الطالب، بل سيعطي المدرس دور الفاعل في المنهج التاريخي، وليس فقط دور الملقن.. أما الامتحان فيجب أن يبني علي صح و خطأ، في ثلثه الأول وفي ثلثه الثاني حول موضوع تاريخي يطرح فيه التلميذ رؤيته ليس من خلال كتاب مدرسي، بل من خلال القراءات والرحلات والبحث، لذا فإن مهارة المدرس تأتي في تقييم التلميذ الذي يستوعب مناهج التاريخ، ويعطي مخرجات مختلفة عن أقرانه تعبر عن قدرته علي الاستيعاب.. هذا كله يقتضي حدوث تغيير جذري في اعاد مدرسي التاريخ، لأن الوضع الراهن في أقسام التاريخ بالجامعات العربية لا يعطي المخرجات المطلوبة لمدرس متطور مع عصره، فهناك علوم أساسية غائبة عن هذه الأقسام مثل فلسفة التاريخ وتاريخ التاريخ، والأنثروبولوجيا. جماليات اللغة العربية هل مستوي اللغة العربية، هو الذي ننشده لدي ابنائنا؟ بلا شك الاجابة ستكون بلا، إن جماليات اللغة العربية هي المدخل الحقيقي، فالنص السلس الجميل نثرا أو شعراً، هو المدخل لكي يحب أطفالنا اللغة، لذا فان الأغنية الرقيقة هي الوسيلة لكي يحب أطفالنا اللغة، لذا فإن الأغنية الرقيقة، هي الوسيلة لكي يجيد الأطفال صحيح اللغة العربية، ثم عبر هذه النصوص تتسلل قواعد اللغة من نحو وصرف، وإذا جئنا إلي لغتنا سنجد طه حسين بأسلوبه السهل الممتنع يطل علينا، إلي أن نصل إلي النصوص القديمة، فما بالك لو ألقي الطلاب بردة البوصيري أشهر بردة مدح فيها خير البرية في يوم مولده، دون ربط هذا بإعادة كراسة الخط العربي لمدارسنا فلن يدرك التلميذ جماليات الحرف العربي، بل وإن قدمائنا أدركوا كل هذا حين وضعوا النحو في ألفية بن مالك وغيرها، بل صاغوا العلوم شعراً، لكي يسهل استيعابه وادراكه، وحملت بعض الأبيات تساؤلات وأخري ألغازا تحل في الأبيات التالية، وأكبر خطأ هو أن نبدأ بالشعر الجاهلي فهو آخر مرحلة لتعليم العربية، إذ نبدأ بالشعر المعاصر، هذا يستدعي من الذاكرة ما ألفه أحمد شوقي أمير الشعراء للأطفال. إدارة المدارس إن إصلاح منظومة المدارس لا يبدأ فقط من المدارس أو المنهج، بل إن أفضل طريقة، هو أن نبدأ من مدراء المدارس، فالمدير لن يتابع المدرس وهو يدرس فحسب، بل يتأكد من عدم تسرب التلاميذ من المنظومة التعليمية، لذا فإن اهمال مدراء المدارس في منظومات التعليم العربية، أدي إلي انفلات العملية التعليمية، فالمدير حين يدرب جيداً، فان ايقاع العمل في المدرسة ينتظم، واذا كان لديك عشرة آلاف مدرسة، فانه من الأسهل والأسرع لضبط التعليم رفع كفاءة المدراء أو اختيار مدراء جدد أكفاء طبقاً لمعايير الادارة الجديدة، يصاحب هذا تكوين مجلس للأبلاء يشارك في مراقبة العملية التعليمية ويكون له قرار في إدارة هذه المنظومة، بل وفي مراقبة المدرسين، شاهد مثلا عزوف التلاميذ في مرحلة الثانوية العامة عن الذهاب للمدارس بعلم وزارة التعليم المصرية، وذهابهم إلي مراكز الدروس الخصوصية، التي يبذل فيها المدرسون طاقتهم، بل ان مراكز الدروس الخصوصية تتابع التلاميذ وتخطر أولياء الأمور أولا بأول بأي تقصير، بل نجد في القاهرةوالاسكندرية تنافساً بين التلاميذ للحضور لدي المدرس الذي يستطيع أن يجعل الطالب يستوعب المادة، هذا كله مؤشر علي أن الشعب المصري يحب أن يتعلم أبناؤه ويتفوقوا، وتبذل الأسر الأموال الباهظة في سبيل هذا الهدف.. إن ذلك يؤشر إلي وجود خلل في منظومة التعليم أبطالها: المنهج / المدرس / الإدارة / الأسرة / المجتمع، فلو كان المنهج طبقا للمعايير التعليمية، والمدرس علي الكفاءة المطلوبة، والادارة التي تؤدي دورها، والأسرة تتابع أبناءها، والمجتمع يراقب ويوجه، ستكون مخرجات العملية التعليمية كما يريدها المجتمع، هنا يجب ان نشير إلي معايير تشييد المدارس التي تفتقد إلي فناء ممارسة الرياضة وغرفة الموسيقي ومعمل العلوم المتكامل، وعدد التلاميذ في الفصل المناسب والذين طبقا للمعايير الدولية يجب ألا يتجاوزون 18 تلميذا في الفصل، في حين أن بعض المدارس في مصر يبلغ عدد التلاميذ فيها في الفصل الواحد مائة تلميذ. . إن هذا كله يتطلب اعادة بناء منظومة التعليم كلها، واحداث بها، قد تنتهي بها مستقبلا لإلغاء الكتاب المدرسي، بل احداث حيوية في العملية التعليمية، التي أصبحت في ظل ثورة المعرفة مع عالم تكنولوجيا المعلومات عملية مستمرة، إذ أن الشهادة ليست هي نهاية المطاف، إن كل منا يجب أن يظل يتعلم لكي يواكب الجديد، فهل أنت مازالت تكتسب الجديد كل يوم؟