خمسة وستون عاما بالتمام والكمال هي المسافة الزمنية الفاصلة بين الصفحة الأولي في سجل التضحيات وقد كتبت سطوره الأولي ومقدمته بالدم الطاهر لرجال شرفاء بمدينة التضحيات والفداء السويس الباسلة وقد اثبتوا لقادة الجيش البريطاني الغاصب بل للعالم أن بمصر خير أجناد الأرض، ومازالت صفحات هذا السجل تطوي بلا خاتمة أو نهاية وقد زينتها آلاف الصور والأسماء وقد نقشت عبر هذه العقود بمسك الدم الطاهر لآبائنا ولأبنائنا ممن قدموا أرواحهم ثمنا لبقاء هذا الوطن. وما بين فؤاد باشا سراج الدين ومجدي عبدالغفار هناك الكثير الذي يقال، عن تضحيات كبيرة ومجهودات جبارة وقادة قدوة وضباط أفزاز وأفراد كانوا رموزا للوطنية الخالصة.. ومع الزمن تغيرت الأحوال وتبدلت البيئة العامة وتطورت طرق ومستويات الآداء الأمني ومناهج التعليم وطرق التدريب، أي أن شرطة 1952 ليست هي شرطة 2016 بحكم طبيعة تطور مصادر ثقافة المجتمع المكونة لسلوكه العام والذي يعد المؤثر الحقيقي علي منظومة الجريمة فيه سواء كانت السياسية أو الجنائية، واقصد بمصادر ثقافة المجتمع مجمل العلاقات الاجتماعية فيه والأوضاع الاقتصادية و السياسية ومنظومة القيم الاخلاقية السائدة وأخيرا منظومة التكنولوجيا، ولاشك أن كل هذه المصادر قد تبدلت بشكل سافر أثر بشدة علي سماتنا الشخصية، ونذكر باهم المحطات التاريخية التي أسهمت بعمق في إعادة تشكيل سماتنا بدرجة كبيرة مثل ثورة 1952 ثم هزيمة 1967 ثم فترة الانفتاح في منتصف السبعينات ثم موجة الهجرة بكثافة تجاه الخليج الوهابي ثم معاهدة السلام مع العدو التقليدي عام 1979 ثم فترة تحول الدولة من فساد الإدارة إلي إدارة الفساد خلال السنوات العشر الأولي من القرن 21 ثم ثورة 2011 وماحدث فيها واكتشفه الشعب من خديعة كبيرة مليئة بالمتآمرين من الخارج والخونة من الداخل ثم السنة السوداء التي تولي فيها التنظيم الإرهابي فيها مقاليد الحكم.. كلها محطات صعبة ومعقدة لاشك انها اسهمت في إعادة تشكيل سلوكنا وسماتنا وبكل اسف أدت فيما أفرزته إلي تدهور قيمنا الاخلاقية سواء علي مستوي القيم المهنية أو القيم الانسانية وتلك هي الكارثة التي فاقمت من الجريمة بنوعيها السياسي والجنائي علي مدار ال 65 سنة وهو أمر جوهري فضلت التقديم به قبل إجراء المقارنة بين مستوي الأداء الامني علي مدار الفترة المشار إليها.. من هنا يمكننا ان نلمح بوضوح تبدل في مكونات منظومة الجريمة - نتيجة ماسقناه - هذا التبدل طال مرتكب الجريمة ذاته وجغرافيا الجريمة ونوعيتها ومستوياتها والملاحظ انه تسبب في تعقد غير متعود مع الزمن، وكل ذلك مقبول ومتوقع ولكن علي الجانب الآخر نجد انفسنا محاصرين بعدة اسئلة مهمة مطلوب إجابة واضحة عليها، ومنها السؤال المنطقي الذي يتلخص في: وهل منظومة المكافحة - علي مدار ال 65 سنة- قد اصابها التطور علي التوازي لمنظومة الجريمة؟!! ثم يأتي السؤال الأكثر الحاحا وهو: وهل مستوي الأداء الأمني وهو معيار الموازنة والمقاربة بين الطرفين ظل في حدود المأمول أو حتي المقبول علي مدار هذه المساحة الزمنية الطويلة التي حكمها عامل آخر مهم؟!! فقد بدأت وتعداد سكان مصر 25 مليون نسمة وقد قاربت الآن من المائة مليون إن اضفنا غير المصريين المقيمين بها؟! وسؤال آخر: هل أثر كل ما ذكرناه في إعادة تشكل لثقافة المؤسسة الأمنية وبالتالي إحداث نوع من التطور علي عقيدتها الأمنية؟!! خاصة وأن هناك موقعتين حاكمتين لبداية ونهاية ال 65 سنة في غاية التأثير الأولي الدور البطولي وغير المتعود للشرطة بوقوف رجالها ضد قوات غاصب ومحتل بشرف دفاعا عن كرامة وطن، والثانية حالة اتهام - ظالمة - بالهروب من ميدان الواجب والتخلي عن المسئولية بل التعدي بالضرب والسحل والقتل علي الشعب وهو في حالة ثورة، الأولي سجلها التاريخ باحرف من نور واعتبرهم - الشهداء والجرحي - وقادتهم ابطال، وهم كذلك بمن فيهم وزير الداخلية فؤاد باشا سراج الدين.. والثانية مازالت تحتاج لجرأة غير متاحة للآن علي المستوي السياسي والامني للتبرأة خاصة أنه قد ثبت حجم خطة المؤامرة التي حيكت لضرب المؤسسة الأمنية لهدف نهائي وهو إسقاط الدولة المصرية، وبكل اسف لم يتقدم أي من قادة هذه المؤسسة للآن بعرض لأبسط حقوق رجاله وطلب رد الاعتبار، غير عابئ بأثر هذا التردد علي مستوي مستقبل الآداء للرسالة.. في الحقيقة وبأمانة ومن واقع خبرة طويلة ومعرفة تصل إلي حد اليقين بهذه المؤسسة العريقة، فإنه من الظلم ان نعقد المقارنة التي نحن بصددها متخذين الحدثين - رغم اهميتهما وأثرهما العميق - لأسباب كثيرة بعضها فني وكثيرها يرتبط بحساسية اللحظة، لأن احداث يناير 2011 كان فيها من الخلط والإدعاء بالباطل علي المؤسسة وقادتها وضباطها وافرادها ما يستوجب إعادة استعدال الأمور بأمانة قبل الولوج في التقييم، ويدهشك أن الجميع - قادة ونخبة وإعلاميين - يدركون حجم المؤامرة ولكنهم لأسباب نرفضها جملة وتفصيلا قد عجزوا عن كلمة حق بها سنعيد الثقة ويختلف الأداء وتتضح العقيدة الأمنية وتبدو علي حقيقتها منشأة علاقة جديدة صادقة بين المجتمع المدني ومؤسسته الأمنية.. وفي رأيي المتواضع، وإلي أن نصل للحظة المكاشفة والمصارحة، لحظة يصاب فيها الجميع بنوبة جرأة لنتمكن من تضميد جرح الكرامة لقادة يعدون جميعهم نماذج لما يجب أن يكون عليه »أسطوات العمل الأمني» وضباط وأفراد سقطوا في بئر أعد لهم بحرفية وكانت الدولة تعاني حالة غيبوبة طويلة، وألفت النظر إلي أنني لست معنيا بالمسلك الشخصي لأي منهم فقط أتعرض للمهنية وأثرها علي الأداء ونتائجه. إننا في حاجة لرد الاعتبار لهذه المؤسسة بشكل واضح وبدرجة أكثر صراحة عما قاله القائد المحترم سيادة المشير طنطاوي في أول احتفال بعيد الشرطة بالأكاديمية وقد كان منصفا في كلمته، موحيا وملمحا بجمل عكست عليهم سيادته بحقيقة ما حدث وأنا اقدر مدي حساسية الموقف والزمن آنذاك ولكننا الآن تخطينا المرحلة بكل تعقيداتها، فالمؤسسة الأمنية إحدي اهم مؤسسات الدولة وقد كان السيد الرئيس الأكثر قوة في تناوله للدور والمهمة في خطابه العميق والمؤثر الذي ألقاه في ختام فعاليات الاحتفال بعيد الشرطة منذ عدة أيام.. ويمكننا أن ننتهي إلي أنه قد حانت اللحظة المناسبة جدا إلي إعادة الثقة لرجال المؤسسة الأمنية وبالتالي الصورة الذهنية عنها لدي المجتمع لما كانت عليه قبل 65 سنة وللأمانة فالدور هنا مشترك بين الدولة والمؤسسة ذاتها لكن خطوة الدولة أراها مستحقة وأسبق وربما تخرج بعض الاصوات من داخل المؤسسة ممن هم جاهزون للنفاق أو من خارجها ممن هم في حالة عداء مستمر معها - لمقاومة ما أقوله ومقدما اطمئنهم وبكل حب بأن ما أطالب به غير ناجم عن مجرد إحساس استشعرته بحكم الملاصقة ولكنها رسالة منقولة بأمانة وجرأة لمن يحرص علي حب هذا الوطن ويعنيه الحفاظ علي مؤسساته.. أما عن الدور علي الجانب الآخر فمطلوب من وزارة الداخلية ان تعيد هندسة ثقافتها التنظيمية بشكل جذري، ويقوم قادتها بتصميم رؤية استراتيجية جديدة تتضمن عدة أهداف استراتيجية تستشرف المستقبل لمنظومة العمل الأمني علي ضوء الواقع المعقد والمستقبل الملئ بالتحديات والتهديدات والدور الجديد، وطرح الخطط الاستراتيجية بفهم ووعي علي أن تبني علي أسس علمية وفنية والابتعاد عن العفوية والاجتهاد المتوارث، وهنا أشير وألمح فقط إلي الاهتمام بمنظومة التعليم والتدريب وإلي التحول إلي نظام يضمن حسن استثمار وإدارة الثروة البشرية بالوزارة بشكل اكثر فاعلية، ويقوم بوضع معايير منضبطة وثابتة للتعيين والاختيار والترقي، والأهم من كل ذلك الانتباه بوعي وقناعة إلي أن عقل الوزارة الذي صرف عليه الملايين استثمارا علي مدار عقود وأملها في التطوير هم أبناؤها الضباط التي منحتهم فرصة الحصول علي أعلي الدرجات العلمية وسمحت بسفرهم للخارج للاستفادة من تجارب الآخرين وهم مئات ثم تعاملت معهم بما لا يستقيم وما يجب، والسؤال ما الهدف الذي كانت الوزارة قد حددته عندما قررت إنشاء كلية للدراسات العليا وتكلفت الكثير علي الضباط سواء بالدراسة فيها أو في الجامعات الاخري أو منحهم التفرغ لسنوات؟! وبالمناسبة ايضا ألقت النظر لأهمية الدور الاستراتيجي الذي يمكن ان يقدمه مركز بحوث الشرطة بشكل اكثر كفاءة وفاعلية فقط التفعيل والخطط الواقعية واستنهاض الرجال وتعظيم الاستفادة من المتاح وهو كبير وكاف. والمطلوب مزيد من العمل بإخلاص وليس عيبا ان نستفيد من تجارب المؤسسات الاخري كالقوات المسلحة فيما تشابه، ولنتوقف عن الأداء الاجتهادي بلا معايير لبعض القادة، واتمني والجميع يعرفني ويدرك مدي حبي لهذه المؤسسة ولكل مؤسسات الوطن الا يؤخذ ماكتبت وما سأتناوله تفصيلا قريبا ما أخذ يخالف النية والقصد، خاصة أنني امتلك خبرة متواضعة تؤهلني لطرح مجموعة مقترحات قابلة للتناول والتطبيق معظمها - بكل أسف - سبق وتم تناوله في كل أروقة الوزارة علي مدار سنوات ولم يلتفت احد لها.. أخيرا .. تحية لكل شهداء الشرطة، وتحية لكل مشروع شهيد منهم، وتحية من القلب لكل من اخلصت معه الدرس والنصيحة علي مدار عمر.