في عام 1958 حصلت غينيا علي استقلالها بعد سنوات من النضال. ومنذ ذلك الحين عاشت هذه المستعمرة الفرنسية السابقة في غرب افريقيا تحت حكم انظمة استبدادية وديكتاتورية، ولم يتمتع شعبها بالحرية التي كان يحلم بها قبل الاستقلال. وفي عام 2008 وقع انقلاب عسكري في العاصمة كوناكري وضع البلاد تحت الحكم العسكري الذي مارس أسوأ اشكال القمع ضد الشعب الغيني. وبعد معاناة مؤلمة، بدأت عملية حقيقية لاستعادة الحكم المدني من خلال انتخابات ديموقراطية حرة كانت هي الاولي من نوعها لاختيار رئيس جديد للبلاد. وفي يونيو الماضي اجريت الجولة الاولي من هذه الانتخابات بين عدة مرشحين واسفرت عن اعادة الانتخابات بين اثنين من المرشحين هما الفا كوندي رئيس الوزراء السابق و سيلو دالين ديالو زعيم المعارضة. المشكلة ان هذين المرشحين ينتميان لاكبر قبيلتين في البلاد هما "مالنيكيه" و "البول" اللتان تسود علاقتهما حالة من التنافس والعداء العرقي والطائفي الشديد. وخلال الفترة التي سبقت الجولة الثانية من الانتخابات في 24 اكتوبر، تفجرت موجات مروعة من العنف بين انصار المرشحين او القبيلتين لدرجة ان اللجنة المشرفة علي الانتخابات قررت تأجيل هذه الجولة الي اجل غير مسمي لإستحالة إجرائها في هذ المناخ الدموي. ولاشك ان ما شهدته التجربة الديموقراطية الاولي في غينيا كان محبطاً لأنصار الحرية في كل مكان. فقد سيطرت المفاهيم القبلية علي الجميع وتحولت العملية الانتخابية الي ساحة للعنف والصراع البدائي وتعامل كل طرف مع الآخر علي انه عدو لدود وليس كمنافس شريف يتعين احترام كل حقوقه. وهكذا شهدت العاصمة كوناكري والعديد من المدن والقري الغينية معارك بالرصاص والاسلحة البيضاء، وسالت دماء ابناء الوطن الواحد واغتصبت النساء وتعرض الاطفال لاعتداءات وحشية ووصلت الامور الي درجة وضع السم في مياه الشرب لأنصار مرشح المعارضه كوندي بهدف التخلص منهم مرة واحدة والي الابد! ونتيجة للشكوك المتبادلة بين المرشحين تم تغيير رئيس اللجنة المشرفة علي الانتخابات اكثر من مرة كان آخرها استدعاء شخص اجنبي هو الجنرال سياكا سانجاري من دولة مالي لتولي هذه المسئولية علي غرار ما يحدث في مباريات كرة القدم الافريقية! باختصار، تحول مهرجان الديموقراطية الوليدة في غينيا الي مناسبة لإطلاق كل مشاعر التخلف والقبلية وممارسة اسوأ السلوكيات الهمجية، وهو ما دفع البعض الي ترديد تلك الفكرة العنصرية التي تؤكد ان الديموقراطية لا تصلح للشعوب المتخلفة او النامية. وقال الكثيرون في غينيا ان الحكم الاستبدادي او العسكري ربما كان هو الانسب لبلادهم في هذه المرحلة بعد ان اثبتت التجربة ان الديموقراطية التي تطالب بها العناصر المستنيرة ربما تشعل النار في الوطن وتفجر حرباً اهلية بين ابنائه. وفي نفس الوقت هناك أصوات اخري تؤكد ان ما حدث خلال الانتخابات الاخيرة في غينيا هو ثمن الديموقراطية الذي يجب ان تدفعه الشعوب حتي تستوعب مفاهيم الحرية وتتخلص من ميراث الحكم الاستبدادي الذي عاشته لعشرات السنين، والذي كان يستمد قوته وعنفوانه من اثارة الفرقة وتغذية الصراعات بين ابناء الوطن. ورغم كل الممارسات الهمجية والغوغائية التي شهدتها الانتخابات الاخيرة في غينيا، فإن الحقيقة هي ان أسوأ سلبيات الديموقراطية والحرية تظل دائماً افضل بكثير من كل الإيجابيات المزعومة للاستبداد والديكتاتورية.