عندما طلع علينا قانون المناقصات والمزايدات عام 8991 نص علي إلغاء قانون المناقصات القديم، وهذا أمر طبيعي، ليحل محله القانون الجديد، وبعد أن نص علي ذلك صراحة، أضاف عبارة واحدة »بإلغاء كل حكم يتعارض مع أحكام هذا القانون«، ودارت المناقشات تحت قبة البرلمان، ماذا تعني هذه العبارة؟ هل تؤدي إلي إلغاء قوانين الهيئات السابقة جميعها التي تتعارض مع هذا القانون؟ أم أنها عبارة عابرة ودارجة في كل القوانين؟. من يتصور أن عبارة واحدة وردت في صدر مواد قانون المناقصات والمزايدات، الذي صدر منذ عام 8991 ومازال قائماً حتي الآن، هذه العبارة وحدها والتي لم تتجاوز مفرداتها سبع كلمات »بإلغاء كل حكم يخالف أحكام هذا القانون«، وقد وقع فيها اختلاف المفسرين عند الإفتاء والتطبيق قد هزت أركان البلاد بعد اثني عشر عاماً، بصدور الحكم في قضية مدينتي لينطلق المبدأ مدوياً ببطلان جميع التصرفات التي تمت في البلاد خلال اثني عشر عاماً بالتمام والكمال، وفي الرواية تفصيل. وكانت القوانين السابقة علي صدور قانون المناقصات والمزايدات، قد أخبرتنا بأن هناك عدداً من الهيئات الحكومية في مصر قد أُنشئت بمقتضي قوانين خاصة لتحقيق أغراضها، تسري في شأنها أحكام وقواعد تخص كل منها، تمكنها من بلوغ أغراضها، ومنها سلطة التصرف في أملاكها المملوكة للدولة ملكية خاصة بأساليب مختلفة، منها الأمر المباشر سواء بالتراخيص أو التعاقد ودون إجراء مزايدة أو ممارسة، ومن بين هذه الهيئات هيئة المساحة الجيولوجية والمشروعات التعدينية والمحاجر.. وهيئة الآثار.. وهيئة الثروة السمكية.. وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة.. والهيئة العامة للتنمية الزراعية.. وهيئة التنمية السياحية.. وهيئة التنمية الصناعية.. وغيرها من الهيئات الحكومية التي لها قوانينها الخاصة، ومازالت هذه الهيئات قائمة حتي الآن، ولها قوانينها مطبقة وسارية، وكل شيء تمام في تمام. وعندما طلع علينا قانون المناقصات والمزايدات عام 8991 نص علي إلغاء قانون المناقصات القديم، وهذا أمر طبيعي، ليحل محله القانون الجديد، وبعد أن نص علي ذلك صراحة، أضاف عبارة واحدة »بإلغاء كل حكم يتعارض مع أحكام هذا القانون«، ودارت المناقشات تحت قبة البرلمان، ماذا تعني هذه العبارة؟ هل تؤدي إلي إلغاء قوانين الهيئات السابقة جميعها التي تتعارض مع هذا القانون؟ أم أنها عبارة عابرة ودارجة في كل القوانين؟. وأتت المناقشة عرضاً وعلي استحياء، وحُسم الأمر بأن النص واضح ويلغي كل القوانين السابقة، رغم ما أكدته الحكومة في إحدي جلسات المناقشة، انها لم تقصد بهذا المشروع إلغاء تلك القوانين الخاصة..!!، والغريب أن هذه القوانين الملغاة وهي متعددة لم تكن تحت نظر أعضاء المجلس قبل أن يستقر رأيهم علي إلغائها، ولا يعرفون أحكامها وغايتها حتي يقرروا الإلغاء ويقفون علي آثاره ونتائجه، وانتهي الأمر.. وصدر القانون الجديد الذي يحمل رقم 98 لسنة 89 أي منذ اثني عشر عاماً بما مؤداه أن الدولة عند التصرف في أملاكها الخاصة يتعين أن تتبع أسلوب المزاد أو الممارسة إلا في حدود عشرين ألفاً أو خمسين ألف جنيه، وهو نص لا يمكن أن يكون بديلاً عن قوانين الهيئات الخاصة التي لها أغراضها المحددة في التنمية والتعمير لسبب بسيط أنه لا يوجد عقار بهذه القيمة حتي يرد عليه تصرف بالأمر المباشر!!
لكن الهيئات - جميعاً - بعد صدور قانون المناقصات الجديد ظلت متمسكة بقوانينها الخاصة، وبلوائحها التشريعية، التي تمكنها من التصرف المباشر مع الغير من الشركات أو المواطنين طيلة اثني عشر عاماً بالتمام والكمال، وعلي خلاف أحكام قانون المناقصات، كما أعلنت أنها لا تستطيع أن تحقق أهدافها إلا باتباع هذا الأسلوب، وأن قوانينها الخاصة ترخص لها في ذلك، وأضافت أن قانون المناقصات لا يلغي قوانينها الخاصة، وأن الإشارة في صدر المادة بتلك العبارة المكونة من سبع كلمات لا يعني الإلغاء، وأن ما ورد بقانون المناقصات لا يُغني ولا يُسمن من جوع، ولا يكفي لتحقيق أغراضها، ومنها ما عدلت لوائحها الداخلية لتؤكد هذا المعني، ومنها ما اعتمد هذا التعديل من مجلس الوزراء مثل اللائحة العقارية لهيئة المجتمعات العمرانية المعدلة عامي 1002، 5002!! ظلت الحكومة المركزية أو الهيئات ذاتها صامتة عن حسم الخلاف، ومن الجهات المعنية من قال بالخلاف علي استحياء، ومن الجهات القضائية من قالت في أحكامها إن مخالفة الإجراء لا تؤثر علي سلامة العقد، حتي ولو كانت المخالفة تؤدي إلي المساءلة.. لكن العقد متي وقع ينعقد صحيحاً وملزماً لطرفيه، واستقرت الأحكام علي ذلك حتي المحكمة الإدارية العليا ذاتها، وأيضاً القضاء الإداري والجمعية العمومية لتؤكد ذات المبدأ حرصاً علي استقرار المعاملات وتعزيز الثقة في الحكومة ذاتها وأخذاً بحسن النية في إبرام العقود وفي تنفيذها.
وظلت الهيئات الخاصة ماضية في تصرفاتها.. وظلت الوزارة المعنية بالمناقصات والمزايدات راضية بما جري.. وظلت الأجهزة الأخري.. منها ما هو صامت.. ومنها من أبدي ملاحظة، واستمر الحال علي ما هو عليه طيلة اثنتي عشرة سنة، حتي بلغت تصرفات واحدة من تلك الهيئة ثلاثة ملايين تصرف، فضلاً عن الهيئات الأخري العديدة التي تصرفت وتعاقدت وفقاً لقوانينها ولوائحها، ونقلت الملكية بالتسجيل إلي الغير واستقرت الأوضاع والدنيا ربيع في ربيع وكله تمام!! حتي هبت العاصفة، فكانت قضية مدينتي.. وفي ضوء السوابق فلا مشكلة، وفي ضوء التاريخ علي مدي اثني عشر عاماً أيضاً فلا مشكلة، فقانون الهيئة قائم.. واللوائح العقارية حتي عام 5002 أي بعد قانون المناقصات والمزايدات وسوابق القضاء لا تهدم العقد مطلقاً ولا تؤثر فيه.. خاصة أن التصرف تم علناً وفي وضح النهار ويشهد له المصلحة العامة، وأنه لا عدوان علي المال العام، بأن إجراءات التعاقد تمت في العلن، وأن شروط العقد صارمة في صالح الهيئة، وأن الثمن أعلي من إجراء المزاد بنسبة 91٪، وأنه لا أثر للمخالفة علي صحة العقد وسلامته، لكن المفاجأة الكبري كانت صدور الحكم بالبطلان لأن الجهة الإدارية قد خالفت قانون المناقصات.. وتبعاً فالبطلان يلحق العقد!!
وما أن صدر الحكم، إلا واهتزت الأرجاء، فالعقد ليس هو الوحيد الذي انعقد عن غير طريق المزاد، والهيئة ليست هي وحدها التي تصرفت في أموالها عن غير طريق المزاد.. وأيقن الجميع من الأفراد والمشروعات والشركات أنهم إلي ذات المصير، فالعقد قد مضي علي تنفيذه أكثر من خمس سنوات، وتم التعاقد مع الآلاف من المواطنين، ومحل العقد لم يعد موجوداً.. والمراكز القانونية قد تغيرت، وقال لنا أساطين القانون قديماً إن معظم أحكام البطلان تسودها الفوضي، وأن المخطئ عليه أن يتحمل الخطأ علي أم رأسه وحده، ولا يتحمله الطرف الثاني، وأصحاب التصرفات التي تمت خلال اثنتي عشرة سنة استشعروا القلق والاضطراب.. والمستثمرون تهددت مصالحهم وتعرضت للخطر، والقانونيون تحدثوا بلغة السياسة.. والسياسيون صبوا لعناتهم علي الحكومة، وبعض المستثمرين الأجانب بدأت إجراءاتهم بالمطالبة بحماية حقوقهم واللجوء إلي مراكز التحكيم الدولي بالخارج وفقاً لاتفاقات دولية صدرت منذ قديم تشجيعاً للاستثمار في البلاد، ومواطنون آخرون لجأوا إلي رفع الدعاوي طلباً للحكم بالبطلان لتصرفات أخري ومشروعات كبيرة سعياً للشهرة.. وكُتاب نعتز بهم كتبوا في اتجاهات مختلفة وتوجيه الاتهامات، كل ذلك هز أركان البلاد بسبب عبارة واحدة وردت في صدر قانون المناقصات والمزايدات كانت مفرداتها سبع كلمات!!
لكن الدولة مسئولة عن تصرفاتها.. وعليها أن تعزز الثقة في كل من يتعامل معها، كما أن عليها أن تعلن عن مسئوليتها بشجاعة أمام الرأي العام في الداخل والخارج، لهذا كانت دعوة الرئيس إلي الحكومة للعمل علي حل المشكلة.. وشُكلت اللجان.. وانعقد مجلس الوزراء.. وكان طوق النجاة في مادة مضافة إلي قانون المناقصات والمزايدات عام 6002، حتي لو كان البعض لم يقرأها وإذا قرأها لا يريد أن يفهمها وهدد آخرون بملاحقة الحكومة لأن البعض يعز عليهم الاستقرار وتعزيز الثقة وحماية الأوضاع الظاهرة وحماية المراكز القانونية واستقرار المعاملات التي هي من النظام العام. ومع كل ذلك فمازالت التصرفات المماثلة تتطلع إلي حل.. فالقضايا متوالية.. والمتعاقدون ليس لهم ذنب فيما جري.. والدولة عليها أن تحترم تعهداتها في جميع تصرفاتها.. مادام المتعاقد بعيداً عن الغش والتدليس الذي يفسد كل شيء.. ومازالت التصريحات متناقضة وأصحاب الرأي يتنازعون وأصحاب المشكلة في حالة قلق واضطراب.. يتطلعون إلي استقرار معاملاتهم وحقوقهم.. بعد أن صار إعادة الحال إلي ما كان عليه قبل التعاقد يكاد يكون مستحيلاً بعد طول الزمن.. وأن الدولة إذا كانت ملتزمة بالتعويض فإن الأمر يكاد يكون جامعاً ومرهقاً وشديداً، ولسوف تظل هذه العبارة التي جمعت مفرداتها سبع كلمات فقط.. وما أحدثته من هزة في أركان البلاد.. سابقة تدعو الحكومة وكل من يعنيه الأمر في البلاد إلي تدارسها ومعالجة أسبابها.. ووضع الحلول لها في العلن وبموضوعية ومواجهة القضايا بمسئولية وشجاعة وفي الحال، خشية التصدع وعدم الاستقرار وفقدان الثقة في الحكومة عند التعامل معها أو التصرف في أموالها أو غير ذلك من المعاملات في الحال أو الاستقبال، وحتي لا تتكرر تلك السابقة المروعة التي هزت أركان البلاد بعبارة واحدة من سبع كلمات!!