كنت أسمع عن الجدار العازل وسلكه الشائك !! وأتتبع استماتة المزارع الفلسطيني علي أرضه.. وما إن وصلنا الي قطاع غزة عقب اتفاق التهدئة بين المقاومة وقوات الاحتلال الا وعلمنا بسقوط أول ضحية علي السلك الشائك بعد الهدنة في أبعد نقطة من الحدود.. وبالتحديد قرب معبر إيريز الاسرائيلي بمنطقة بيت حانون لفلاح حاول الوصول لأرضه فأردته قناصة الجدار شهيداً!! قررنا أنا وزميلي الفدائي.. مصور أخبار اليوم عبد الهادي كامل ان نكون هناك واتفقنا مع صديق فلسطيني أكثر فدائية يعرف المكان وأحتفظ باسمه حماية له ولأسرته لاصطحابنا الي هناك.. تحركنا من مدينة غزة في الثامنة صباحاً فوصلنا بعد ساعة الي طريق ترابي يبعد عن قوات الاحتلال خمسة كيلومترات عنده توقف السائق ورفض التوغل أكثر!! قال لنا أن البالون الاسرائيلي الطائر فوق رؤوسنا يلتقط »دبة النملة« بالصوت والصورة.. ولن يغامر بالتقدم فإذا تخطينا مكاننا سنتفحم بصاروخ يأتينا من خلف الجدار!! نظرنا فوقنا فشاهدنا بالون أبيض كبير لا يبرح مكانه أبداً يرصد كل صغيرة وكبيرة علي الأرض وفي السماء. ترجلنا من السيارة فبدا الجدار الشاهق علي البعد كأنه ثعبان أبيض يتلوي بين سهول فلسطين فقصدنا الطريق إليه ودخلنا في منطقة أحراش ومشينا عشر دقائق لنخرج من الناحية المقابلة علي صوت مزارع فلسطيني يحرث أرضه هو وشقيقه الأصغر. سألناه ألا تخاف من رصاص القنص؟! أجاب ودموع الفرح تتراقص في عينيه: اسمي أبو حامد الحسيني عدت لأرضي صباح اليوم فقط بعد فراق دام 21 عاماً وبالتحديد منذ عام 0002 عندما بدأت انتفاضة الأقصي فقامت قوات الاحتلال بالتوغل في أرضي وجرفت أشجار الزيتون النادرة التي يزيد عمرها عن 001 عام وفرضت علينا منطقة عازلة عرضها 3 كيلومترات بطول قطاع غزة من هنا في الشمال عند بيت حانون وحتي الجنوب عند رفح الفلسطينية. يتدخل شقيقه ابراهيم قائلا: ثم أقامت قوات الاحتلال سلكاً شائكاً داخل المنطقة العازلة تتم كهربته أحياناً لمنع أي محاولة لاختراقه، ثم أقامت بعده الجدار العازل وثبتت البالون بكل كاميراته فوق رؤوسنا لكننا لا نخاف كل ذلك وهذا الصباح تركنا وصية لأهلنا إذا قتلنا ولم نعد ان يواصلوا حرث الأرض وزراعة القمح والشعير!! كان الشقيقان يعملان في الارض تحيطهما بقايا لفات الأسلاك الشائكة ولاحظنا فعلاً ان هذه الارض مباركة لقربها جدا من المسجد الأقصي فلا يفصلنا هنا عن الضفة الغربية ومن ثم القدس سوي كيلومترات قليلة، هذه أرض شديدة الخصوبة يلمع حصاها ببريق غريب تختلط فيها حبيبات الرمل والطين وتنبت شجيرات الفواكه والخضروات والمحاصيل بمجرد أن تلمس بذورها مياه المطر أو خراطيم الري بالتنقيط من الأبار القريبة!! في بيت حانون قال لنا صاحبنا الفلسطيني (م.أ.م): تتركز الزراعة في غزة بالمناطق الشمالية والشرقية ومساحتها حوالي 03 ألف دونم (والدونم أقل من ربع مساحة الفدان بقليل) والمنطقة التي نقف بها الآن في بيت حانون أقصي شمال القطاع تشتهر بالزيتون والفواكة والخضراوات والورود. هنا أدركت لماذا كان نصيب المنطقة ألف قذيفة من بين ألف و006 قذيفة أطلقتها اسرائيل علي غزة خلال الحرب الأخيرة بخلاف الصواريخ في محاولة لتبوير الارض الطيبة وحرمان أهلها من الزراعة فالقذيفة الواحدة لا تقتل فقط كل ما تصل اليه شظاياها.. بل تترك في الأرض خرابا يمتد لسنوات طويلة في فجوات تصل أقطارها الي 005 متر كاملة!! في الطريق للجدار توغلنا أكثر الي طريق ترابي ضيق فرأينا الجدار أكثر وضوحاً وخلفه رأينا بوضوح مستعمرة إسرائيلية ينطلق من مداخنها دخان كثيف وأمامها أبراج يسكنها قناصة من قوات الاحتلال!! وجدنا أمامنا مزارع فلسطيني مسن يجمع حطباً من الأرض نادينا عليه ونحن نقترب فعرف أننا مصريون فقال مرحباً ومستغرباً من وجودنا في المكان مضيفا : أتابع كل أخبار مصر من الإذاعة وألتقط إذاعات فلسطين ومصر والأردن وإسرائيل من هنا وأميز بينها جيداً ، هنا استشعرت أكثر أهمية الإذاعات الموجهة باللهجة المصرية الي المناطق المهمة من العالم. قال: اسمي حسن محمد أبو عرب عمري 57 سنة وأعيش في المنطقة من 06 سنة رغم جذوري البدوية من صحراء النقب عايشت خلالها سنوات ما قبل الاحتلال التي كانت أكثر أيام حياتي سعادة ومرت بعدها أحداث كثيرة الي ان جاءت الانتفاضة عام 0002 وأعقبتها الجرافات وأجبرونا علي النزوح من هنا بعد ان أسقطوا علينا منشورات من الطائرات تحذرنا من البقاء في الأرض والا تعرضنا لقصف الطائرات!! وفجأة.. يقف أبو عرب شامخاً في الأرض رغم سنوات عمره الطويلة وهو يشير الي المستوطنة قائلاً: هي مستعمرة إيريز التي بنيت بعد النكسة بعام واحد أي في سنة 8691 وكنت وقتها ما أزال شاباً وعلي اسمها سمي المعبد القريب من هنا. فجوة بالسلك الشائك بعد كلام الشيخ، نقلت لصديقي الفلسطيني (م.أ.م) رغبتي في الذهاب الي السور والي معبر إيريز فأجاب ان مجرد الاقتراب من الجدار خطر داهم والبالون فوقنا يصورنا الآن بوضوح شديد ومن المؤكد انهم الآن يراقبوننا ويحللون من نحن وماذا نفعل؟! أما الدخول الي المعبر فهو الجنون نفسه فلا أحد يستطيع الوصول الي هناك الا بتصريح خاص فهو المعبر المخصص فقط لعبور الدبلوماسيين والصحفيين الأجانب القادمين والذاهبين الي اسرائيل واجراءاته الأمنية معقدة. تدخل عم حسن أبو عرب وقال: أستطيع إصطحابكم للسلك الشائك لكن تجاوزه يعني إطلاق الرصاص الحي علينا أما المعبر فأنا أعرف طريقاً خلفيا يؤدي اليه مباشرة بين مزارع الزيتون التي نمت بعد التجريف.. إتجهنا فوراً الي السلك الشائك للوصول الي الجدار العازل إكتشفنا فجوة فيه ما ان عبرناها الا وسمعنا الرصاص الحي يصرخ فوق رءوسنا فقد التقطنا القناصة وشاهدونا.. رقدنا علي الأرض الي ان هدأ إطلاق النار وعدنا أدراجنا خلف السلك الشائك واستطاع عم حسن أبو عرب التسلل بنا للطريق الخلفي فمشينا عشر دقائق الي ان وصلنا لطريق آخر جانبي يؤدي لمعبر إيريز . طريق ملتوي قبل المعبر مباشرة رأينا أسرة صغيرة تجلس في ظل الزيتون جاء الينا رب الاسرة قال إنه أيمن العثامنة ومعه أحمد ابن عمه صاحب الارض التي يقف عليها ويقيم ببلدة بيت حانون القريبة.. قال أن أرضه كانت مزروعة تين وحمضيات ورمان وزيتون جرفها العدوان عام 0002 وقطع مواسير الري لكنه كان يتسلل لزراعتها طوال السنوات الماضية رغم خطورة ذلك وفي كل مرة كانوا يجرفونها الي ان جاءت التهدئة برعاية مصر وكان قد زرعها بالفعل قبل أسابيع الحرب بالخضراوات التي نمت الآن ويقوم بقطافها.. وأخبرنا انه سيعيد أشجار الزيتون في الموسم القادم وسيزرع الورود والفراولة لتصديرها الي أوروبا كما كان يفعل من قبل.. لكن لكي يتحقق ذلك.. لابد من إزالة شكاواه من مصاريف إعداد الارض وتكاليف الري وحفر الأبار التي ردمها الاحتلال أكثر من مرة ورفضت البنوك والمنظمات الاجنبية إقراضه بدعوي خطورة المكان.. ويتساءل: إذا لم يساعدوننا نحن الذين نعيش في وجه المدفع أمام الاحتلال فمن يساعدون؟! تركت الرجل وأنا أفكر في نفس السؤال ثم توجهنا نحن الأربعة أنا وزميلي عبد الهادي كامل مصور أخبار اليوم وصديقنا الفلسطيني (م.أ.م) وعم حسن أبو عرب الي معبر إيرز.. وبعد طريق قصير ملتو وجدنا أنفسنا فجأة داخل المعبر وقد تخطينا الحواجز ورأينا نقاط حرس الحدود الاسرائيلي أمامنا والفلسطيني خلفنا ونحن نقف علي الممر المؤدي للأرض المحتلة فأخذنا في التقاط الصور سريعاً من داخله قبل أن يلتفت أحد لوجودنا!! نجاح المغامرة كان اللافت وجود لافتة كبيرة علي سور المعبر المؤدي للأرض المحتلة مكتوب عليها بالعربية إرشادات العبور: ممنوع إصطحاب التوابل والذعتر والحلبة وعدة أشياء أخري.. علمنا بعدها ان ذلك بسبب إجراءات الأمن!! فما علاقة كل ذلك بالأمن؟!! أخرجني من تفكيري شاب فلسطيني كان ينتظر في المكان.. قال اسمه عائد زيادة 82 سنة من معسكر جباليا وانه كان مسجوناً في اسرائيل لمدة 21 سنة بتهمة الاشتراك في الانتفاضة لكنه خرج من السجن في صفقة تبادل الاسري مع شاليط بجهد مصري. قطع حديثنا وصول سيارة جيب مسرعة قادمة من الجانب الفلسطيني للتعرف علي شخصياتنا وكيف وصلنا الي المكان ولماذا؟! وإجراء تحقيق سريع عن هويتنا؟! للحظات توقعنا الخطر وأننا دخلنا أماكن محظور دخولها الا بتصاريح خاصة وبدأت إتصالات تدور باللاسلكي بعد ان عرفوا من نحن ولماذا أتينا؟ تحسست جواز السفر في جيبي وخطاب موقع من رئيس التحرير وعليه ختم رئيس مجلس الادارة يشرح مهمتنا في غزة لمن يهمه الامر فشعرت بالاطمئنان خاصة مع المعاملة الطيبة التي وجدناها من رجال المقاومة. جاء الضابط بعد دقائق وطلب منا الركوب معه في السيارة وعاد بنا خارج المعبر علي الطريق الرئيسي قبل نقاط التفتيش وطلب منا العودة للمدينة. تنفسنا الصعداء وعدنا الي غزة كان الغروب يطفئ نور النهار ويسدل الليل ظلامه ونحن لانصدق ان مغامرتنا تمت بنجاح وأننا مازلنا أحياء وصوت الرصاص مازال يتردد في أسماعنا.. وفوق رؤسنا!!