لعلها واحدة من المرات القلائل التي أشارك فيها في لقاءات استثمارية خالية من »الدسم« الحكومي.. لا وزير ولا خفير نظامي! لم يكن هناك وقت لكلمات افتتاحية من الوزير أو المسئول الحكومي، فمثل هذه اللقاءات لا تتحمل ضياع وقت رجال الأعمال في قصائد حكومية عصماء لا تغني ولا تسمن من جوع! أتحدث عن اللقاءات التي نظمتها المجموعة المالية »هيرمس« بالعاصمة البريطانية لندن مؤخراً واستدعت إليها 021 مستثمراً دولياً يمثلون 77 مؤسسة استثمارية كبري من دول الاتحاد الأوروبي وجنوب افريقيا والمملكة المتحدة ومجلس التعاون الخليجي وأمريكا.. والهدف: لقاءات »وجهاً لوجه« مع ممثلي الإدارة التنفيذية لأبرز 13 شركة مصرية وعربية مقيدة في أسواق المال بالشرق الأوسط وشمال افريقيا.. هؤلاء يبلغ رأس المال السوقي لشركاتهم قرابة 88 مليار دولار باعتبارها مؤسسات استثمارية كبري جاءت من مصر والإمارات وقطر والسعودية والكويت ولبنان وفلسطين والمغرب والأردن. يوم العمل يبدأ في السابعة صباحاً ولا ينتهي إلا عند العودة إلي غرف النوم بعد منتصف الليل.. من أول دقيقة بدأت المواجهات المباشرة.. كلٌ يتحدث عن ليلاه بحثاً عن فرص استثمار بعيداً عن كلمات الوزراء خلال المؤتمرات إياها التي ينتاب المشاركون فيها كل أنواع الملل، والبعض منهم يتثاءب بينما الآخرون يضطرون إلي الإمساك بالتليفون المحمول تاركاً قاعة المؤتمر بحجة الرد علي مكالمة »وهمية« أو حتي حقيقية، هروباً من أقوال تتكرر وتحاول إقناع الجميع بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان! هنا في لندن عرض المصريون »بضاعة حاضرة« بلغة الأسواق تتمثل في منتجات شركاتهم الكبري ونشاطها في محاولة لجذب أكبر قدر من الاستثمارات المالية للمزيد من التوسعات أو المشروعات الجديدة أو شراء أسهم تلك الشركات التي تتداول أسهمها ببورصة الأوراق المالية. حدث ذلك في إطار مغامرة محسوبة بدقة وفي محاولة جادة لإصلاح »مزاج« المستثمرين العرب والأجانب والمصريين أيضاً والذي انتابته مؤخراً حالة من القلق وعدم اليقين! هناك حالة لا يمكن إنكارها من الترقب انتظاراً لوضوح صورة الأوضاع السياسية والاقتصادية في مصر.. ولعل أهم ما أصاب المستثمرين بكل جنسياتهم بالهلع ما حدث مؤخراً من أحكام قضائية تقضي بإلغاء عقود بعض الشركات الخاصة والأجنبية بينها وبين الحكومة.. هم لا يجادلون في أحكام القضاء لكنهم يسألون: وماذا بعد.. وكيف تحل الحكومة المصرية هذه المشاكل الكبري؟ وهم أيضاً يتساءلون: هل يمكن أن يحدث ذلك مرة أخري..؟! شركات مصرية كبري مثل المجموعة المالية »هيرمس« والقلعة وجهينة للصناعات الغذائية ومدينة نصر للإسكان والتعمير والمصرية للمنتجعات السياحية والسويدي وأوراسكوم للإنشاءات والصناعة والنساجون الشرقيون والبنك التجاري الدولي وتيليكوم إيجيبت وعامر جروب ومجموعة طلعت مصطفي وغبور. هؤلاء وهؤلاء.. التقوا وجهاً لوجه مع نظرائهم من 8 دول عربية و021 من المستثمرين الدوليين يمثلون 77 مؤسسة استثمارية كبري في أنحاء العالم. ما حدث بلا شك محاولة جريئة ومحسوبة لاقتناص الفرص وسط نيران القلق والترقب التي تنتاب المستثمرين بسبب الأوضاع التي تمر بها مصر والمنطقة.. هذه الأوضاع فرضت علي الجميع النظر إلي الغد وما بعد الغد لعلاج ما حدث بالأمس وأمس الأول! ومن هنا جاءت محاولات الإغراء للاستثمار بمصر.. لقد كان المشهد في لندن علي مدي يومين محاولة مصرية لاستعراض »العضلات الاستثمارية« داخل عرين أصحاب المليارات. وبشكل حاسم يمكن القول إن سر علاج الأزمات الراهنة وإصلاح مزاج المستثمرين يكمن في إعادة الثقة لهؤلاء الذين يستثمرون أموالهم وليس أموال غيرهم..وقبل ذلك الثقة والمصداقية والشفافية والاحتراف ولا شيء غير ذلك! وقبل الدخول إلي ما قاله المستثمرون الأجانب وما قيل لهم لابد من الإشارة إلي أن قرارات أي مستثمر لا يتخدها عقب أي لقاء يعقده مع نظير له، بل يقرر الاستثمار من عدمه بعد »هات وخد« ودراسات والمهم هو الاقتناع بالسوق الذي يضع فيه أمواله! ولعل البداية مع أحد المتفائلين علي المستوي الشخصي وأحد أكبر الواثقين في قدرة مصر علي جذب الاستثمارات مهما حدث، هو المهندس صفوان ثابت رئيس مجلس إدارة شركة جهينة للصناعات الغذائية الذي عقد خلال مؤتمر لندن نحو 06 لقاءً مع مستثمرين 09٪ منهم أجانب حيث استمع جيداً لما يطرحونه من تساؤلات بشأن الأوضاع في مصر. وهو في هذا الصدد يدرك تماماً رغبة هؤلاء في الاستثمار بمصر من خلال شركاء مصريين لكونهم الأدري بإجراءات ومناخ الاستثمار بمصر وكيفية التعامل مع هذا المناخ، أي »أدري بشعاب مكة«. قال صفوان ثابت إن الحكومة لابد أن تدرك تلك الحقيقة جيداً ولذا عليها أن تمنح الأولوية للمستثمر المصري وتحل مشاكله، وأضاف أن الأجنبي لا يرغب في الاستثمار بمفرده، مشيرا إلي أن مصر مازالت من أهم الدول الجاذبة للاستثمار بشكل غير تقليدي وسوف تظل هكذا بحكم تاريخها وعدد سكانها وتراثها وموقعها بجانب ثورتها محل الفخر والتقدير من الجميع لكونها ثورة بيضاء بخلاف بعض ثورات الربيع العربي في دول مثل سوريا!. وأسأله: ماذا يريد المستثمرون الأجانب؟ قال: هم في حالة انتظار لما يسفر عنه المشهد السياسي، وهنا لابد من التأكيد علي أن الفترة المقبلة حرجة انتظاراً لما تسفر عنه المعركة السياسية الدائرة حول الدستور وبعدها انتخابات مجلس الشعب. وماذا عن الأحكام القضائية التي صدرت مؤخراً؟ قال: البعض يعيش نوعا من القلق لا يصل إلي درجة الهلع أو الانزعاج، هم قلقون من الخطوات القادمة فقد كانت لديهم قناعة كبيرة بإعادة الأمور إلي طبيعتها عقب انتخابات مجلس الشعب السابق.. ولكن القلق عاد من جديد.. والمهم كما قال صفوان ثابت إن المحك هو الانتهاء من إعداد الدستور والجميع في انتظار ذلك.. رغم كون البعض لا يتمنون هذا! والأهم كما أضاف هو اقتناع الحكومة بأن المستثمر الأجنبي لن يأتي لمصر إلا بعد اقتناعه بأن المستثمر المصري لا يواجه أية مشاكل، مؤكداً أنه لن يبني مصر سوي المصريين.. وقال : إن لم يكن المستثمر ابن البلد لا يستطيع حل مشاكله فالأجنبي لن يأتي.. وهذا أمر طبيعي وحقيقة علي الحكومة إدراكها جيداً! وسؤال لمسئول آخر: كيف يري المستثمرون الأجانب الأوضاع بمصر وما التساؤلات التي طرحوها وماذا قيل لهم؟ يجيب محمد عبيد رئيس قطاع الوساطة والعضو المنتدب للمجموعة المالية »هيرمس«: هم يريدون التعرف علي الحقائق مجردة، يريدون سماع وجهات نظر المستثمرين المصريين باعتبارهم »عيوناً« تري الأوضاع علي حقيقتها بمصر خاصة أوضاع السوق. هم باختصار يريدون الثقة حتي يأتوا »بقلب جامد« للاستثمار ويريدون شفافية وتوقيتاً واضحاً لحل المشاكل المعلقة منذ فترة طويلة. وماذا قلتم لهم؟ قال: رغم المشاكل الحالية فإن المهمة لم تكن شاقة بالقدر الكبير فسوق المال بمصر شهد ارتفاعاً ملحوظاً خلال الأسابيع الماضية، هذا بجانب كون الشركات المصرية أسست قطاعات لعلاقات المستثمرين وهي في ذلك تعتبر من أوائل الشركات بالمنطقة التي تطبق هذه النظم وذلك لتوفير سبل الاتصال والحوار مع المستثمرين الأجانب، وعلي جانب آخر فإن الظروف السياسية حالياً أفضل من العام الماضي من حيث انتخاب الرئيس ووجود حكومة ودستور علي الأبواب وكذلك مجلس شعب قريباً. ولكن يضيف محمد عبيد فإنه رغم ذلك فإن أكبر مشكلة تؤرق المستثمر الأجنبي تتمثل في الأخبار السلبية والأحكام القضائية التي أصابت الجميع بالهلع! وقال: إن الفترة المقبلة حرجة فالمستثمر أي مستثمر ينتظر من الحكومة كيف ستتعامل مع المشاكل المعلقة.. وهنا الأمر يحتم خطة واضحة وآلية للتعامل مع مثل تلك القضايا العاجلة. وأسأل: لماذا لا ينظر إلي الأحكام القضائية التي ألغت بعض عقود الشركات وعمليات بيعها للقطاع الخاص باعتبارها نوعاً من أنواع محاربة الفساد التي شابت هذه العقود وهو ما يمكن أن يطمئن المستثمر علي العمل في مناخ صحي؟! قال محمد عبيد: المهم هو الشفافية وتوقيت محدد لحل المشاكل، وأضاف أن الاستثمار بالبورصة يعتبر مرآة للاستثمار المباشر ومن ثم لابد من المحافظة علي الشفافية في السوق.. وبدون ذلك الجميع ينتابهم الخوف! وقال إن المستثمرين أصبحوا يتساءلون عن أوضاع رخص الأراضي خاصة بالنسبة للمستثمرين العقاريين.. إذن القضية ليست مع أو ضد الأحكام القضائية فلا أحد يستطيع التعقيب عليها ولكن المهم وجود توقيت لحل المشاكل من جانب الحكومة. وفي ذات السياق يؤكد وائل زيادة رئيس قطاع البحوث بالمجموعة المالية »هيرمس« أن التساؤلات والتحفظات لدي العديد من المستثمرين تتركز حول الشركات التي تستخدم موارد الدولة مثل الغاز أو البترول أو الأراضي، فالغموض يسيطر علي هؤلاء ويبحثون عن الشفافية وطريقة التعامل مع تلك الأوضاع. هذا الغموض يخلق نوعاً من القلق. وقال زيادة إن مفتاح القضية من أساسها لدي الحكومة. وأضاف: صحيح ان الحكومة لا تتحكم في كم ونوع القضايا ضد الشركات فهي جهة تنفيذية وليست قضائية، ولكن عليها دور يتمثل في إعداد تقارير للجهات المختصة توضح فيها الضرر الذي يلحق بالاقتصاد نتيجة مثل هذه الأنواع من القضايا. وهنا الأمر يحتم وجود آلية للتعامل مع كل هذه الأوضاع ونفس الشيء بالنسبة للتعامل الإعلامي مع القضايا إياها حتي يمكن خلق مناخ استثماري مناسب. ولخص زيادة رأيه بالقول إن عدم الشفافية يسحب المستثمر إلي كل أنواع الغموض! وأشار إلي ضرورة ابتعاد المسئولين عن التصريحات شديدة اللهجة خاصة المتعلقة بالأمور الاقتصادية.. وقال: صحيح إنها تصريحات قد يكون لها أثر شعبي لكن آثارها الأخري مخيفة للمستثمرين! نفس الأمر يؤكده أبو بكر مخلوف رئيس قطاع علاقات المستثمرين بالشركة المصرية للمنتجعات السياحية مشيراً إلي أهمية دور الحكومة في هذا الشأن وهو الدور الذي ينتظره الجميع. وقال: صحيح هناك حالة ارتياح من تأكيد الحكومة علي أهمية السياحة لكن ذلك لا يكفي فالسياحة تحتاج إلي مشروعات ومستثمرين جدد.. وقبل هذا وذاك حل المشاكل الحالية.. وأضاف: ليس المهم جذب استثمارات فقط، بل خلق طلب علي السياحة. وقال مخلوف: إن الحكومة ليس أمامها سوي حل المشاكل المعلقة مع المستثمرين.. والمخطئ يحاسب والجاد يلقي الرعاية.. ولا يجب ترك الأمور »عائمة«! ومن جانبه يؤكد صلاح قطامش مدير عام إدارة علاقات المستثمرين بشركة مدينة نصر للإسكان والتعمير أهمية عودة الاستقرار إلي مصر. وقال إن كل المستثمرين الأجانب والعرب الذين التقي بهم ينتظرون تحقيق ذلك. وأضاف مشيراً إلي ضرورة حل المشاكل المعلقة بأسلوب ودي بعيداً عن المحاكم التي تصيب المستثمرين بالتخوف والقلق وبعيداً عن الاحتجاجات والإضرابات أيضاً!. ومن جانبه أشار هيثم عبدالمنعم مدير إدارة علاقات المستثمرين بشركة النساجون الشرقيون إلي أن أكثر ما يقلق المستثمرين هو عدم الوضوح، وقال إن عدداً كبيراً من هؤلاء طرحوا تساؤلات عديدة بشأن أوضاع العملة المحلية »الجنيه المصري«.. وكذا أسعار الضرائب وهل سترتفع أم لا؟! وأضاف أن المستثمرين لا يريدون سماع كلمات المسئولين من عينة »كله تمام« و»الاستثمار آمن«! ثم يفاجأون بقرارات وأحكام قضائية ضد شركات استثمارية ما! وقال: لابد من توجه واضح وشفافية.. وأضاف قائلاً: لا يمكن أن يستمع مستثمر ما إلي كلام مسئول حكومي في يوم.. وفي اليوم التالي يسمع عكسه! وأشار إلي أهمية أن تدرك الحكومة عواقب »تطفيش« المستثمرين!.. والأمر يحتم احترام العقود. هذا وقد جاءت كلمات كريم عوض العضو المنتدب ورئيس قطاع بنوك الاستثمار بالمجموعة المالية »هيرمس« لتؤكد مدي اقتناع رجال الأعمال العرب والأجانب بالاستثمار في مصر وذلك علي المستويين المتوسط والبعيد مشيراً إلي أن مصر تملك كل مقومات الاستثمار فاقتصادها متنوع وسوقها كبير ومواردها متوافرة بمعني أن كل الفرص متاحة، لكن هؤلاء المستثمرين يرون الأوضاع بمصر كل يوم تختلف عن الآخر، وهذا من شأنه إصابتهم بالتردد ومن ثم يكون قرار الاستثمار صعباً.. المستثمر يريد أن يعرف »رأسه من قدمه«! وأضاف قائلاً: إن مصر من أفضل الأسواق بالمنطقة والدليل أنه في حالة الاستقرار يأتي إليها المستثمرون من كل اتجاه. وبعد.. لقد كانت تلك عينة من أقوال مسئولين كبار بشركات مصرية.. بعضها متفائل إلي أبعد الحدود، والآخر متخوف والثالث يرتدي نظارة سوداء.. وآخر »متشائل«.. لا هو متفائل ولا متشائم.. ولعل تلك الأقوال تضع الصورة أمام صاحب القرار حتي يأتي قراره سريعاً وحاسماً.. وقبل فوات الأوان!