قبل أيام، فجر انتحاري نفسه أمام مقر قيادة حلف الاطلنطي بالعاصمة الافغانية كابول .. أثبتت التحقيقات أن الانتحاري، الذي قتل وتمزقت جثته في الانفجار، مجرد فتي في الرابعة عشرة من العمر وأن معظم القتلي والمصابين كانوا من الأطفال الصغار الذين يبيعون بعض السلع الرخيصة أمام بوابة قاعدة " كامب إيجرز" العسكرية التي شهدت التفجير الانتحاري. وأعلن ذبيح الله مجاهد المتحدث باسم حركة طالبان مسئولية جماعته عن هذا الهجوم. لم تكن هذه هي المرة الأولي التي يستغل فيها المتطرفون الأطفال كشحنات ناسفة بشرية كغيرهم من الإنتحاريين الذين تعرضوا لعملية غسيل مخ أقنعتهم بأنهم يموتون لكي يتحرر الوطن ! ولكن، هل كان من الأفضل للوطن أن يعيش هؤلاء الأطفال و يتعلمون ويناضلون بالطرق السلمية من أجل استقلال بلادهم أم أن الطريق الي الحرية لابد أن يكون من خلال بحور الدم وتمزيق الأجساد إلي أشلاء وقتل ضحايا أبرياء لاذنب لهم و لا جريرة، خاصة عندما لا يكون هناك اي تناسب بين القوة والمقاومة؟ لقد كان من أبرز الهتافات التي رددها المصريون خلال ثورة 1919 شعارات مثل نموت نموت و يحيا الوطن .. و الاستقلال التام أو الموت الزؤام. ولا شك انه شيء رائع أن يقدم الإنسان حياته من أجل أن يعيش الوطن ولكن هل هناك أي تناقض بين أن يعيش المواطن وفي نفس الوقت يحيا الوطن ؟! الزعيم الهندي الخالد غاندي قدم للشعوب نموذجا آخر للنضال ضد الاستعمار دونما حاجة لأن يموت المواطن أو يهلك. استطاع غاندي أن يحرر الهند من الاستعمار البريطاني العتيد بالمقاومة السلمية والمقاطعة والعصيان المدني ومظاهرات الاحتجاج التي أيقظت ضمير العالم ضد الإمبراطورية البريطانية حتي حصلت بلاده علي استقلالها دون حاجة لعمليات انتحارية أو استشهاديين يخسرهم الوطن ويتيحون الفرصة لأعدائهم لدمغهم بالتطرف والإرهاب. وعندما قرر الرئيس المصري الراحل أنور السادات أن يبدأ مبادرته السلمية لتحرير الأرض بعد حرب أكتوبر المجيدة قال أنه مستعد لأن يذهب الي آخر العالم من أجل أن يوفر نقطة دم يفقدها جندي مصري خلال الحروب و المعارك ضد المحتل الإسرائيلي الغاصب مادامت هناك فرصة لتحقيق هذا الهدف بطرق أخري. وأستوعب العالم جيدا هذا المغزي الإنساني في رؤية السادات. القضية باختصار، ليست هي الاختيار بين الموت و الحرية بقدر ماهي السعي من أجل الحياة و الحرية معا .وبمعني آخر أن يكون شعار الشعوب وهي تناضل من أجل استقلالها هو نعيش .. نعيش ويحيا الوطن ... لا يعني ذلك أبدا التقاعس عن التضحية بالحياة من أجل الوطن والذي يبقي دائما خياراً أساسيا بشرط أن يكون هو الخيار الحتمي و الوحيد. وإذا كان التفسير الشائع لدوافع الانتحاريين هو تعرضهم لغسيل مخ أو سيطرة مفاهيم خاطئة أو متطرفة علي معتقداتهم، فإن المناخ العام أو معاناتهم علي المستوي الشخصي ربما يلعب دورا في إقناعهم بأن الحياة بلا قيمة وبالتالي يسهل عليهم التخلص منها لسبب أو لاخر. هذا المعني تؤكده إحصائية مهمة أصدرتها منظمة الصحة العالمية الإثنين الماضي تقدر عدد المنتحرين في العالم بمليون شخص سنويا أي أكثر من ضحايا الحروب وجرائم القتل !! تقرير المنظمة يقول إن عدد من حاولوا الانتحار في العام الماضي بلغ 20 مليون شخص وأن 5 في المائة من البشر يحاولون الانتحار مرة واحدة علي الأقل في حياتهم وأن هذا الوضع يتفاقم عاما بعد عام بنسبة وصلت الي 60 في المائة في بعض البلدان خلال السنوات الأخيرة، حتي أصبح الانتحار من أسباب الوفاة الرئيسية، وهو السبب الثاني لوفاة المراهقين بين 15و 19 سنة. معدلات الانتحار الأكبر، وفقا للتقرير، كانت في أوروبا الشرقية بينما هي الأقل في أمريكا الجنوبية وتحتل الولاياتالمتحدة وأوروبا موقعا متوسطا. أما في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا فلاتوجد إحصائيات ولكن الأرجح أن معدلات الإنتحار في الدول المتخلفة تأخذ شكلا وبائيا يوماً بعد يوم! باختصار ,ولأسباب عديدة، يبدو أن الحياة تتزايد صعوبتها يوما بعد يوم في كل مكان لدرجة ربما تجعل التعريف العلمي للإنسان بعد سنوات قليلة أنه مخلوق انتحاري!!